صفحة جزء
[ ص: 185 ] قصة خزاعة وعمرو بن لحي

وعبادة العرب للأصنام


قال ابن إسحاق : ثم إن غبشان من خزاعة ، وليت البيت دون بني بكر بن عبد مناة وكان الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني ، وقريش إذ ذاك حلول ، وصرم وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة . قالوا : وإنما سميت خزاعة خزاعة; لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام فنزلوا بمر الظهران فأقاموا به قال عون بن أيوب الأنصاري ، ثم الخزرجي في ذلك


فلما هبطنا بطن مر تخزعت خزاعة منا في حلول كراكر     حمت كل واد من تهامة واحتمت
بصم القنا والمرهفات البواتر

[ ص: 186 ] وقال أبو المطهر إسماعيل بن رافع الأنصاري الأوسي


فلما هبطنا بطن مكة أحمدت     خزاعة دار الآكل المتحامل
فحلت أكاريسا وشتت قنابلا     على كل حي بين نجد وساحل
نفوا جرهما عن بطن مكة واحتبوا     بعز خزاعي شديد الكواهل

فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي الذي تزوج قصي بن كلاب ابنته حبى فولدت له بنيه الأربعة; عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبدا ، ثم صار أمر البيت إليه كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة . واستمرت خزاعة على ولاية البيت نحوا من ثلاثمائة سنة ، وقيل : خمسمائة سنة . والله أعلم . وكانوا مشئومين في ولايتهم; وذلك لأن في زمانهم كان أول عبادة الأوثان بالحجاز; وذلك بسبب رئيسهم عمرو بن لحي - لعنه الله - فإنه أول من دعاهم إلى ذلك وكان ذا مال جزيل جدا يقال : إنه فقأ أعين عشرين بعيرا ، وذلك عبارة عن أنه ملك عشرين ألف بعير وكان من عادة العرب أن من ملك ألف [ ص: 187 ] بعير فقأ عين واحد منها; لأنه يدفع بذلك العين عنها ، وممن ذكر ذلك الأزرقي . وذكر السهيلي أنه ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة ، وكسى عشرة آلاف حلة في كل سنة يطعم العرب ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل ، ويلت لهم السويق قالوا : وكان قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم ومحلته عندهم ، وكرمه عليهم .

قال ابن هشام حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء ، وبها يومئذ العماليق ، وهم ولد عملاق ويقال ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال لهم : ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه ؟ فأعطوه صنما يقال له : هبل فقدم به مكة فنصبه ، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه .

قال ابن إسحاق : ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة [ ص: 188 ] الحرم; تعظيما للحرم فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة ، وأعجبهم حتى خلفت الخلوف ، ونسوا ما كانوا عليه .

وفي " صحيح البخاري " عن أبي رجاء العطاردي قال : كنا في الجاهلية إذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من التراب ، وجئنا بالشاة فحلبناها عليه ، ثم طفنا بها .

قال ابن إسحاق : واستبدلوا بدين ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات وفيهم على ذلك بقايا من عهد ابراهيم عليه السلام يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفات والمزدلفة وهدي البدن والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فيوحدونه بالتلبية ، ثم يدخلون معه أصنامهم ، ويجعلون ملكها بيده يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ يوسف : 106 ] أي ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي .

[ ص: 189 ] وقد ذكر السهيلي وغيره أن أول من لبى هذه التلبية عمرو بن لحي ، وأن ابليس تبدى له في صورة شيخ فجعل يلقنه ذلك فيسمع منه ويقول كما يقول ، واتبعه العرب في ذلك ، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمعهم يقولون : لبيك لا شريك لك يقول : قد قد أي : حسب حسب .

وقد قال البخاري ثنا إسحاق بن ابراهيم حدثنا يحيى بن آدم ثنا إسرائيل عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو خزاعة تفرد به البخاري من هذا الوجه .

وقال عبد الله بن أحمد : قرأت على أبي حدثك عمرو بن مجمع حدثنا ابراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إن أول من سيب السوائب ، وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر ، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار تفرد به أحمد من هذا الوجه . وهذا [ ص: 190 ] يقتضي : أن عمرو بن لحي هو أبو خزاعة الذي تنسب إليه القبيلة بكمالها كما زعمه بعضهم من أهل النسب فيما حكاه ابن إسحاق وغيره . ولو تركنا مجرد هذا لكان ظاهرا في ذلك بل كالنص ، ولكن قد جاء ما يخالفه من بعض الوجوه فقال البخاري : وقال أبو اليمان : أخبرنا شعيب عن الزهري قال : سمعت سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء قال : وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب وهكذا رواه البخاري أيضا ، ومسلم من حديث صالح بن كيسان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة به . ثم قال البخاري : ورواه ابن الهاد عن الزهري . قال الحاكم : أراد البخاري : رواه ابن الهاد عن عبد الوهاب بن بخت عن الزهري كذا قال .

وقد رواه أحمد عن عمرو بن سلمة الخزاعي عن الليث بن سعد عن [ ص: 191 ] يزيد بن الهاد عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب وبحر البحيرة ولم يذكر بينهما عبد الوهاب بن بخت كما قال الحاكم فالله أعلم .

وقال أحمد أيضا : حدثنا عبد الرازق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وهو أول من سيب السوائب . وهذا منقطع من هذا الوجه والصحيح : الزهري عن سعيد عنه كما تقدم . وقوله في هذا الحديث والذي قبله الخزاعي ، يدل على أنه ليس والد القبيلة بل منتسب إليها فلعل ما وقع في الرواية من قوله : أبو خزاعة تصحيف من الراوي من : أخي خزاعة أو أنه كان يكنى بأبي خزاعة ولا يكون ذلك من باب الإخبار بأنه أبو خزاعة كلهم . والله أعلم .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعي يا أكثم ، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه فقال أكثم : عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله ؟ قال : لا إنك [ ص: 192 ] مؤمن وهو كافر إنه كان أول من غير دين إسماعيل ; فنصب الأوثان ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ليس في الكتب من هذا الوجه وقد رواه ابن جرير عن هناد بن عبدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه أو مثله ، وليس في الكتب أيضا .

وقال البخاري : حدثني محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكرماني حدثنا حسان بن ابراهيم حدثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ، ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب تفرد به البخاري ، وروى الطبراني من طريق صالح عن ابن عباس مرفوعا في ذلك .

والمقصود أن عمرو بن لحي لعنه الله كان قد ابتدع لهم أشياء في الدين غير بها دين الخليل فاتبعه العرب في ذلك فضلوا بذلك ضلالا بعيدا بينا فظيعا شنيعا وقد أنكر الله تعالى عليهم في كتابه العزيز في غير ما آية منه فقال تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب الآية [ النحل : 116 ] وقال تعالى [ ص: 193 ] ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون [ المائدة : 13 ] وقد تكلمنا على هذا كله مبسوطا ، وبينا اختلاف السلف في تفسير ذلك فمن أراد فليأخذه من ثم ولله الحمد والمنة .

وقال تعالى ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون [ النحل : 56 ] وقال تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم . وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين . [ الأنعام : 136 - 140 ]

[ ص: 194 ] قال البخاري في صحيحه : باب جهل العرب : حدثنا أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين [ الأنعام : 140 ] وقد ذكرنا تفسير هذه الآية وما كانوا ابتدعوه من الشرائع الباطلة الفاسدة التي ظنها كبيرهم عمرو بن لحي - قبحه الله - مصلحة ورحمة بالدواب والبهائم وهو كاذب مفتر في ذلك ، ومع هذا الجهل والضلال اتبعه هؤلاء الجهلة الطغام فيه بل قد تابعوه فيما هو أطم من ذلك وأعظم بكثير وهو عبادة الأوثان مع الله عز وجل ، وبدلوا ما كان الله بعث به ابراهيم خليله من الدين القويم والصراط المستقيم من توحيد عبادة الله وحده لا شريك له ، وتحريم الشرك ، وغيروا شعائر الحج ، ومعالم الدين بغير علم ولا برهان ولا دليل صحيح ولا ضعيف ، واتبعوا في ذلك من كان قبلهم من الأمم المشركين ، وشابهوا قوم نوح كانوا أول من أشرك بالله ، وعبد الأصنام ، ولهذا بعث الله إليهم نوحا وكان أول رسول بعث ينهى عن عبادة الأصنام كما تقدم بيانه في قصة نوح وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا [ نوح : 23 ، 24 ] الآية قال ابن عباس : كان هؤلاء قوما صالحين في [ ص: 195 ] قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم فلما طال عليهم الأمد عبدوهم وقد بينا كيفية ما كان من أمرهم في عبادتهم بما أغنى عن إعادته هاهنا .

قال ابن إسحاق وغيره : ثم صارت هذه الأصنام في العرب بعد تبديلهم دين إسماعيل فكان ود لبني كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وكان منصوبا بدومة الجندل وكان سواع لبني هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر وكان منصوبا بمكان يقال له : رهاط . وكان يغوث لبني أنعم من طيئ ، ولأهل جرش من مذحج وكان منصوبا بجرش وكان يعوق منصوبا بأرض همدان من اليمن لبني خيوان بطن من همدان وكان نسر منصوبا بأرض حمير لقبيلة يقال لهم ذو الكلاع .

قال ابن إسحاق : وكان لخولان بأرضهم صنم يقال له : عميانس يقسمون له من أنعامهم ، وحروثهم قسما بينه وبين الله فيما يزعمون فما دخل في حق عميانس من حق الله الذي قسموه له تركوه له وما دخل في حق الله من حق عميانس ردوه عليه أنزل الله وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا [ الأنعام : 136 ] [ ص: 196 ] قال : وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له : سعد ، صخرة بفلاة من أرضهم طويلة فأقبل رجل منهم بإبل له مؤبلة ليقفها عليه التماس بركته فيما يزعم فلما رأته الإبل وكانت مرعية لا تركب وكان الصنم يهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كل وجه ، وغضب ربها وأخذ حجرا فرماه به ، ثم قال : لا بارك الله فيك نفرت علي إبلي ، ثم خرج في طلبها فلما اجتمعت له قال :


أتينا إلى سعد ليجمع شملنا     فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة من     الأرض لا يدعو لغي ولا رشد

قال ابن إسحاق : وكان في دوس صنم لعمرو بن حممة الدوسي قال : وكانت قريش قد اتخذت صنما على بئر في جوف الكعبة يقال له : هبل وقد تقدم فيما ذكره ابن هشام أنه أول صنم نصبه عمرو بن لحي لعنه الله .

قال ابن إسحاق : واتخذوا إسافا ونائلة على موضع زمزم ينحرون [ ص: 197 ] عندهما ، ثم ذكر أنهما كانا رجلا ، وامرأة فوقع عليها في الكعبة فمسخهما الله حجرين ، ثم قال : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة أنها قالت : سمعت عائشة تقول : ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم أحدثا في الكعبة فمسخهما الله عز وجل حجرين . والله أعلم . وقد قيل إن الله لم يمهلهما حتى فجرا فيها بل مسخهما قبل ذلك فعند ذلك نصبا عند الصفا والمروة فلما كان عمرو بن لحي نقلهما فوضعهما على زمزم ، وطاف الناس بهما ، وفي ذلك يقول أبو طالب وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم     بمفضى السيول من إساف ونائل
وقد ذكر الواقدي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكسر نائلة يوم الفتح خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها وتدعو بالويل والثبور . وقد ذكر السهيلي : أن أجأ وسلمى وهما جبلان بأرض الحجاز إنما سميا باسم رجل اسمه أجأ بن عبد الحي فجر بسلمى بنت حام فصلبا في هذين الجبلين فعرفا بهما قال : وكان بين أجأ ، وسلمى صنم لطيئ يقال له : فلس .

قال ابن إسحاق : واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه فإذا [ ص: 198 ] أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره ، وإذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله قال : فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد قالت قريش أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ ص : 5 ] قال ابن إسحاق وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت ، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة ، لها سدنة وحجاب ، وتهدي لها كما تهدي للكعبة ، وتطوف بها كطوافها بها ، وتنحر عندها ، وهي مع ذلك تعرف فضل الكعبة عليها; لأنها بناء ابراهيم الخليل عليه السلام ومسجده ، فكانت لقريش وبني كنانة العزى بنخلة ، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم وقد خربها خالد بن الوليد زمن الفتح كما سيأتي .

قال : وكانت اللات لثقيف بالطائف وكانت سدنتها ، وحجابها بني معتب من ثقيف ، وخربها أبو سفيان والمغيرة بن شعبة بعد مجيء أهل الطائف كما سيأتي . قال : وكانت مناة للأوس والخزرج ، ومن دان بدينهم من أهل المدينة على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد وقد خربها أبو سفيان أيضا ، وقيل : علي بن أبي طالب كما سيأتي .

[ ص: 199 ] قال : وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة وكان يقال له الكعبة اليمانية ، ولبيت مكة الكعبة الشامية وقد خربه جرير بن عبد الله البجلي كما سيأتي . قال : وكان فلس لطيئ ومن يليها بجبلي طيئ بين أجأ وسلمى ، وهما جبلان مشهوران كما تقدم . قال : وكان رئام بيتا لحمير ، وأهل اليمن كما تقدم ذكره في قصة تبع أحد ملوك حمير ، وقصة الحبرين حين خرباه ، وقتلا منه كلبا أسود قال : وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ولها يقول المستوغر ، واسمه كعب بن ربيعة بن كعب


ولقد شددت على رضاء شدة     فتركتها قفرا بقاع أسحما
وأعان عبد الله في مكروهها     وبمثل عبد الله أغشى المحرما

ويقال : إن المستوغر هذا عاش ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة وكان أطول مضر كلها عمرا وهو الذي يقول

[ ص: 200 ]

ولقد سئمت من الحياة وطولها     وعمرت من عدد السنين مئينا
مائة حدتها بعدها مائتان لي     وازددت من عدد الشهور سنينا
هل ما بقي إلا كما قد فاتنا     يوم يمر وليلة تحدونا

قال ابن هشام : ويروى لزهير بن جناب بن هبل . قال السهيلي : ومن المعمرين الذين جاوزوا المائتين والثلاثمائة زهير هذا ، وعبيد بن شرية ، ودغفل بن حنظلة النسابة والربيع بن ضبع الفزاري ، وذو الأصبع العدواني ، ونصر بن دهمان بن أشجع بن ريث بن غطفان وكان قد اسود شعره بعد ابيضاضه ، وتقوم ظهره بعد اعوجاجه قال : وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل ، وإياد بسنداد ، وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة


بين الخورنق والسدير وبارق     والبيت ذي الشرفات من سنداد

وأول هذه القصيدة


ولقد علمت وإن تطاول بي المدى     أن السبيل سبيل ذي الأعواد
ماذا أؤمل بعد آل محرق     تركوا منازلهم وبعد إياد
[ ص: 201 ] نزلوا بأنقرة يسيل عليهم     ماء الفرات يجيء من أطواد
أرض الخورنق والسدير وبارق     والبيت ذي الكعبات من سنداد
جرت الرياح على محل ديارهم     فكأنما كانوا على ميعاد
وأرى النعيم وكلما يلهى به     يوما يصير إلى بلى ونفاد

قال السهيل : الخورنق قصر بناه النعمان الأكبر لسابور; ليكون ولده فيه عنده ، وبناه رجل يقال له : سنمار في عشرين ، ولم ير بناء أعجب منه فخشي النعمان أن يبني لغيره مثله فألقاه من أعلاه فقتله ففي ذلك يقول الشاعر


جزاني جزاه الله شر جزائه     جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رصفه البنيان عشرين حجة     يعد عليه بالقرامد والسكب
فلما انتهى البنيان يوما تمامه     وآض كمثل الطود والباذخ الصعب
رمى بسنمار على حق رأسه     وذاك لعمر الله من أقبح الخطب

[ ص: 202 ] قال السهيلي : أنشده الجاحظ في كتاب الحيوان والسنمار من أسماء القمر .

والمقصود أن هذه البيوت كلها هدمت لما جاء الإسلام ، جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل بيت من هذه سرايا تخربه ، وإلى تلك الأصنام من كسرها حتى لم يبق للكعبة ما يضاهيها ، وعبد الله وحده لا شريك له كما سيأتي بيانه ، وتفصيله في مواضعه إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية