صفحة جزء
[ ص: 127 ] ثم دخلت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة

في المنتصف من ربيع الأول منها كانت وفاة الخليفة الراضي بالله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن الموفق أبي أحمد بن جعفر بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور العباسي ، استخلف بعد عمه القاهر لست خلون من جمادى الأولى سنة ثنتين وعشرين وثلاثمائة ، وأمه أم ولد رومية تسمى ظلوم ، كان مولده في رجب سنة سبع وتسعين ومائتين ، فكانت خلافته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام ، وعمره يوم مات إحدى وثلاثون سنة وعشرة أشهر .

وكان أسمر رقيق السمرة ، دري اللون ، أسود الشعر سبطه ، قصير القامة ، نحيف الجسم ، في وجهه طول ، وفي مقدم لحيته تمام ، وفي شعرها رقة . هكذا وصفه من شاهده .

قال الخطيب البغدادي : كان للراضي فضائل كثيرة وختم الخلفاء في أمور عدة ; فمنها أنه كان آخر خليفة له شعر مدون ، وآخر خليفة انفرد بتدبير [ ص: 128 ] الجيوش والأموال ، وآخر خليفة خطب على منبر يوم الجمعة ، وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء ، وآخر خليفة كانت نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزائنه ومطابخه ومجالسه وخدمه وحجابه وأموره ، كل ذلك يجري على ترتيب المتقدمين من الخلفاء .

وقال غيره : كان فصيحا بليغا كريما جوادا ممدحا .

ومن جيد كلامه الذي سمعه منه محمد بن يحيى الصولي : لله أقوام هم مفاتيح الخير ، وأقوام مفاتيح الشر ، فمن أراد الله به خيرا قصد به أهل الخير ، وجعله الوسيلة إلينا ، فنقضي حاجته ، فهو الشريك في الثواب والشكر ، ومن أراد الله به شرا عدل به إلى غيرنا ، فهو الشريك في الوزر والإثم ، والله المستعان على كل حال .

ومن ألطف الاعتذارات ما كتب به الراضي إلى أخيه المتقي ، وهما في المكتب - وكان المتقي قد اعتدى على الراضي ، والراضي هو الكبير منهما - فكتب إليه الراضي : بسم الله الرحمن الرحيم ، أنا معترف لك بالعبودية فرضا ، وأنت معترف لي بالأخوة فضلا ، والعبد يذنب والمولى يعفو ، وقد قال الشاعر :


يا ذا الذي يغضب من غير شي اعتب فعتباك حبيب إلي     أنت على أنك لي ظالم
أعز خلق الله طرا علي

قال : فجاء إليه أخوه المتقي ، فأكب عليه يقبل يديه ، وتعانقا واصطلحا .

[ ص: 129 ] ومن لطيف شعره قوله فيما ذكره ابن الأثير في " الكامل " :


يصفر وجهي إذا تأمله     طرفي ويحمر وجهه خجلا
حتى كأن الذي بوجنته     من دم جسمي إليه قد نقلا

قال : ومما رثى به أباه المقتدر :


ولو أن حيا كان قبرا لميت     لصيرت أحشائي لأعظمه قبرا
ولو أن عمري كان طوع مشيئتي     وساعدني المقدور قاسمته العمرا
بنفسي ثرى ضاجعت في تربه البلى     لقد ضم منك الغيث والليث والبدرا

ومما أنشده له ابن الجوزي في " المنتظم " :


لا تعذلي كرمي على الإسراف     ربح المحامد متجر الأشراف
أجري كآبائي الخلائف سابقا     وأشيد ما قد أسست أسلافي
إني من القوم الذين أكفهم     معتادة الإخلاف والإتلاف

ومن شعره الذي رواه الخطيب من طريق أبي بكر محمد بن يحيى الصولي النديم عنه قوله :

[ ص: 130 ]

كل صفو إلى كدر     كل أمن إلى حذر
ومصير الشباب لل     موت فيه أو الكبر
در در المشيب من     واعظ ينذر البشر
أيها الآمل الذي     تاه في لجة الغرر
أين من كان قبلنا     درس العين والأثر
سيرد المعار من     عمره كله خطر
رب إني ذخرت عن     دك أرجوك مدخر
إنني مؤمن بما     بين الوحي في السور
واعترافي بترك نف     عي وإيثاري الضرر
رب فاغفر لي الخطي     ئة يا خير من غفر

وقد كانت وفاته بعلة الاستسقاء في ليلة السادس عشر من ربيع الأول من هذه السنة ، وكان قد أرسل إلى بجكم وهو بواسط ; ليعهد إلى ولده الأصغر أبي الفضل ، فلم يتفق له ذلك ، وبايع الناس أخاه المتقي لله إبراهيم بن المقتدر . وكان أمر الله قدرا مقدورا .

التالي السابق


الخدمات العلمية