صفحة جزء
ذكر شيء من أخبار عضد الدولة

أبو شجاع بن ركن الدولة أبو علي الحسن بن بويه الديلمي ، صاحب العراق ، وملك بغداد وغيرها .

[ ص: 411 ] وهو أول من تسمى " شاهنشاه " ، ومعناه ملك الملوك ، وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال أوضع اسم - وفي رواية : أخنع اسم - عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ، لا ملك إلا الله عز وجل .

وهو أول من ضربت له الدبادب ببغداد ، وأول من خطب له بها مع الخليفة .

وذكر ابن خلكان أنه امتدحه الشعراء بمدائح هائلة كالمتنبي وغيره ، فمن ذلك قول أبي الحسن محمد بن عبد الله السلامي في قصيدة له :


إليك طوى عرض البسيطة جاعل قصارى المطايا أن يلوح لها القصر     فكنت وعزمي في الظلام وصارمي
ثلاثة أشياء كما اجتمع النسر     وبشرت آمالي بملك هو الورى
ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر

ثم قال ابن خلكان : وهذا هو السحر الحلال .

وقال المتنبي أيضا :


هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى     ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق

قال ابن خلكان : وليس في الطلاوة كقول السلامي ، ولا استوفى المعنى كله ، فإنه لم يذكر الدهر .

وقال أبو بكر أحمد الأرجاني القاضي في قصيدة له بيتا ، فلم يلحق السلامي [ ص: 412 ] أيضا ، وهو قوله :


لقيته فرأيت الناس في رجل     والدهر في ساعة والأرض في دار

قال ابن خلكان وكتب إليه أفتكين مولى أخيه صاحب دمشق يستمده بجيش يقاتل به الفاطميين ، فكتب إليه عضد الدولة : غرك عزك ، فصار قصار ذلك ذلك ، فاخش فاحش فعلك ، فعلك بهذا تهدا . قال ابن خلكان : ولقد أبدع فيها كل الإبداع .

وقد جرى له من التعظيم من الخليفة ما لم يقع لأحد ممن كان قبله ، وقد ذكرنا أنه كان ذا همة وصرامة وعزم ، اجتهد في عمارة بغداد والطرقات ، وأجرى النفقات والصدقات على المجاورين بالحرمين وأهل البيوتات ، وحفر الأنهار ، وبنى المارستان العضدي ، وأدار السور على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا كله في مدة ملكه على العراق ، وكانت خمس سنين .

وقد كان عاقلا فاضلا ، حسن السياسة ، شديد الهيبة ، بعيد الهمة ، إلا أنه كان يتجاوز في سياسته الأمور الشرعية ، كان يحب جارية ، فألهته عن تدبير المملكة ، فأمر بتغريقها ، وبلغه أن غلاما له أخذ لرجل بطيخة ، فضربه بسيفه فقطعه نصفين ، وهذه مبالغة .

وكان سبب موته داء الصرع ، وحين أخذته علة موته لم يكن له كلام سوى تلاوة قوله تعالى ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه [ الحاقة : 28 ، 29 ] .

[ ص: 413 ] وحكى ابن الجوزي : أنه كان يحب العلم والفضيلة ، وكان يقرأ عنده " كتاب إقليدس " وكتاب النحو لأبي علي الفارسي ، وهو " الإيضاح والتكملة " الذي صنفه له وغير ذلك .

وقد ذكر أن له شعرا ، فمنه قوله ، وقد خرج مرة إلى بستان له فقال : أود لو جاء المطر ، فنزل المطر فأنشأ يقول :


ليس شرب الكأس إلا في المطر     وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى     ناغمات في تضاعيف الوتر
راقصات زاهرات نجل     رافلات في أفانين الحبر
مطربات محسنات مجن     رافضات الهم إبان الفكر
مبرزات الكأس من مخزنها     مسقيات الخمر من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها     مالك الأملاك غلاب القدر
سهل الله له بغيته     في ملوك الأرض ما دار القمر
وأراه الخير في أولاده     ليساس الملك فيهم بالغرر

قال : فيقال : إنه منذ قال : غلاب القدر ، لم يفلح بعدها . وذكر غيره : [ ص: 414 ] أن هذه الأبيات آخر ما أنشدت فيه بين يديه ، ثم كانت وفاته عقب ذلك ، وكانت وفاته في شوال من هذه السنة ، عن سبع أو ثمان وأربعين سنة ، وحمل إلى مشهد علي ، فدفن فيه .

وقد كتب على قبره في التربة التي بنيت له عند مشهد علي : هذا قبر عضد الدولة وتاج المملكة أبي شجاع بن ركن الدولة ، أحب مجاورة هذا الإمام المتقي لطمعه في الخلاص يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها [ النحل : 111 ] والحمد لله وصلواته على محمد وعترته الطاهرة .

وقد تمثل عند موته بهذه الأبيات ، وهي للقاسم بن عبيد الله :


قتلت صناديد الرجال فلم أدع     عدوا ولم أمهل على ظنه خلقا
وأخليت دور الملك من كل نازل     فشردتهم غربا وشردتهم شرقا
فلما بلغت النجم عزا ورفعة     وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهما فأخمد جمرتي     فها أنا ذا في حفرتي عاطلا ملقى
فأذهبت دنياي وديني سفاهة     فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى

ثم جعل يكرر هذه الآية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه إلى أن مات كما ذكرنا .

وأجلس ابنه صمصام الدولة على الأرض ، وعليه ثياب السواد ، وجاءه الخليفة الطائع معزيا ، وناح النساء عليه في الأسواق أياما كثيرة ، ولما انقضى العزاء [ ص: 415 ] ركب صمصامة إلى دار الخلافة ، فخلع عليه الخليفة سبع خلع ، وطوق وسور ، وألبسه التاج ، ولقبه شمس الدولة ، وولاه ما كان يتولاه أبوه من قبله ، وكان يوما مشهودا .

محمد بن جعفر بن أحمد بن جعفر بن الحسن بن وهب ، أبو بكر الحريري المعروف بزوج الحرة

سمع ابن جرير والبغوي وابن أبي داود وغيرهم ، وعنه ابن رزقويه وابن شاذان والبرقاني ، وقال : كان جليلا ، أحد العدول الثقات .

قال الخطيب وابن الجوزي : سبب تسميته بزوج الحرة أنه كان يدخل إلى مطبخ ابنة بدر مولى المعتضد ، التي كانت زوجة المقتدر بالله ، فلما توفي المقتدر ، وبقيت هذه المرأة سالمة من الكتاب والمصادرات ، كثيرة الأموال ، وكان هذا وهو غلام شاب حدث السن يحمل شيئا من حوائح الطعام على رأسه ، فيدخل به إلى مطبخها مع جملة الخدم ، وكان شابا رشيقا حركا ، فنفق على القهرمانة فقدمته حتى جعلته كاتبا على المطبخ ، ثم ترقت به الحال إلى أن صار وكيلا ينظر في الضياع والعقار ، ثم آل به الحال حتى صارت الست تحدثه من وراء الحجاب ، فعلقت به وأحبته ، وسألته أن يتزوج بها ، فاستصغر نفسه ، وخاف من غائلة ذلك ، فشجعته هي وأعطته مالا جزيلا ليظهر عليه من الحشمة والسعادة ما يناسبها ; ليتأهل لذلك ، ثم شرعت تهادي القضاة والأكابر ، ثم عزمت على [ ص: 416 ] تزويجه ، ورضيت به عند حضور القضاة ، واعترض أولياؤها عليها ، فغلبتهم بالمكارمات والهدايا ، ودخل عليها فمكثت معه دهرا طويلا ، ثم توفيت قبله ، فورث منها نحوا من ثلاثمائة ألف دينار ، وطال عمره بعدها حتى كانت وفاته في هذه السنة ، رحمه الله تعالى وإيانا بمنه وكرمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية