صفحة جزء
[ ص: 214 ] وهذه ترجمة المأمون

هو عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، القرشي الهاشمي العباسي ، أبو جعفر ، أمير المؤمنين . وأمه أم ولد اسمها مراجل الباذغيسية ، وكان مولده في ربيع الأول سنة سبعين ومائة ليلة توفي عمه الهادي ، وولي أبوه هارون الرشيد وكان ذلك ليلة الجمعة كما تقدم

قال ابن عساكر : روى الحديث عن أبيه ، وهشيم بن بشر ، وأبي معاوية الضرير ، ويوسف بن عطية ، وعباد بن العوام ، وإسماعيل بن علية ، وحجاج بن محمد الأعور .

[ ص: 215 ] وروى عنه أبو حذيفة إسحاق بن بشر وهو أسن منه ويحيى بن أكثم القاضي ، وابنه الفضل بن المأمون ، ومعمر بن شبيب ، وأبو يوسف القاضي ، وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي ، وأحمد بن الحارث الشيعي ، واليزيدي ، وعمرو بن مسعدة ، وعبد الله بن طاهر بن الحسين ، ومحمد بن إبراهيم السلمي ، ودعبل بن علي الخزاعي .

قال : وقدم دمشق دفعات ، وأقام بها مدة .

ثم روى ابن عساكر من طريق أبي القاسم البغوي ، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي قال : سمعت المأمون في الشماسية ، وقد أجرى الحلبة ، فجعل ينظر إلى كثرة الناس ، فقال ليحيى بن أكثم : أما ترى كثرة الناس ؟ ثم قال : حدثنا يوسف بن عطية ، عن ثابت ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله [ ص: 216 ] ومن حديث أبي بكر الميانجي ، عن الحسين بن أحمد المالكي ، عن يحيى بن أكثم القاضي ، عن المأمون عن هشيم ، عن منصور ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الحياء من الإيمان .

ومن حديث جعفر بن أبي عثمان الطيالسي أنه صلى العصر يوم عرفة خلف المأمون بالرصافة ، فلما سلم كبر الناس ، فجعل يقول : لا يا غوغاء ، لا يا غوغاء ، عدا سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم . فلما كان الغد صعد المنبر فكبر ، ثم قال : أنبأ هشيم بن بشير ، ثنا ابن شبرمة عن الشعبي ، عن البراء بن عازب عن أبي بردة بن نيار قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم قدمه لأهله ، ومن ذبح بعد أن يصلي فقد أصاب السنة الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، اللهم أصلحني ، واستصلحني ، وأصلح على يدي .

[ ص: 217 ] تولى المأمون الخلافة في المحرم لخمس بقين منه بعد مقتل أخيه سنة ثمان وتسعين ومائة ، واستمر في الخلافة عشرين سنة وخمسة أشهر . وقد كان فيه تشيع واعتزال ، وجهل بالسنة الصحيحة ، وقد بايع في سنة إحدى ومائتين بولاية العهد من بعده لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب ، وخلع السواد ولبس الخضرة كما قدمنا ، فأعظم ذلك العباسيون من البغاددة ، وغيرهم ، وخلعوا المأمون وولوا عليهم إبراهيم بن المهدي كما تقدم ثم ظفر المأمون بهم ، واستقام أمره في الخلافة ، وذلك بعد موت علي الرضا بطوس ، وعفا عن عمه إبراهيم بن المهدي كما تقدم بسط ذلك في موضعه .

أما كونه على مذهب الاعتزال ؛ فإنه اجتمع بجماعة ؛ منهم بشر بن غياث المريسي ، فأخذ عنهم هذا المذهب الباطل ، وكان يحب العلم ، ولم يكن له بصيرة نافذة فيه ، فدخل عليه بسبب ذلك الداخل ، وراج عنده [ ص: 218 ] الباطل ، ودعا إليه وحمل الناس قهرا عليه ، وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : كان المأمون أبيض ربعة حسن الوجه ، قد وخطه الشيب تعلوه صفرة ، أعين طويل اللحية رقيقها ، ضيق الجبين ، على خده خال . أمه أم ولد يقال لها : مراجل .

وروى الخطيب البغدادي عن القاسم بن محمد بن عباد ، قال : لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء غير عثمان بن عفان والمأمون .

وهذا غريب جدا . قالوا : كان يتلو في شهر رمضان ثلاثا وثلاثين ختمة .

وجلس يوما لإملاء الحديث ، فاجتمع حوله القاضي يحيى بن أكثم وجماعة ، فأملى عليهم من حفظه ثلاثين حديثا ، وكانت له بصيرة بعلوم متعددة ؛ من فقه ، وطب ، وشعر ، وفرائض ، وكلام ، ونحو ، وعربية ، [ ص: 219 ] وغريب ، وعلم النجوم ، وإليه ينسب الزيج المأموني ، وقد اختبر مقدار الدرجة في وطأة سنجار فاختلف عمله وعمل الأوائل من القدماء .

وروى ابن عساكر أن المأمون جلس يوما للناس ، وفي مجلسه العلماء والأمراء ، فجاءت امرأة تتظلم إليه ، فذكرت أن أخاها توفي ، وترك ستمائة دينار ، فلم يحصل لها سوى دينار واحد . فقال لها على البديهة : قد وصل إليك حقك ، كأن أخاك قد ترك بنتين ، وأما ، وزوجة ، واثني عشر أخا ، وأختا وهي أنت . قالت : نعم يا أمير المؤمنين . فقال : للبنتين الثلثان أربعمائة دينار ، وللأم السدس مائة دينار ، وللزوجة الثمن خمسة وسبعون دينارا ، يبقى خمسة وعشرون دينارا ؛ لكل أخ ديناران ، ولك دينار . فعجب الناس من فطنته وسرعة جوابه . وقد رويت هذه الحكاية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

ودخل بعض الشعراء على المأمون وقد قال فيه بيتا من الشعر يراه [ ص: 220 ] عظيما ، فلما أنشده إياه لم يقع منه هذا البيت موقعا طائلا ، فخرج من عنده ، فلقيه شاعر آخر ، فقال : ألا أعجبك ؟ أنشدت المأمون هذا البيت فلم يرفع به رأسا . فقال : وما هو ؟ قال : قلت فيه :


أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا بالدين والناس بالدنيا مشاغيل

فقال له ذلك الشاعر الآخر : ما زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها ، فهلا قلت كما قال جرير في عبد العزيز بن الوليد :


فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه     ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

وقال المأمون يوما لبعض جلسائه : بيتان لاثنين ما لحقهما أحد ؛ قول أبي نواس :


إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت     له عن عدو في لباس صديق

وقول شريح

تهون على الدنيا الملامة إنه     حريص على استصلاحها من يلومها

قال المأمون : وقد ألجأني الزحام يوما وأنا في الموكب حتى خالطت [ ص: 221 ] السوقة ، فرأيت رجلا في دكان عليه أثواب خلقة ، فنظر إلي نظر من يرحمني أو يتعجب من أمري ، فقال :


أرى كل مغرور تمنيه نفسه     إذا ما مضى عام سلامة قابل

وقال يحيى بن أكثم سمعت المأمون يوم عيد خطب الناس فحمد الله ، وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : عباد الله ، عظم أمر الدارين ، وارتفع جزاء العاملين ، وطالت مدة الفريقين ، فوالله إنه للجد لا اللعب ، وإنه للحق لا الكذب ، وما هو إلا الموت ، والبعث والحساب ، والفصل والصراط ، ثم العقاب والثواب ، فمن نجا يومئذ فقد فاز ، ومن هوى يومئذ فقد خاب ، الخير كله في الجنة ، والشر كله في النار .

وروى ابن عساكر من طريق النضر بن شميل قال : دخلت على المأمون فقال : كيف أصبحت يا نضر ؟ قلت : بخير يا أمير المؤمنين . فقال : ما الإرجاء ؟ فقلت : دين يوافق الملوك ، يصيبون به من دنياهم ، وينقصون من دينهم . قال : صدقت . ثم قال : يا نضر ، أتدري ما قلت في صبيحة هذا اليوم ؟ قلت : [ ص: 222 ] أنى لي بعلم الغيب ؟ فقال : قلت :


أصبح ديني الذي أدين به     ولست منه الغداة معتذرا
حب علي بعد النبي ولا     أشتم صديقا ولا عمرا
ثم ابن عفان في الجنان مع ال     أبرار ذلك القتيل مصطبرا
لا ولا أشتم الزبير ولا     طلحة إن قال قائل غدرا
وعائش الأم لست أشتمها     من يفتريها فنحن منه برا

وهذا المذهب ثاني مراتب التشيع ، وفيه تفضيل علي على عثمان . وقد قال بعض السلف والدارقطني : من فضل عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ، يعني في اجتهادهم ثلاثة أيام ، ثم اتفقوا على تقديم عثمان على علي بعد مقتل عمر ، رضي الله عنهم . وبعد ذلك ست عشرة مرتبة في التشيع على ما ذكره صاحب كتاب " " البلاغ الأكبر والناموس الأعظم " " تنتهي إلى أكفر الكفر .

وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : [ ص: 223 ] لا أوتى بأحد فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري . وتواتر عنه أنه قال : خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، ثم عمر ثم عثمان .

فقد خالف المأمون بن الرشيد في مذهبه الصحابة كلهم ، حتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وقد أضاف المأمون إلى بدعته هذه التي أزرى فيها على المهاجرين والأنصار وخالفهم في ذلك ، البدعة الأخرى ، والطامة العظمى ، وهي القول بخلق القرآن مع ما فيه من الانهماك على تعاطي المسكر ، وغير ذلك من الأفعال التي تعدد فيها المنكر ، ولكن كان فيه شهامة عظيمة ، وقوة جسيمة وله همة في القتال ، وحصار الأعداء ، ومصابرة الروم ، وحصرهم في بلدانهم ، وقتل فرسانهم ، وأسر ذراريهم وولدانهم . وكان يقول : كان معاوية بعمره ، وعبد الملك بحجاجه ، وأنا بنفسي .

وكان يقصد العدل ، ويتولى بنفسه الحكم بين الناس والفصل ؛ جاءته امرأة ضعيفة فتظلمت على ابنه العباس وهو واقف على رأسه ، فأمر الحاجب [ ص: 224 ] فأخذه بيده فأجلسه معها بين يديه ، فادعت عليه أنه أخذ ضيعة لها واستحوذ عليها ، فتناظرا ساعة فجعل صوتها يعلو على صوته فزجرها بعض الحاضرين ، فقال له المأمون : اسكت فإن الحق أنطقها ، والباطل أسكته . ثم حكم لها بحقها وأغرم لها ولده بعشرة آلاف درهم ، وكتب إلى بعض الأمراء : ليس من المروءة أن يكون آنيتك من ذهب وفضة ، وغريمك عار ، وجارك طاو .

ووقف رجل بين يديه ، فقال له المأمون : والله لأقتلنك . فقال له : يا أمير المؤمنين ، تأن علي فإن الرفق نصف العفو . فقال : ويلك ويحك! قد حلفت لأقتلنك . فقال : يا أمير المؤمنين ، أن تلق الله حانثا خير من أن تلقاه قاتلا . فعفا عنه . وكان يقول : ليت أهل الجرائم يعرفون أن مذهبي العفو ، حتى يذهب الخوف عنهم ويدخل السرور إلى قلوبهم ، وركب يوما في حراقة فسمع ملاحا يقول لأصحابه : ترون هذا المأمون ينبل في عيني ، وقد قتل أخاه الأمين ؟ يقول ذلك ، وهو لا يشعر بمكان المأمون فجعل المأمون يتبسم ويقول : كيف ترون الحيلة حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل ؟

وحضر عند المأمون هدبة بن خالد ليتغدى عنده ، فلما رفعت المائدة جعل هدبة يلتقط ما تناثر منها ، فقال له المأمون : أما شبعت يا شيخ ؟ فقال بلى ، [ ص: 225 ] ولكن حدثني حماد بن سلمة عن ثابت ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أكل ما تحت مائدته أمن من الفقر قال : فأمر له المأمون بألف دينار .

وروى ابن عساكر أن المأمون قال يوما لمحمد بن عباد بن عباد بن المهلب : يا أبا عبد الله ، قد أعطيتك ألف ألف ، وألف ألف ، وألف ألف ، وأن عليك دينا . فقال : يا أمير المؤمنين ، إن منع الموجود سوء ظن بالمعبود . فقال : أحسنت يا أبا عبد الله ، أعطوه ألف ألف وألف ألف .

ولما أراد المأمون أن يدخل ببوران بنت الحسن بن سهل ، جعل الناس يهدون لأبيها الأشياء النفيسة ، وكان من جملة من يعتز به رجل من الأدباء ، فأهدى إليه مزودا فيه ملح طيب ، ومزودا فيه أشنان جيد ، وكتب إليه : إني كرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا أذكر فيها فوجهت إليك بالمبتدأ به ، ليمنه ، وبركته ، وبالمختوم به ، لطيبه ونظافته ، وكتب إليه :


بضاعتي تقصر عن همتي     وهمتي تقصر عن مالي
فالملح والأشنان يا سيدي     أحسن ما يهديه أمثالي

[ ص: 226 ] قال : فدخل بهما الحسن بن سهل على المأمون فأعجبه ذلك ، وأمر بالمزودين ففرغا ، وملئا دنانير ، وبعث بهما إلى ذلك الأديب .

وولد للمأمون ابنه جعفر فدخل عليه الناس يهنئونه بصنوف التهاني ، ودخل عليه بعض الشعراء ، فقال له يهنئه بولده :


مد لك الله الحياة مدا     حتى ترى ابنك هذا جدا
ثم يفدي مثل ما تفدى     كأنه أنت إذا تبدى
أشبه منك قامة وقدا     مؤزرا بمجده مردا

قال : فأمر له بعشرة آلاف درهم .

وقدم عليه ، وهو بدمشق مال جزيل بعد ما كان قد أفلس وشكى إلى أخيه المعتصم ذلك ، فوردت عليه خزائن من خراسان وبها ثلاثون ألف ألف درهم ، فخرج يستعرضها وقد زينت الجمال والأحمال ومعه يحيى بن أكثم القاضي ، فلما دخلت البلد ، قال : ليس من المروءة أن نحوز نحن هذا كله ، والناس ينظرون . ثم فرق منه أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب لم ينزل عن فرسه .

ومن لطيف شعره قوله :


لساني كتوم لأسراركم     ودمعي نموم لسري مذيع
[ ص: 227 ] فلولا دموعي كتمت الهوى     ولولا الهوى لم تكن لي دموع

وقد بعث خادما ليلة من الليالي ليأتيه بجارية ، فأطال الخادم عندها المكث ، وتمنعت الجارية من المجيء إليه حتى يأتي إليها المأمون بنفسه ، فأنشأ المأمون يقول :


بعثتك مشتاقا ففزت بنظرة     وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
وناجيت من أهوى وكنت مقربا     فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
ورددت طرفا في محاسن وجهها     ومتعت باستسماع نغمتها أذنا
أرى أثرا في صحن خدك لم يكن     لقد سرقت عيناك من حسنها حسنا

ولما ابتدع المأمون ما ابتدع من التشيع والاعتزال ، فرح بذلك بشر المريسي وكان بشر هذا شيخ المأمون فأنشأ المريسي يقول :


قد قال مأموننا وسيدنا     قولا له في الكتاب تصديق
إن عليا أعني أبا حسن     أفضل من أرقلت به النوق
[ ص: 228 ] بعد نبي الهدى وإن لنا     أعمالنا والقرآن مخلوق

فأجابه بعض الشعراء من أهل السنة ، فقال :


يا أيها الناس لا قول ولا عمل     لمن يقول كلام الله مخلوق
ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر     ولا النبي ولم يذكره صديق
ولم يقل ذاك إلا كل مبتدع     على الإله وعند الله زنديق
عمدا أراد به إمحاق دينكم     لأن دينهم والله ممحوق
أصح يا قوم عقلا من خليفتكم     يمسي ويصبح في الأغلال موثوق

وقد سأل بشر من المأمون أن يطلب قائل هذا فيؤدبه على ذلك ، فقال : ويحك! لو كان فقيها لأدبته ولكنه شاعر فلست أعرض له .

ولما تجهز المأمون للغزو في آخر سفرة سافرها إلى طرسوس استدعى بجارية كان يحبها ، وقد اشتراها في آخر عمره ، فضمها إليه ، فبكت الجارية وقالت : قتلتني يا أمير المؤمنين بسفرك هذا ، ثم أنشأت تقول :


سأدعو دعوة المضطر ربا     يثيب على الدعاء ويستجيب
[ ص: 229 ] لعل الله أن يكفيك حربا     ويجمعنا كما تهوى القلوب

فضمها إليه وأنشأ يقول متمثلا :


فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها     وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل
صبيحة قالت في العتاب قتلتني     وقتلي بما قالت هناك تحاول

ثم أمر مسرورا الخادم بالإحسان إليها والاحتفاظ عليها حتى يرجع ، ثم قال : نحن كما قال الأخطل :


قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم     دون النساء ولو باتت بأطهار

ثم ودعها وسار فمرضت الجارية في غيبته هذه ، ومات المأمون أيضا ، فلما جاء نعيه إليها تنفست الصعداء وحضرتها الوفاة ، وأنشأت تقول وهي في السياق :


إن الزمان سقانا من مرارته     بعد الحلاوة أنفاسا فأروانا
أبدى لنا تارة منه فأضحكنا     ثم انثنى تارة أخرى فأبكانا
إنا إلى الله فيما لا يزال بنا     من القضاء ومن تلوين دنيانا
دنيا تراها ترينا من تصرفها     ما لا يدوم مصافاة وأحزانا
ونحن فيها كأنا لا يزايلنا     للعيش أحياؤنا يبكون موتانا

[ ص: 230 ] وكانت وفاة المأمون بطرسوس في يوم الخميس وقت الظهر وقيل : بعد العصر لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين ، وله من العمر نحو من ثمان وأربعين سنة ، وكانت مدة خلافته عشرين سنة وأشهرا وصلى عليه أخوه المعتصم ؛ وهو ولي العهد من بعده ، ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم . وقيل : كانت وفاته يوم الثلاثاء . وقيل : يوم الأربعاء لثمان خلون من رجب من هذه السنة ، وقيل : إنه مات خارج طرسوس بأربع مراحل ، فحمل إليها فدفن بها . وقيل : إنه نقل بعد ذلك إلى أذنة في رمضان فدفن بها . والله أعلم .

وقد قال أبو سعيد المخزومي :


ما رأيت النجوم أغنت عن المأ     مون في عز ملكه المأسوس
خلفوه بعرصتي طرسوس     مثل ما خلفوا أباه بطوس

[ ص: 231 ] وقد كان أوصى إلى أخيه أبي إسحاق المعتصم ، وكتب وصيته بحضرة ابنه العباس ، وجماعة القضاة والأمراء والوزراء والكتاب ، وفيها القول بخلق القرآن ، ولم يتب من ذلك حتى أدركه أجله وانقضى عمله ، وهو على ذلك لم يرجع عنه ولم يتب منه ، وأوصى أن يكبر عليه الذي يصلي عليه خمسا ، وأوصى أخاه أبا إسحاق المعتصم بتقوى الله عز وجل والرفق بالرعية ، وأن يعتقد ما كان يعتقده أخوه المأمون في القرآن ، وأن يدعو الناس إلى ذلك ، وأوصاه بعبد الله بن طاهر ، وإسحاق بن إبراهيم ، وأحمد بن أبي داود القاضي ، وقال : شاوره في أمورك كلها ولا تفارقه ، وحذره من يحيى بن أكثم ونهاه عنه وذمه ، وقال : خانني ونفر الناس عني ، ففارقته غير راض عنه ، ثم أوصاه بالعلويين خيرا ؛ أن يقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم ، وأن يواصلهم بصلاتهم في كل سنة .

وقد ذكر ابن جرير للمأمون ترجمة حافلة ، أورد فيها أشياء كثيرة لم يذكرها الحافظ ابن عساكر مع كثرة ما يورده ، وفوق كل ذي علم عليم .

التالي السابق


الخدمات العلمية