صفحة جزء
وممن توفي فيها من الأعيان :

أبو بشر الدولابي محمد بن أحمد بن حماد بن سعيد أبو بشر الدولابي مولى الأنصار ، ويعرف بالوراق ، أحد أئمة حفاظ الحديث ، وله [ ص: 846 ] تصانيف حسنة في التاريخ وغير ذلك ، وروى عن جماعة كثيرة .

قال ابن يونس : وكان يضعف ، وتوفي وهو قاصد إلى الحج بين مكة والمدينة بالعرج في ذي القعدة .

أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الإمام أبو جعفر الطبري ، مولده في سنة أربع وعشرين ومائتين وكان أسمر أعين مليح الجسم مديد القامة فصيح اللسان ، روى الكثير عن الجم الغفير ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث ، وله " التاريخ " الحافل ، و " التفسير " الكامل ، وغيرهما من المصنفات النافعة في الأصول والفروع ، ومن ذلك " تهذيب الآثار " لكن لم يتمه ، وقد روي عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة .

قال الحافظ أبو بكر الخطيب : استوطن ابن جرير بغداد وأقام بها إلى حين وفاته وكان أحد أئمة العلماء ، يحكم بقوله ويرجع إليه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره وكان حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات ، بصيرا بالمعاني ، فقيها في الأحكام عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة [ ص: 847 ] والتابعين ومن بعدهم ، عارفا بأيام الناس وأخبارهم ، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك ، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله وكتاب سماه " تهذيب الآثار " لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمه ، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيارات ، وتفرد بمسائل حفظت عنه .

قال الخطيب : وبلغني عن الشيخ أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الإسفراييني أنه قال : لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرا أو كلاما هذا معناه . وروى الخطيب عن إمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه طالع " التفسير " لابن جرير في سنين من أوله إلى آخره ثم قال : ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير ولقد ظلمته الحنابلة . وقال لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث عن المشايخ ، ولم يتفق له سماع من ابن جرير لأن الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد فقال : لو كتبت عنه لكان خيرا لك من كل من كتبت عنه .

قلت : وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم ، وحسن القراءة على أحسن الصفات ، وكان من كبار الصالحين ، وهو أحد المحدثين الذين اجتمعوا بمصر في أيام الأمير طولون ، وهم : محمد بن إسحاق بن خزيمة ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن هارون الروياني ، ومحمد بن جرير هذا . وقد ذكرنا ذلك في ترجمة محمد بن نصر [ ص: 848 ] المروزي وكان الذي قام يصلي محمد بن إسحاق بن خزيمة ، وقيل محمد بن نصر ، فرزقهم الله ببركة صلاته . وقد أراد الخليفة المقتدر بالله في بعض الأحيان أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقا عليها بين الفقهاء ، فقيل له : لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير . وطلب منه ذلك فكتبها ، فاستدعاه الخليفة إليه ، وقال له : سل حاجتك ، فقال : لا حاجة لي ، فقال : لا بد أن تسألني شيئا ، فقال : أسأل من أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا السؤال يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع ، فأمر الخليفة بذلك ، وكان ينفق على نفسه من مغل قرية تركها له أبوه بطبرستان ، ومن شعره :


إذا أعسرت لم يعلم رفيقي وأستغني فيستغني صديقي     حيائي حافظ لي ماء وجهي
ورفقي في مطالبتي رفيقي     ولو أني سمحت ببذل وجهي
لكنت إلى الغنى سهل‌ الطريق

ومن شعره أيضا :


خلقان لا أرضى طريقهما     بطر الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطرا     وإذا افتقرت فته على الدهر



وقد كانت وفاته وقت المغرب من عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر وثلاثمائة . وقد جاوز الثمانين بخمس أو ست سنين وفي [ ص: 849 ] شعر رأسه ولحيته سواد كثير ، ودفن في داره ؛ لأن بعض الرعاع من عوام الحنابلة منعوا من دفنه نهارا ونسبوه إلى الرفض ، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد ، وحاشاه من هذا ومن ذاك أيضا . بل كان أحد أئمة الإسلام في العلم بكتاب الله وسنة رسوله ، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم ويرميه بالرفض . ولما توفي اجتمع الناس من سائر البلد وصلوا عليه بداره ودفن بها ، ومكث الناس يترددون إلى قبره شهورا يصلون عليه ، رحمه الله .

قلت : وقد رأيت له كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين ، وكتابا جمع فيه طرق حديث الطير ، ونسب إليه أنه يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء وأنه لا يوجب الغسل ، وقد اشتهر عنه هذا ، فمن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان ، أحدهما شيعي وإليه ينسب ذلك ، وينزهون أبا جعفر من هذه الصفات ، والذي عول عليه كلامه في التفسير أنه يوجب غسل القدمين ويوجب مع الغسل دلكهما ، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح فلم يفهم كثير من الناس مراده جيدا ، فنقلوا عنه أنه يوجب الجمع بين الغسل والمسح ، والله أعلم .

وقد رثاه جماعة من أهل العلم ، منهم ابن الأعرابي حيث يقول :


حدث مفظع وخطب جليل     دق عن مثله اصطبار الصبور
قام ناعي العلوم أجمع لما     قام ناعي محمد بن جرير
فهوت أنجم لها زاهرات     مؤذنات رسومها بالدثور
وتغشى ضياءها النير الإش     راق ثوب الدجنة الديجور
[ ص: 850 ] وغدا روضها الأنيق هشيما     ثم عادت سهولها كالوعور
يا أبا جعفر مضيت حميدا     غير وان في الجد والتشمير
بين أجر على اجتهادك موفو     ر وسعي إلى التقى مشكور
مستحقا به الخلود لدى جن     ة عدن في غبطة وسرور



ولأبي بكر بن دريد - رحمه الله - فيه مرثاة طويلة طنانة ، أوردها الخطيب البغدادي بتمامها ، والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية