صفحة جزء
باب ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، رضي الله عنه

في أيام المأمون ثم المعتصم ، ثم الواثق بسبب القرآن ، وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد ، والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب وقلة مبالاته بما كان منهم من ذلك إليه ، وصبره عليه ، وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم .

[ ص: 394 ] وكان أحمد عالما بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة والآثار المأثورة ، وبلغه ما أوصي به في المنام واليقظة ، فرضي وسلم إيمانا واحتسابا ، وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة ، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أولياء الله ، وألحق به محبيه فيما نال من كرامة الله تعالى ، إن شاء الله من غير بلية ، وبالله التوفيق والعصمة .

قال الله تعالى : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [ العنكبوت : 1 - 3 ] وقال الله تعالى في وصية لقمان لابنه : يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور [ لقمان : 17 ] في آي سواها في معنى ما كتبنا .

وقد روى الإمام أحمد الممتحن في مسنده قائلا فيه : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عاصم بن بهدلة ، سمعت مصعب بن سعد ، يحدث عن سعد قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أشد بلاء ؟ فقال : الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، ثم يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان رقيق الدين ابتلي على حسب ذلك ، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذلك ، وما يزال البلاء بالرجل حتى يمشي في الأرض وما عليه خطيئة وقد روى مسلم في صحيحه قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، ثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة من كن فيه فقد وجد حلاوة الإيمان ; من [ ص: 395 ] كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه وأخرجاه في الصحيحين .

وقال أبو القاسم البغوي حدثنا أحمد بن حنبل ، ثنا أبو المغيرة ، ثنا صفوان بن عمرو السكسكي ، ثنا عمرو بن قيس السكوني ، ثنا عاصم بن حميد ، قال : سمعت معاذ بن جبل يقول : إنكم لم تروا إلا بلاء وفتنة ، ولن يزداد الأمر إلا شدة ، ولا الأنفس إلا شحا . وبه ، قال معاذ : " لن تروا من الأئمة إلا غلظة ولن تروا أمرا يهولكم ويشتد عليكم إلا حضر بعده ما هو أشد منه " . قال البغوي : سمعت أحمد يقول : اللهم رضينا . يمد بها صوته .

وروى البيهقي ، عن الربيع قال : بعثني الشافعي بكتاب من مصر إلى أحمد بن حنبل ، فأتيته وقد انفتل من صلاة الفجر ، فدفعت إليه الكتاب فقال : أقرأته ؟ فقلت : لا . فأخذه فقرأه فدمعت عيناه ، فقلت : يا أبا عبد الله ، وما فيه ؟ فقال : يذكر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال له : " اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، واقرأ عليه مني السلام ، وقل له : إنك ستمتحن ، وتدعى إلى القول بخلق القرآن فلا تجبهم ، يرفع الله لك علما إلى يوم القيامة . قال الربيع : فقلت : حلاوة البشارة . فخلع قميصة الذي يلي جلده فأعطانيه ، فلما رجعت إلى الشافعي أخبرته فقال : إني لست أفجعك فيه ، ولكن بله بالماء وأعطنيه حتى أتبرك به .

[ ص: 396 ] ذكر ملخص الفتنة والمحنة مجموعا من كلام أئمة السنة ، رحمهم الله وأثابهم الجنة

قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد اجتمع به واستحوذ عليه جماعة من المعتزلة ، فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل ، وزينوا له القول بخلق القرآن ، ونفي الصفات عن الله عز وجل .

قال الحافظ البيهقي : ولم يكن في الخلفاء قبله لا من بني أمية ولا من بني العباس خليفة إلا على منهج السلف ، حتى ولي هو الخلافة ، فاجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك . قالوا : واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو بلاد الروم فعن له أن يكتب إلى نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن ، واتفق ذلك في آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين .

فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا ، فتهددهم بالضرب ، وقطع الأرزاق ، فأجاب أكثرهم مكرهين ، واستمر على الامتناع في ذلك الإمام أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح [ ص: 397 ] الجنديسابوري ، فحملا على بعير ، وسيرهما إلى الخليفة عن أمره بذلك ، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد ، فلما كانوا ببلاد الرحبة جاء رجل من الأعراب من عبادهم يقال له : جابر بن عامر . فسلم على الإمام أحمد ، وقال له : يا هذا ، إنك وافد الناس ، فلا تكن مشئوما عليهم ، وإنك رأس الناس اليوم ، فإياك أن تجيب فيجيبوا ، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه فإن ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل ، وإنك إن لم تقتل تمت ، وإن عشت عشت حميدا . قال الإمام أحمد : فكان ذلك ما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك . فلما اقتربوا من جيش المأمون ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم ، وهو يمسح دموعه بطرف ثيابه وهو يقول : يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك ، وبسط نطعا لم يبسطه قبل ذلك ، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف . قال : فجثا الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء ثم قال : سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى يتجبر على أوليائك بالضرب والقتل ، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته . قال : فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل .

قال أحمد : ففرحت بذلك ، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة ، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد ، وأن الأمر شديد ، فردونا إلى بغداد في سفينة مع [ ص: 398 ] بعض الأسارى ، ونالني معهم أذى كثير ، وكان في رجليه القيود ، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد ، فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها وهو مريض وذلك في رمضان ، فأودع السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا . وقيل : نيفا وثلاثين شهرا . ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى وبه الثقة . وقد كان الإمام أحمد هو الذي يصلي بأهل السجن وعليه قيود في رجليه .

ذكر ضربه رضي الله عنه ، بين يدي المعتصم

لما أحضره المعتصم من السجن زيد في قيوده ، قال أحمد : فلم أستطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي ، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود ، وليس معي أحد يمسكني ، فسلم الله حتى جئنا دار الخلافة فأدخلت في بيت ، وأغلق علي ، وليس عندي سراج فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه ، ثم قمت أصلي ، ولا أعرف القبلة فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ، ولله الحمد .

[ ص: 399 ] قال : ثم دعيت فأدخلت على المعتصم ، فلما نظر إلي ، وعنده ابن أبي دؤاد قال : أليس قد زعمتم أنه حدث السن ، وهذا شيخ مكتهل ؟ فلما دنوت منه وسلمت قال لي : ادنه . فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ، ثم قال : اجلس . فجلست وقد أثقلني الحديد ، فمكثت ساعة ، ثم قلت : يا أمير المؤمنين ، إلام دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله . قلت : فإني أشهد أن لا إله إلا الله . قال : ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ، ثم قلت : فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه ، وذلك لأني لم أتفقه كلامه ، ثم قال المعتصم : لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك ، ثم قال : يا عبد الرحمن ، ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟ قال أحمد : فقلت : الله أكبر ، هذا فرج للمسلمين . ثم قال : ناظروه ، يا عبد الرحمن كلمه . فقال لي عبد الرحمن : ما تقول في القرآن ؟ فلم أجبه ، فقال المعتصم : أجبه . فقلت : ما تقول في العلم ؟ فسكت ، فقلت : القرآن من علم الله ، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله . فسكت ، فقالوا فيما بينهم : يا أمير المؤمنين ، كفرك وكفرنا . فلم يلتفت إلى ذلك ، فقال عبد الرحمن : كان الله ولا قرآن ؟ فقلت : كان الله ولا [ ص: 400 ] علم ؟ فسكت . فجعلوا يتكلمون من هاهنا وهاهنا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أعطوني شيئا من كتاب الله ، أو سنة رسول الله حتى أقول به ، فقال ابن أبي دؤاد : وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا ؟ فقلت : وهل يقوم الإسلام إلا بهما ؟

وجرت بينهما مناظرات طويلة ، واحتجوا عليه بقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث [ الأنبياء : 2 ] وعنه في ذلك أجوبة بحدث إنزاله ، أو ذكر غير القرآن محدث كما تقدم ورشح هذا بقوله ص والقرآن ذي الذكر [ ص : 1 ] يعني به القرآن بخلاف الذكر فإنه غير القرآن . وبقوله الله خالق كل شيء [ الرعد : 16 ] وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله تدمر كل شيء بأمر ربها [ الأحقاف : 25 ] فقال ابن أبي دؤاد : هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع ، وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم . فقال لهم : ما تقولون فيه : فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد ، ثم أحضروه في اليوم الثاني فناظروه أيضا ، ثم في اليوم الثالث فناظروه أيضا ، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم ، وتغلب حجته حججهم . قال : فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد ، وكان من أجهل الناس بالعلم [ ص: 401 ] والكلام ، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ، ولا علم لهم بالنقل ، فجعلوا ينكرون الآثار ، ويردون الاحتجاج بها .

وقال أحمد : سمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدا يقولها ، وقد تكلم معي برغوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه ، فقلت : لا أدري ما تقول إلا أني أعلم أن الله أحد صمد ، ليس كمثله شيء ، فسكت عني .

وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة فحاولوا أن يضعفوا إسناده ، ويلفقوا عن بعض المحدثين كلاما يتسلقون به إلى الطعن فيه ، وهيهات وأنى لهم التناوش من مكان بعيد [ سبأ : 52 ] وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ، ويقول : يا أحمد ، أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي ، وممن يطأ بساطي . فأقول : يا أمير المؤمنين ، يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها .

واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الاحتجاج بالآثار بقوله تعالى : حكاية عن إبراهيم يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [ مريم : 42 ] وبقوله وكلم الله موسى تكليما [ النساء : 164 ] وبقوله : [ ص: 402 ] إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني [ طه : 14 ] ، وبقوله : ألا له الخلق والأمر [ الأعراف : 54 ] وبقوله إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ النحل : 40 ] إلى غير ذلك من الآيات . فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة في ذلك ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، هذا كافر ضال مضل . وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد : يا أمير المؤمنين ، ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين ، فعند ذلك حمي واشتد غضبه ، وكان ألينهم عريكة ، وهو يظن أنهم على شيء . قال أحمد : فعند ذلك قال لي : لعنك الله ، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني . ثم قال : خذوه واخلعوه واسحبوه .

قال أحمد : فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعقابين والسياط ، وأنا أنظر ، وكان معي شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرور في ثوبي فجردوني منه ، وصرت بين العقابين ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، الله الله ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث . . وتلوت الحديث ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم [ ص: 403 ] فبم تستحل دمي ، ولم آت شيئا من هذا ، يا أمير المؤمنين اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك . فكأنه أمسك ، ثم لم يزالوا يقولون له : يا أمير المؤمنين ، إنه ضال مضل كافر . فأمر بي فأقمت بين العقابين ، وجيء بكرسي فأقمت عليه ، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم ، فتخلعت يداي ، وجيء بالضرابين ، ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ، ويقول له يعني المعتصم : شد ، قطع الله يدك ! ويجيء الآخر فيضربني سوطين ، ثم الآخر كذلك ، فضربوني أسواطا فأغمي علي ، وذهب عقلي مرارا ، فإذا سكن الضرب يعود إلي عقلي ، وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه ، وجعلوا يقولون : ويحك ، الخليفة على رأسك . فلم أقبل ، فأعادوا الضرب ، ثم عاد إلي فلم أجبه ، فأعادوا الضرب ، ثم جاء إلي الثالثة ، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب ، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب ، وأرعبه ذلك من أمري ، وأمر بي فأطلقت ، ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد أطلقت الأقياد من رجلي ، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين ، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله ، وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا ، وقيل : ثمانين سوطا لكن كان ضربا مبرحا شديدا جدا .

وقد كان الإمام أحمد رجلا طوالا رقيقا أسمر اللون كثير التواضع ، رحمه الله ، [ ص: 404 ] ورضي عنه ، وأكرم مثواه .

ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، وهو صائم ، أتوه بسويق وماء ; ليفطر من الضعف فامتنع من ذلك ، وأتم صومه ، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم ، فقال له ابن سماعة القاضي : صليت في دمك ؟ فقال له أحمد : قد صلى عمر وجرحه يثعب دما . فسكت .

ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته ، فحرك شفتيه بدعاء فعاد سراويله كما كان . ويروى أنه قال : يا غياث المستغيثين يا إله العالمين ، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة .

ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحما ميتا من جسده ، وجعل يداويه ، والنائب يبعث كثيرا في كل وقت يسأل عنه ، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندما كثيرا ، وجعل يسأل النائب عنه ، والنائب يستعلم خبره ، فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك ، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد ، وجعل كل من سعى في أمره في حل إلا [ ص: 405 ] أهل البدعة ، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم [ النور : 22 ] ويقول : ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم في سبيلك ؟ وقد قال الله تعالى : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ الشورى : 40 ] وينادى يوم القيامة : " ليقم من أجره على الله " فلا يقوم إلا من عفا . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث أقسم عليهن : ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، ومن تواضع لله رفعه الله .

وكان الذين ثبتوا على المحنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة : أحمد بن حنبل ، وهو رئيسهم ، ومحمد بن نوح بن ميمون الجنديسابوري ، ومات في الطريق حين ذهب هو وأحمد إلى المأمون ونعيم بن حماد الخزاعي ، وقد مات في السجن ، وأبو يعقوب البويطي ، وقد مات في سجن الواثق على القول بخلق القرآن ، لم يجبهم إلى ذلك . وكان مثقلا بالحديد ، وأوصى أن يدفن فيها ، وأحمد بن نصر الخزاعي ، وقد ذكرنا كيفية قتله - رحمه الله - في أيام الواثق .

التالي السابق


الخدمات العلمية