صفحة جزء
وهذه نبذة من سيرته وأحواله وكشف سريرته وأقواله

الحسين بن منصور بن محمي الحلاج أبو مغيث ، ويقال أبو عبد الله ، [ ص: 819 ] كان جده مجوسيا اسمه محمي من أهل فارس نشأ بواسط ، ويقال بتستر ، ودخل بغداد وتردد إلى مكة مرارا للحج وجاور بها سنوات متفرقة ، وكان يصابر نفسه ويجاهدها فلا يجلس إلا تحت السماء في وسط المسجد في الحر والبرد ولا يأكل إلا بعض قرص ويشرب قليلا من الماء معه وذلك وقت الفطور مدة سنة كاملة ويجلس على صخرة في قبالة الحرم في جبل أبي قبيس وقد صحب جماعة من سادات مشايخ الصوفية كالجنيد بن محمد وعمرو بن عثمان المكي وأبي الحسين النوري .

قال الخطيب البغدادي والصوفية مختلفون فيه فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم وأبى أن يعده فيهم ، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي ومحمد بن خفيف الشيرازي وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري وصححوا له حاله ودونوا كلامه حتى قال ابن خفيف : الحسين بن منصور عالم رباني .

وقال أبو عبد الرحمن السلمي ، واسمه محمد بن الحسين : سمعت إبراهيم بن محمد النصراباذي وعوتب في شيء حكي عن الحلاج في الروح ، [ ص: 820 ] فقال لمن عاتبه : إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج .

قال أبو عبد الرحمن : وسمعت منصور بن عبد الله ، يقول : سمعت الشبلي ، يقول : كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا إلا أنه أظهر وكتمت . وقد روي عن الشبلي من وجه آخر أنه قال وقد رأى الحلاج مصلوبا : ألم ننهك عن العالمين ؟

قال الخطيب : والذين نفوه من الصوفية نسبوه إلى الشعبذة في فعله وإلى الزندقة في عقده .

قال : وله إلى الآن أصحاب ينسبون إليه ويغلون فيه ، وقد كان الحلاج حسن العبارة حلو المنطق وله شعر على طريقة التصوف .

قلت : لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره . فأما الفقهاء فحكي عن غير واحد من الأئمة إجماعهم على قتله وأنه كان كافرا ممخرقا مموها مشعبذا ، وكذلك قول أكثر الصوفية منهم . ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه وغرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه ، وقد كان في ابتداء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك ، ولكن لم يكن له علم يسلك به في عبادته ، فدخل عليه الداخل بسبب ذلك ، كما قال بعض السلف : من عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه . وعن سفيان بن عيينة أنه [ ص: 821 ] قال : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى . ولهذا دخل على الحلاج باب الحلول والاتحاد فصار من أهل الانحلال والإلحاد .

وقد ورد من غير وجه أنه تقلبت به الأحوال وتردد إلى البلدان وهو في ذلك كله يظهر للناس أنه من الدعاة إلى الله عز وجل وصح أنه دخل إلى الهند لتعلم السحر ، وقال : أدعو به إلى الله عز وجل . وكانأهل الهند يكاتبونه بالمغيث . ويكاتبه أهل تركستان بالمقيت . ويكاتبه أهل خراسان بالمميز . وأهل فارس بأبي عبد الله الزاهد . وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلاج الأسرار . وكان بعض البغاددة حين كان عندهم يقولون له : المصطلم . وأهل البصرة يقولون له المحير .

ويقال : إنما سماه الحلاج أهل الأهواز ; لأنه كان يكاشفهم عن ما في ضمائرهم ، وقيل : لأنه قال لحلاج : اذهب لي في حاجة كذا وكذا ، فقال : إني مشغول ، فقال : اذهب فأنا أسد عنك ، فذهب ورجع سريعا فإذا جميع ما في ذلك المخزن قد حلجه ، يقال : إنه أشار بالمرود فامتاز الحب عن القطن ، وفي صحة هذا نظر . وقيل : لأن أباه كان حلاجا ، ومما يدل على أنه كان ذا حلول [ ص: 822 ] في بدء أمره أشياء كثيرة منها شعره ، فمن ذلك قوله :


جبلت روحك في روحي كما يجبل العنبر بالمسك الفتق     فإذا مسك شيء مسني
فإذا أنت أنا لا نفترق

وقوله أيضا :


مزجت روحك في روحي كما     تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني     فإذا أنت أنا في كل حال

وله أيضا :


قد تحققتك في سر     ي فخاطبك لساني
فاجتمعنا لمعان     وافترقنا لمعان
إن يكن غيبك التع     ظيم عن لحظ العيان
فلقد صيرك الوج     د من الأحشاء دان

وقد أنشد لابن عطاء قول الحلاج :


أريدك لا أريدك للثواب     ولكني أريدك للعقاب
وكل مآربي قد نلت منها     سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

فقال ابن عطاء : هذا مما يتزايد به عذاب الشغف وهيام الكلف واحتراق الأسف فإذا صفا ووفا علا إلى مشرب عذب وهطل من الحق دائم سكب .

وقد أنشد لأبي عبد الله بن خفيف قول الحلاج :

[ ص: 823 ]

سبحان من أظهر ناسوته     سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا     في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه     كلحظة الحاجب بالحاجب

فقال ابن خفيف : على من يقول هذا لعنة الله . فقيل له : إن هذا من شعر الحسين بن منصور ، فقال : ربما يكون مقولا عليه .

ومما ينسب إليه من الشعر قوله :


أرسلت تسأل عني كيف كنت وما     لاقيت بعدك من هم ومن حزن
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا     لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن

قال ابن خلكان ويروى لسمنون لا للحلاج .

ومن شعره أيضا قوله :


متى سهرت عيني لغيرك أو بكت     فلا أعطيت ما أملت وتمنت
وإن أضمرت نفسي سواك فلا رعت     رياض المنى من وجنتيك وجنت

ومن شعره أيضا :

[ ص: 824 ]

دنيا تغالطني كأن     ي لست أعرف حالها
حظر المليك حرامها     وأنا احتميت حلالها
فوجدتها محتاجة     فوهبت لذتها لها

وقد كان الحلاج يتلون في ملابسه ، فتارة يلبس لباس الصوفية ، وتارة يتجرد في ملابس زرية ، وتارة يلبس لباس الأجناد ويعاشر أبناء الدنيا ، وقد رآه بعضهم في ثياب رث وبيده ركوة وعكاز وهو سائح ، فقال له : ما هذه الحالة يا حلاج ؟ فأنشأ يقول :


لئن أمسيت في ثوبي عديم     لقد بليا على حر كريم
فلا يغررك أن أبصرت حالا     مغيرة عن الحال القديم
فلي نفس ستتلف أو سترقى     لعمرك بي إلى أمر جسيم

ومن مستجاد كلامه ، وقد سأله رجل أن يوصيه بشيء ينفعه : عليك بنفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك عن الحق . وقال له رجل : عظني . فقال : كن مع الحق بحكم ما أوجب .

وروى الخطيب بسنده إليه أنه قال : علم الأولين والآخرين مرجعه إلى أربع كلمات : حب الجليل ، وبغض القليل ، واتباع التنزيل ، وخوف التحويل . قلت : وقد أصيب الحلاج في المقامين الأخيرين فلم يتبع التنزيل ولم يبق على [ ص: 825 ] الاستقامة ، بل تحول منها إلى الاعوجاج والبدعة ، نسأل الله العافية .

قال أبو عبد الرحمن السلمي : حكي عن عمرو بن عثمان المكي أنه قال : كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي ، فقال : يمكنني أن أقول مثل هذا . ففارقته .

قال الخطيب : وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكويه الشيرازي سمعت أبا زرعة الطبري ، يقول : الناس فيه - يعني حسين بن منصور - بين قبول ورد ، ولكن سمعت محمد بن يحيى الرازي ، يقول : سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول : لو قدرت عليه لقتلته بيدي ، فقلت : أيش الذي وجد الشيخ عليه ؟ قال : قرأت آية من كتاب الله ، فقال : يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به .

قال أبو زرعة الطبري : وسمعت أبا يعقوب الأقطع ، يقول : زوجت ابنتي من الحسين بن منصور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده ، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال خبيث كافر .

قلت : كان تزويجه بها بمكة وهي أم الحسين بنت أبي يعقوب الأقطع ، فأولدها ولده أحمد بن الحسين بن منصور ، وقد ذكر سيرة أبيه كما ساقها من طريقه الخطيب .

وذكر أبو القاسم القشيري في " الرسالة " في باب " حفظ قلوب المشايخ " أن عمرو بن عثمان دخل على الحلاج وهو بمكة وهو يكتب شيئا في [ ص: 826 ] أوراق ، فقال له : ما هذا ؟ فقال : هو ذا أعارض القرآن . قال : فدعا عليه فلم يفلح بعدها ، وأنكر على أبي يعقوب الأقطع تزويجه إياه ابنته ، وكتب إلى الآفاق كتبا كثيرة يلعنه فيها ويحذر الناس منه ، فشرد الحلاج في البلاد فعاث يمينا وشمالا وجعل يظهر للناس أنه يدعو إلى الله - عز وجل - ويستعين بأنواع من الحيل ولم يزل ذلك دأبه وشأنه حتى أحل الله به بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين فقتله بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق ، والله أكرم من أن يسلطه على صديق كيف وقد تهجم على القرآن العظيم وأراد معارضته في البلد الحرام الكريم ، وقد قال الله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ الحج : 25 ] ولا إلحاد أعظم من هذا ، وقد أشبه في حاله هذا كفار قريش في معاندتهم ، الذين قال تعالى فيهم : وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين [ الأنفال : 31 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية