صفحة جزء
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان :

الطحاوي ، أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك ، أبو جعفر [ ص: 72 ] الطحاوي

نسبة إلى طحا وهي قرية بصعيد مصر ، الفقيه الحنفي ، صاحب المصنفات المفيدة والفوائد ، وهو أحد الثقات الأثبات ، والحفاظ الجهابذة ، وهو ابن أخت المزني - رحمهما الله - وكانت وفاته في مستهل ذي القعدة من هذه السنة عن ثنتين وثمانين سنة .

وذكر أبو سعد السمعاني أنه ولد في سنة تسع وعشرين ومائتين ، فعلى هذا يكون قد جاوز التسعين . والله أعلم .

وذكر ابن خلكان في " الوفيات " أن سبب انتقاله إلى مذهب أبي حنيفة ورجوعه عن مذهب خاله المزني ، أن خاله قال له يوما : والله لا يجيء منك شيء . فغضب واشتغل على أبي جعفر بن أبي عمران الحنفي ، حتى برع وفاق أهل زمانه ، وصنف كتبا كثيرة منها " أحكام القرآن " و " اختلاف العلماء " و " معاني الآثار " و " التاريخ الكبير " وله في الشروط كتاب ، وكان بارعا فيها . وقد كتب للقاضي أبي عبيد الله محمد بن عبدة ، وعدله القاضي أبو عبيد بن حربويه . وكان يقول : رحم الله المزني ، لو كان حيا لكفر عن يمينه .

وكانت وفاته في مستهل ذي القعدة ، ودفن بالقرافة ، وقبره مشهور بها ، رحمه الله تعالى ، وترجمه ابن عساكر ، وذكر أنه قدم دمشق سنة ثمان وستين [ ص: 73 ] ومائتين ، وأخذ الفقه عن قاضيها أبي خازم . رحمه الله .

أحمد بن محمد بن موسى بن النضر بن حكيم بن علي بن زربي ، أبو بكر بن أبي حامد

صاحب بيت المال ، سمع عباسا الدوري وخلقا ، وعنه الدارقطني وغيره ، وكان ثقة صدوقا جوادا ممدحا ، اتفق في أيامه أن رجلا من أهل العلم كانت له جارية يحبها حبا شديدا ، فركبته ديون كثيرة اقتضى الحال أن باع تلك الجارية في الدين ، فلما قبض ثمنها ندم ندامة عظيمة جدا ، وبقي متحيرا في أمره ، فباعها الذي كانت عنده ، فبلغ سيدها أن الجارية قد اشتراها ابن أبي حامد صاحب بيت المال ، فتشفع إليه ببعض أصحابه في أن يردها إليه بثمنها ، فلما قال له ذلك لم يكن عنده شعور بها ، وذلك أن امرأته كانت اشترتها له ، ولم تعلمه بعد بأمرها حتى تحل من استبرائها ، وكان ذلك اليوم آخره ، فلبسوها الحلي والمصاغ ، وصنعوها له ، وحين شفع عنده في أمرها بهت ; لعدم علمه بها ، ثم دخل يستكشف خبرها من منزله ، فإذا بها قد هيئت له وزخرفت ، ففرح فرحا شديدا إذ وجدها ، من أجل ذلك الرجل ، فأخرجها معه وهو يظهر السرور ، فقال لسيدها : هذه جاريتك ؟ فلما رآها اضطرب كلامه ، واختلط في عقله مما رأى من حسن منظرها وهيئتها ، وقال : نعم . قال : خذها ، بارك الله لك فيها . ففرح الفتى فرحا شديدا ، وقال : يا سيدي ، تأمر من يحمل معي المال ؟ فقال : لا حاجة لي به ، وأنت في حل منه ، فإني [ ص: 74 ] أخشى إن لم يبق معك شيء أن تبيعها ثانية ممن لا يردها عليك . فقال : يا سيدي ، فهذا الحلي والمصاغ الذي عليها ؟ فقال : هذا شيء وهبناه لها لا نعود فيه أبدا . فاشتد فرح الفتى ، وأخذها معه ، فلما ودع ابن أبي حامد قال للجارية : أيما كان أحب إليك ; نحن أو سيدك هذا ؟ فقالت : أما أنتم فأغنيتموني ، فجزاكم الله خيرا ، وأما سيدي هذا ، فلو أني ملكت منه ما ملك مني لم أبعه بالأموال الجزيلة . فاستحسن الحاضرون ذلك من قولها مع صغر سنها .

شغب أم أمير المؤمنين المقتدر بالله الملقبة بالسيدة

كان دخل أملاكها في كل سنة ألف ألف دينار ، وكانت تتصدق بأكثر ذلك على الحجيج في أشربة وأزواد وأطباء يكونون معهم ، وتسهيل الطرقات والموارد .

وكانت في غاية الحشمة والرياسة ونفوذ الكلمة أيام خلافة ولدها ، فلما قتل كانت مريضة فزادها مرضا إلى مرضها ، ولما استقر أمر القاهر في الخلافة - وهو ابن زوجها المعتضد وأخو ابنها ، وقد كانت حضنته حين توفيت أمه ، وخلصته من ابنها لما كان مؤنس قد بايعه ولم يتم ذلك - عاقبها القاهر عقوبة عظيمة جدا ، حتى كان يعلقها برجلها ورأسها منكوس ، فربما بالت ، فينحدر على وجهها ; ليقررها على الأموال التي في يدها ، فلم يجد لها شيئا سوى ثيابها ومصاغها وحليها في صناديق لها ، قيمتها مائة ألف وثلاثون ألف دينار ، وجميع ما كان يدخلها تتصدق به ، ووقفت شيئا كثيرا ، ولكن كان لها [ ص: 75 ] أملاك أمر ببيعها ، وأتى بالشهود ليشهدوا عليها بالتوكيل في بيعها ، فامتنع الشهود من أداء الشهادة حتى يحلوها ، فرفع الستر بإذن الخليفة ، فقالوا لها : أنت شغب جارية المعتضد أم جعفر المقتدر ؟ فبكت بكاء طويلا ، ثم قالت : نعم . وكتبوا حليتها ، عجوز ، سمراء اللون ، دقيقة الجبين . وبكى الشهود وتفكروا في تقلب الزمان ، وتنقل الحدثان . وكانت وفاتها في جمادى الأولى من هذه السنة ، ودفنت بالرصافة . رحمها الله .

عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان ، وهو أبو هاشم بن أبي علي الجبائي

المتكلم ابن المتكلم المعتزلي ابن المعتزلي ، وإليه تنسب البهشمية من المعتزلة ، وله مصنفات في الاعتزال كما لأبيه من قبله ، مولده في سنة سبع وأربعين ومائتين ، وتوفي في شعبان من هذه السنة .

قال القاضي ابن خلكان : وكان له ابن يقال له : أبو علي . دخل يوما على الصاحب بن عباد فأكرمه واحترمه ، وسأله عن شيء ، فقال : ( لا أعرف ) نصف العلم . فقال : صدقت وسبقك أبوك إلى النصف الآخر !

[ ص: 76 ] محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية أبو بكر بن دريد الأزدي

اللغوي النحوي الشاعر صاحب المقصورة ، ولد بالبصرة في سنة ثلاث وعشرين ومائتين ، وتنقل في البلاد لطلب العلم والأدب ، وكان أبوه من ذوي اليسار وقدم بغداد وقد أسن ، فأقام بها إلى أن توفي . روى عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي ، وأبي حاتم ، والرياشي . وعنه أبو سعيد السيرافي وأبو بكر بن شاذان وأبو عبيد الله المرزباني وغيرهم . ويقال : كان أعلم الشعراء وأشعر العلماء . وقد كان متهتكا في الشراب ، قال أبو منصور الأزهري : دخلت عليه فوجدته سكران ، فلم أعد إليه .

وسئل عنه الدارقطني ، فقال : تكلموا فيه . وقال ابن شاهين : كنا ندخل عليه ، فنستحي مما نرى من العيدان المعلقة والشراب المصفى ، وقد جاوز التسعين وقارب المائة . وكانت وفاته في يوم الأربعاء لثنتي عشرة بقيت من شعبان .

وفي هذا اليوم كانت وفاة أبي هاشم بن أبي علي ، فصلي عليهما معا ، ودفنا في مقبرة الخيزرانية ، وقال الناس : مات اليوم علم اللغة ، وعلم الكلام . وكان ذلك يوما مطيرا . ومن مصنفات ابن دريد " الجمهرة " في اللغة ، في نحو عشر مجلدات ، وكتاب " المطر " والمقصورة والقصيدة الأخرى في المقصور والممدود ، وغير ذلك ، سامحه الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية