صفحة جزء
[ ص: 348 ] ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين

فيها قبض يوسف بن محمد بن يوسف نائب أرمينية على البطريق الكبير بها وبعثه إلى نائب الخليفة ، واتفق بعد بعثه إياه أن سقط ثلج عظيم على تلك البلاد ، فتحزب أهل ذلك البطريق ، وجاءوا فحاصروا البلد التي بها يوسف بن محمد ، فخرج إليهم ; ليقاتلهم ، فقتلوه وطائفة كبيرة من المسلمين الذين معه ، وهلك كثير من الناس في الثلج من شدة البرد ، ولما بلغ المتوكل ما وقع من هذا الأمر الفظيع ; أرسل إلى أهل تلك الناحية بغا الكبير من جيش كثيف جدا ، فقتل من أهل تلك الناحية ممن حاصر المدينة وقتل الأمير نحوا من ثلاثين ألفا وأسر منهم طائفة كبيرة ، ثم سار إلى بلاد الباق من كورة البسفرجان ، وسلك إلى مدن كثيرة كبار ، ومهد الممالك ، ووطد البلاد والنواحي .

وفي صفر من هذه السنة غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد القاضي المعتزلي ، وكان على المظالم فعزله عنها ، واستدعى بيحيى بن أكثم فولاه قضاء [ ص: 349 ] القضاة والمظالم أيضا .

وفي ربيع الأول أمر الخليفة بالاحتياط على ضياع ابن أبي دؤاد ، وأخذ ابنه أبا الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد ، فحبسه في يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر ، وأمر بمصادرته فحمل مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار ، ومن الجواهر النفيسة ما يقوم بعشرين ألف دينار ، ثم صولح على ستة عشر ألف ألف درهم وكان ابن أبي دؤاد قد أصابه الفالج كما ذكرنا ثم نفى أهله من سامرا إلى بغداد مهانين .

قال ابن جرير فقال في ذلك أبو العتاهية :


لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد وكان عزمك عزما فيه توفيق     لكان في الفقه شغل لو قنعت به
عن أن تقول كتاب الله مخلوق     ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم
ما كان في الفرع لولا الجهل والموق

وفي عيد الفطر منها أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي ، والجمع بين رأسه وجسده ، وأن يسلم إلى أوليائه ، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا ، واجتمع من العامة في جنازته خلق كثير جدا ، وجعلوا يتمسحون بها ، وبأعواد نعشه وكان يوما مشهودا ، ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به ، وأرهج العامة في ذلك فرحا وسرورا ، [ ص: 350 ] فكتب المتوكل إلى نائبه يأمره بردعهم عن تعاطي مثل ذلك وعن المغالاة في البشر ، ثم كتب إلى الآفاق بالمنع من الكلام ، في مسألة الكلام والكف عن القول بخلق القرآن ، وأظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل واستدعاه من بغداد إليه ، فاجتمع به فأكرمه ، وأمر له بجائزة سنية فلم يقبلها ، وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه ، فاستحيا منه أحمد كثيرا ، فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلا فيه ، ثم نزعها نزعا عنيفا وهو يبكي ، رحمه الله تعالى .

وجعل المتوكل في كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص يظن أنه يأكل منه ، وكان الإمام أحمد لا يأكل لهم طعاما ، بل كان صائما مواصلا يطوي تلك الأيام كلها ; لأنه لم يتيسر له شيء يرتضي أكله ، ولكن كان ابناه صالح وعبد الله يقبلان تلك الجوائز ، وهو لا يشعر بشيء من ذلك ، ولولا أنهم أسرعوا الأوبة إلى بغداد لخشي على أحمد أن يموت جوعا .

وارتفع شأن السنة جدا في أيام المتوكل عفا الله عنه وكان لا يولي أحدا إلا بعد مشورة الإمام أحمد بن حنبل ، وكانت ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته أيضا ، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة وعلماء الناس ، ومن المعظمين للكتاب والسنة والفقه والحديث واتباع الأثر ، وكان قد ولى من جهته حيان بن بشر قضاء الشرقية ، وسوار بن [ ص: 351 ] عبد الله العنبري قضاء الجانب الغربي ، وكلاهما كان أعور ، فقال في ذلك بعض أصحاب ابن أبي دؤاد :


رأيت من الكبائر قاضيين     هما أحدوثة في الخافقين
هما اقتسما العمى نصفين قدا     كما اقتسما قضاء الجانبين
وتحسب منهما من هز رأسا     لينظر في مواريث ودين
كأنك قد وضعت عليه دنا     فتحت بزاله من فرد عين
هما فأل الزمان بهلك يحيى     إذ افتتح القضاء بأعورين

وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرمني .

وحج بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر ابن أبي جعفر المنصور ، أمير الحجاز .

التالي السابق


الخدمات العلمية