صفحة جزء
[ ص: 253 ] ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة

دخول الروم إلى حلب

فيها دخل الدمستق ملك الروم - لعنه الله - إلى حلب في مائتي ألف مقاتل ، وكان سبب ذلك أنه ورد عليها بغتة ، فنهض إليه سيف الدولة بن حمدان بمن حضر من أصحابه ، فقاتله فلم يقو به لكثرة جنوده ، وقتل من أصحاب سيف الدولة خلقا كثيرا ، وكان سيف الدولة قليل الصبر ، ففر منهزما في نفر يسير من أصحابه ، فكان أول ما استفتح به أن استحوذ على دار سيف الدولة ظاهر البلد ، فأخذ منها أموالا عظيمة وحواصل ، وعددا للحرب لا تحصى كثرة ، ثم تدنى فحاصر السور ، فقاتل أهل البلد دونه قتالا عظيما ، وقتلوا خلقا كثيرا من الروم ، وثلمت الروم في السور ثلمة عظيمة ، فوقف فيها الروم ، فحمل المسلمون عليهم ، فأزاحوهم عنها ، فلما جن الليل جد المسلمون في عمارتها ، فما أصبح الصباح إلا وهي كما كانت ، وحفظوا السور حفظا عظيما ، ثم بلغ المسلمين أن رجالة الشرط قد عاثوا في البلد ينهبون الدور ، فرجع الناس إلى منازلهم يمنعونها منهم ، وغلبت الروم على السور ، فعلوه ودخلوا البلد يقتلون من لقوه ، فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا ، وانتهبوا الأموال والأولاد والنساء ، وخلصوا من كان [ ص: 254 ] بأيدي المسلمين من أسارى الروم ، وكانوا ألفا وأربعمائة ، فأخذوا السيوف فقاتلوا مع قومهم ، وكانوا أضرى على المسلمين ، وأسروا نحوا من بضعة عشر ألفا ما بين صبي وصبية ، ومن النساء شيئا كثيرا ، ومن الرجال ألفين ، وخربوا المساجد وأحرقوها ، وصبوا في جباب الزيت الماء حتى فاض الزيت على وجه الأرض وهلك ، وكل شيء لا يقدرون على حمله أحرقوه ، وأقاموا في البلد تسعة أيام يفعلون هذه المفاسد العظيمة ، ثم عزم الدمستق على الانصراف خوفا من رجوع سيف الدولة ، فقال له ابن أخته : أتذهب وتترك القلعة وراءك ؟ فقال له : إنا قد بلغنا فوق ما كنا نؤمله ، وإن بها مقاتلة ورجالا غزاة ، فقال : لا بد لنا منها . فقال له : اذهب إليها . فصمد إليها ليحاصرها فرموه بحجر ، فقتله في الساعة الراهنة من بين الجيش كله ، فغضب الدمستق عند ذلك وأمر بإحضار من كان في أيديهم من أسارى المسلمين ، وكانوا قريبا من ألفين ، فضربت أعناقهم بين يديه ، ثم كر راجعا ، قبحه الله ولعنة الله عليه .

وقد دخلوا عين زربة قبل ذلك في المحرم من هذه السنة ، فاستأمنهم أهلها فأمنهم الملك ، وأمر بأن يدخلوا كلهم إلى المسجد ، ومن بقي في منزله قتل ، فصار أهلها كلهم في المسجد ، ومن تأخر منهم قتل ، ثم قال : لا يبقين أحد منكم اليوم إلا ذهب حيث شاء ، ومن تأخر قتل ، فازدحموا في خروجهم من [ ص: 255 ] المسجد ، فمات كثير منهم ، وخرجوا على وجوههم لا يدرون أين يذهبون ، فمات في الطرقات منهم خلق كثير ، ثم هدم الجامع ، وكسر المنبر ، وقطع من حول البلد أربعين ألف نخلة ، وهدم سور البلد والمنازل المشار إليها منها ، وأقام بها مدة ، وفتح حولها أربعة وخمسين حصنا ، بعضها بالسيف وبعضها بالأمان ، وقتل خلقا كثيرا ، وأسرت الروم أبا فراس بن سعيد بن حمدان نائب منبج من جهة سيف الدولة ، وكان شاعرا مطبقا ، له ديوان حسن . وكان مدة مقامه بعين زربة أحدا وعشرين يوما ، ثم سار إلى قيسارية فلقيه أربعة آلاف من أهل طرسوس مع نائبها ابن الزيات فقتل أكثرهم ، وأدركه صوم النصارى فاشتغل به حتى فرغ منه ، ثم هجم على حلب بغتة ، فكان من أمره ما ذكرناه أيضا .

وفي هذه السنة كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد ببغداد : لعن الله معاوية بن أبي سفيان ولعن من غصب فاطمة فدك - يعنون أبا بكر رضي الله عنه - ومن أخرج العباس من الشورى - يعنون عمر ، رضي الله عنه - ومن نفى أبا ذر - يعنون عثمان رضي الله عنه - ومن منع دفن الحسن عند جده - يعنون مروان بن الحكم - ، ولما بلغ ذلك معز الدولة لم ينكره ولم يغيره ، ثم بلغه أن أهل السنة محوا ذلك ، فأمر بأن يكتب : لعن الله الظالمين لآل محمد من الأولين والآخرين ، والتصريح باسم معاوية في اللعن ، فكتب ذلك . قبح الله معز الدولة وشيعته من الروافض ، وكذلك سيف الدولة بن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض ، ولا جرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء ، ويديل عليهم أعداءهم ; لمتابعتهم أهواءهم ، وتقليدهم سادتهم وكبراءهم وآباءهم ، وترك [ ص: 256 ] متابعتهم أنبياءهم وعلماءهم ، ولهذا لما ملكت الفاطمية بلاد الشام ; استحوذ على سواحلها كلها حتى بيت المقدس الفرنج ، ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق وبعض أعمالها ، وجميع السواحل مع الفرنج والنواقيس النصرانية والقسوس الإنجيلية تنعر في الشواهق من الحصون والقلاع ، وتكنو في أماكن المساجد وشريف البقاع .

وفيها وقعت فتنة عظيمة بين أهل البصرة بسبب المذاهب ، فقتل منهم خلق كثير وجم غفير .

وفيها أعاد سيف الدولة بناء عين زربة وبعث مولاه نجا ، فدخل بلاد الروم ، فقتل منها خلقا كثيرا وسبى جما غفيرا ، وغنم وسلم ، وبعث حاجبه مع جيش طرسوس فدخلوا بلاد الروم فغنموا وسبوا ورجعوا سالمين ، ولله الحمد والمنة .

وفيها فتح المعز الفاطمي حصن طبرمين من بلاد المغرب - وكان من أحصن بلاد الفرنج - افتتحه قسرا بعد محاصرة سبعة أشهر ونصف شهر . وقصدت الفرنج جزيرة أقريطش فاستنجد أهلها بالمعز ، فسير إليهم جيشا ، فانتصروا على الفرنج ، ولله الحمد والمنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية