صفحة جزء
[ ص: 450 ] ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين

في شوال منها كان مقتل الخليفة المتوكل على الله على يدي ولده المنتصر ، وكان سبب ذلك أنه أمر ابنه عبد الله المعتز الذي هو ولي العهد من بعده أن يخطب بالناس في يوم جمعة ، فأداها أداء عظيما بليغا ، فبلغ ذلك من المنتصر كل مبلغ ، وحنق على أبيه وأخيه ، ثم اتفق أن أحضره أبوه بين يديه فأهانه وأمر بضربه في رأسه وصفعه وصرح بعزله عن ولاية العهد من بعد أخيه ، فاشتد أيضا حنقه أكثر مما كان . فلما كان يوم عيد الفطر خطب الخليفة المتوكل على الله بالناس وعنده بعض التشكي من علة به ، ثم عدل إلى خيام قد ضربت له ; أربعة أميال في مثلها ، فنزل هناك ثم استدعى في يوم ثالث الشهر بندمائه ، وكان على عادته في سمره وحضرته وشربه ثم تمالأ ولده المنتصر وجماعة من الأمراء على الفتك به ، فدخلوا عليه في ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال - ويقال : من شعبان - من هذه السنة ، وهو على السماط ، فابتدروه بالسيوف فقتلوه ، ثم ولوا بعده ولده المنتصر على ما سنذكره .

[ ص: 451 ] وهذه ترجمة المتوكل على الله

جعفر ابن المعتصم بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، أبو الفضل المتوكل . وأمه أم ولد يقال لها : شجاع . وكانت من سروات النساء سخاء وحزما . كان مولده بفم الصلح سنة سبع ومائتين ، وبويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة لسنة ثنتين وثلاثين ومائتين كما تقدم . وروى الخطيب من طريقه عن يحيى بن أكثم عن محمد بن عبد الوهاب ، عن سفيان ، عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الرحمن بن هلال ، عن جرير بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حرم الرفق حرم الخير ثم أنشأ المتوكل يقول :


الرفق يمن والأناة سعادة فاستأن في رفق تلاق نجاحا     لا خير في حزم بغير روية
والشك وهن إن أردت سراحا

[ ص: 452 ] وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه : وحدث عن أبيه المعتصم ، ويحيى بن أكثم القاضي . وروى عنه علي بن الجهم الشاعر ، وهشام بن عمار الدمشقي ، وقدم دمشق في خلافته ، وابتنى بها قصرا بأرض داريا ، وقال يوما لبعضهم : إن الخلفاء كانت تتصعب على الرعية لتطيعها ، وإني ألين لهم ليحبوني ويطيعوني . وقال أحمد بن مروان المالكي : ثنا أحمد بن علي البصري قال : وجه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء ، فجمعهم في داره ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم إليه غير أحمد بن المعذل ، فقال المتوكل لعبيد الله : إن هذا لا يرى بيعتنا ؟ فقال له : بلى يا أمير المؤمنين ، ولكن في بصره سوء . فقال أحمد بن المعذل : يا أمير المؤنين ، ما في بصري سوء ، ولكن نزهتك من عذاب الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه .

وروى الخطيب البغدادي أن علي بن الجهم دخل على المتوكل وفي يده درتان يقلبهما ، فأنشده قصيدته التي يقول فيها :

[ ص: 453 ]

وإذا مررت ببئر عر     وة فاسقني من مائها

فأعطاه التي في يمينه وكانت تساوي مائة ألف ، ثم أنشده :


بسر من رأى أمير عدل     تغرف من بحره البحار
يرجى ويخشى لكل خطب     كأنه جنة ونار
الملك فيه وفي بنيه     ما اختلف الليل والنهار
يداه في الجود ضرتان     عليه كلتاهما تغار
لم تأت منه اليمين شيئا     إلا أتت مثله اليسار

قال : فأعطاه التي في يساره أيضا . وقال الخطيب : وقد رويت هذه الأبيات عن علي بن هارون للبحتري في المتوكل .

وروى ابن عساكر عن علي بن الجهم قال : وقفت قبيحة حظية المتوكل بين يديه وقد كتبت على خدها بالغالية : جعفر . فتأمل ذلك ، ثم أنشأ يقول :


وكاتبة في الخد بالمسك جعفرا     بنفسي محط المسك من حيث أثرا
لئن أودعت سطرا من المسك خدها     لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا [ ص: 454 ]
فيا من مناها في السريرة جعفر     سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا
ويا من لمملوك لملك يمينه     مطيع له فيما أسر وأظهرا

قال : ثم أمر المتوكل عريبا فغنت به . وقال الفتح بن خاقان : دخلت يوما على المتوكل فإذا هو مطرق مفكر ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، ما لك مفكرا ؟ فوالله ما على الأرض أطيب منك عيشا ، ولا أنعم منك بالا . فقال : أطيب مني عيشا رجل له دار واسعة ، وزوجة صالحة ، ومعيشة حاضرة ، لا يعرفنا فنؤذيه ، ولا يحتاج إلينا فنزدريه .

وكان المتوكل محببا إلى رعيته ، قائما بالسنة فيها ، وقد شبهه بعضهم بالصديق في رده على أهل الردة ، حتى رجعوا إلى الدين ، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية . وهو أظهر السنة بعد البدعة ، وأخمد البدعة بعد انتشارها واشتهارها ، فرحمه الله .

وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور ، فقال : [ ص: 455 ] آلمتوكل ؟ ! فقال : المتوكل . قال : فما فعل بك ربك ؟ قال : غفر لي . قلت : بماذا ؟ قال : بقليل من السنة أحييتها .

وروى الخطيب عن صالح بن أحمد أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل كأن رجلا يصعد به إلى السماء ، وقائلا يقول :


ملك يقاد إلى مليك عادل     متفضل في العفو ليس بجائر

وروي عن عمرو بن شيبان الحلبي قال : رأيت ليلة قتل المتوكل قائلا يقول :


يا نائم العين في أقطار جثمان     أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
أما ترى الفتية الأرجاس ما فعلوا     بالهاشمي وبالفتح بن خاقان
وافى إلى الله مظلوما فضج له     أهل السماوات من مثنى ووحدان
وسوف تأتيكم أخرى مسومة     توقعوها لها شأن من الشان
فابكوا على جعفر وارثوا خليفتكم     فقد بكاه جميع الإنس والجان

قال : فأصبحت فأخبرت الناس ، فجاء نعيه أنه قتل في تلك الليلة . قال : ثم [ ص: 456 ] رأيته بعد هذا بشهر وهو واقف بين يدي الله عز وجل ، فقلت : ما فعل بك ربك ؟ فقال : غفر لي . قلت : بماذا ؟ قال : بقليل من السنة أحييتها . قلت : فما تصنع هاهنا ؟ قال : أنتظر ابني محمدا أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم .

وقد ذكرنا قريبا كيفية مقتله ، وأن ابنه محمدا المستنصر مالأ جماعة من الأمراء على قتله في ليلة الأربعاء أول الليل ، لأربع خلت من شوال من هذه السنة أعني سنة سبع وأربعين ومائتين بالمتوكلية ، وهي الماحوزة . وصلي عليه يوم الأربعاء ودفن بالجعفرية ، وله من العمر أربعون سنة ، وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام . وكان أسمر ، حسن العينين ، نحيف الجسم ، خفيف العارضين ، أقرب إلى القصر . والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية