صفحة جزء
وممن توفي فيها من الأعيان :

المتنبي الشاعر المشهور أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد أبو الطيب الجعفي

الشاعر المعروف بالمتنبي
، كان أبوه يعرف بعيدان السقاء ، [ ص: 273 ] وكان يستقي الماء لأهل الكوفة على بعير له وهو شيخ كبير .

وعيدان هذا ، قال ابن ماكولا والخطيب : هو بكسر العين وبعدها ياء مثناة من تحت . وقيل : بفتح العين لا كسرها . فالله أعلم .

كان مولد المتنبي بالكوفة سنة ست وثلاثمائة ، ونشأ بالشام بالبادية ، وطلب الأدب ، ففاق أهل زمانه فيه ، ولزم جناب سيف الدولة بن حمدان وامتدحه وحظي عنده ، ثم صار إلى مصر ، فامتدح كافورا الإخشيدي ثم هجاه ، وهرب منه ، وورد بغداد فامتدح بعض أهلها ، وقرئ عليه ديوانه فيها .

وقدم الكوفة فامتدح ابن العميد ، فوصله من جهته ثلاثون ألف دينار ، ثم سار إلى فارس فامتدح عضد الدولة بن بويه ، فأطلق له أموالا جزيلة تقارب مائتي ألف درهم ، وقيل : بل حصل له نحو من ثلاثين ألف دينار ، ثم دس إليه من يسأله : أيما أحسن ; عطايا عضد الدولة بن بويه ، أو عطايا سيف الدولة بن حمدان ؟ فقال : هذه أجزل ولكن فيها تكلف ، وتلك أقل ولكن عن طيب نفس من معطيها ; لأنها عن طبيعة وهذه عن تكلف . فذكر ذلك لعضد الدولة ، فتغيظ عليه ، ودس إليه طائفة من الأعراب ، فوقفوا له في أثناء الطريق وهو راجع إلى بغداد ويقال : إنه قد كان هجا مقدمهم ابن فاتك الأسدي - وقد كانوا يقطعون الطريق - فلهذا أوعز إليهم عضد الدولة أن يتعرضوا له فيقتلوه ، ويأخذوا ما معه من الأموال ، فانتهوا إليه وهم ستون راكبا في يوم [ ص: 274 ] الأربعاء وقد بقي من رمضان ثلاثة أيام ، وقيل : بل قتل في يوم الاثنين لخمس بقين من رمضان . ويقال : بل كان ذلك في شعبان . وقد نزل عند عين تحت شجرة إنجاص ، وقد وضعت سفرته ليتغدى ومعه ولده محسد وخمسة عشر غلاما له ، فلما رآهم قال : هلموا يا وجوه العرب . فلما لم يكلموه أحس بالشر ، فنهض إلى سلاحه وخيله ، فتواقفوا ساعة ، فقتل ابنه محسد وبعض غلمانه ، وأراد هو أن ينهزم ، فقال له مولى له : أين تذهب ، وأنت القائل :


فالخيل والليل والبيداء تعرفني والحرب والضرب والقرطاس والقلم

فقال : ويحك ! قتلتني . ثم كر راجعا ، فطعن زعيم القوم برمح في عنقه فقتله ، فاجتمعوا عليه فشجروه بالرماح حتى قتلوه ، وأخذوا جميع ما كان معه من الأموال ، وذلك بالقرب من النعمانية ، وهو آيب إلى بغداد ودفن هنالك ، وله من العمر ثمان وأربعون سنة .

وذكر ابن عساكر أنه لما نزل في المنزلة التي كانت قبل منزلته هذه ; سأله بعض الأعراب أن يعطيهم خمسين درهما ويخفرونه ، فمنعه الشح والكبر [ ص: 275 ] ودعوى الشجاعة من ذلك .

وقد كان المتنبي جعفي النسب ، صلبه منهم ، وقد ادعى حين كان مع بني كلب بأرض السماوة قريبا من حمص أنه علوي ثم حسني ، ثم ادعى أنه نبي ، فاتبعه جماعة من جهلتهم وسفلتهم ، وزعم أنه أنزل عليه قرآن ، فمن ذلك : والنجم السيار ، والفلك الدوار ، والليل والنهار ، إن الكافر لفي أخطار ، امض على سنتك واقف أثر من كان قبلك من المرسلين ، فإن الله قامع بك من ألحد في دينه ، وضل عن سبيله . وهذا من خذلانه ، وكثرة هذيانه في قرآنه ، ولو لزم قافية مدحه ، والهجاء لكان أشعر الشعراء وأفصح الفصحاء ، ولكن أراد بجهله وقلة عقله أن يقول ما يشبه كلام رب الأرض والسماء ، الذي لا يشبهه شيء من الأشياء ، لا في ذاته ولا في صفاته ، ولا في أفعاله وأحواله ، تعالى الله خالق الأشياء .

ولما اشتهر خبره بأرض السماوة ، وأنه قد التف عليه جماعة من أهل الغباوة ، خرج إليه نائب حمص من جهة بني الإخشيد وهو الأمير لؤلؤ - بيض الله وجهه - فقاتله وشرد شمله ، وأسره وسجنه دهرا طويلا ، فمرض في السجن ، وأشرف على التلف ، فاستحضره واستتابه ، وكتب عليه كتابا اعترف فيه ببطلان [ ص: 276 ] ما ادعاه ، وأنه قد تاب من ذلك ، ورجع إلى دين الإسلام ، وأطلق سراحه ، فكان بعد ذلك إذا ذكر بهذا يجحده إن أمكنه جحده وإلا اعتذر منه واستحيا ، وقد اشتهر بلفظة تدل على كذبه فيما كان ادعاه من الإفك والبهتان ، وهي لفظة " المتنبي " الدالة على الكذب ، ولله الحمد والمنة .

وقد قال بعضهم يهجوه :


أي فضل لشاعر يطلب الفض     ل من الناس بكرة وعشيا
عاش حينا يبيع في الكوفة الما     ء وحينا يبيع ماء المحيا

وللمتنبي ديوان مشهور في الشعر ، فيه أشعار رائقة ومعان ليست بمسبوقة ، بل مبتكرة سابقة ، وهو في الشعراء المحدثين كامرئ القيس في الشعراء المتقدمين - وهو عندي بخط يده - فيما ذكر من له خبرة بهذه الأشياء ، مع تقدم أمره .

وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في " منتظمه " قطعا رائقة استحسنها من ديوانه ، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر شيخ إقليمه وحافظ زمانه .

فمما استملحه أستاذ الوعاظ الشيخ أبو الفرج بن الجوزي قول المتنبي :


عزيز أسى من داؤه الحدق النجل     عياء به مات المحبون من قبل
فمن شاء فلينظر إلي فمنظري     نذير إلى من ظن أن الهوى سهل
[ ص: 277 ] جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي     فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
ومن جسدي لم يترك السقم شعرة     فما فوقها إلا وفيه له فعل
كأن رقيبا منك سد مسامعي     عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
كأن سهاد الليل يعشق مقلتي     فبينهما في كل هجر لنا وصل

ومن ذلك قوله :


كشفت ثلاث ذوائب من شعرها     في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها     فأرتني القمرين في وقت معا

ومن ذلك قوله :


ما نال أهل الجاهلية كلهم     شعري ولا سمعت بسحري بابل
وإذا أتتك مذمتي من ناقص     فهي الشهادة لي بأني فاضل
من لي بفهم أهيل عصر يدعي     أن يحسب الهندي منهم باقل

ومن ذلك قوله :


ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى     عدوا له ما من صداقته بد

وقوله :

[ ص: 278 ]

وإذا كانت النفوس كبارا     تعبت في مرادها الأجسام

وقوله :


ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت     على عينه حتى يرى صدقها كذبا

وله أيضا :


خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به     في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

وله في مدح بعض الملوك الذين كانوا يستمنح منهم العطاء :


تمضي المواكب والأبصار شاخصة     منها إلى الملك الميمون طائره
قد حرن في بشر في تاجه قمر     في درعه أسد تدمى أظافره
حلو خلائقه شوس حقائقه     يحصى الحصى قبل أن تحصى مآثره

ومنها قوله :


يا من ألوذ به فيما أؤمله     ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره     ولا يهيضون عظما أنت جابره

وقد بلغني عن شيخنا العلامة أبي العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله - أنه [ ص: 279 ] كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة ، ويقول : إنما يصلح هذا لجناب الله عز وجل .

وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم - رحمه الله - أنه سمع الشيخ يقول : ربما قلت هذين البيتين في السجود .

ومما أورده الحافظ أبو القاسم بن عساكر من شعر المتنبي في ترجمته قوله :


وبعين مفتقر إليك رأيتني     فهجرتني ونزلت بي من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني     أنزلت حاجاتي بغير الخالق

قال القاضي ابن خلكان : وهذان البيتان ليسا في ديوانه ، وقد عزاهما الحافظ الكندي إليه بسند صحيح .

ومن ذلك قوله :


إذا غامرت في شرف مروم     فلا تقنع بما دون النجوم
[ ص: 280 ] فطعم الموت في أمر حقير     كطعم الموت في أمر عظيم

ومن ذلك قوله :


وما أنا بالباغي على الحب رشوة     قبيح هوى يرجى عليه ثواب
إذا نلت منك الود فالمال هين     وكل الذي فوق التراب تراب

وقد تقدم أنه ولد بالكوفة سنة ست وثلاثمائة ، وأنه قتل في رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة .

قال ابن خلكان : وقد فارق سيف الدولة بن حمدان سنة ست وأربعين ; لما كان من ابن خالويه ما كان من ضربه إياه بمفتاح في وجهه فأدماه ، فصار إلى مصر ، فامتدح كافورا الإخشيدي ، وأقام عنده أربع سنين ، وكان المتنبي يركب في جماعة من مماليكه ، فتوهم منه كافور فجأة ، فخاف منه المتنبي فهرب ، فأرسل في إثره فأعجزه ، فقيل لكافور : ما قيمة هذا حتى تتوهم منه ؟ فقال : هذا رجل أراد أن يكون نبيا بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، أفلا يروم أن يكون ملكا بديار مصر ؟

ثم صار المتنبي إلى عضد الدولة ، فامتدحه فأعطاه مالا كثيرا ، ثم رجع من عنده ، فعرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي ، فقتله وابنه محسدا وغلامه [ ص: 281 ] مفلحا يوم الأربعاء لست بقين من رمضان ، وقيل : لليلتين بقيتا من رمضان . وقيل : يوم الاثنين لثمان - وقيل : لخمس - بقين منه . وذلك بسواد بغداد .

وقد رثاه الشعراء ، وقد شرح ديوانه العلماء بالشعر واللغة نحوا من ستين شرحا وجيزا وبسيطا .

التالي السابق


الخدمات العلمية