[ ص: 741 ] ثم دخلت 
سنة تسع وأربعين وأربعمائة فيها كان الغلاء والفناء مستمرين ببغداد وغيرها من البلاد بحيث خلت أكثر الدور وسدت على أهلها أبوابها بما فيها ، وأهلها فيها موتى ، وصار المار في الطريق لا يلقى إلا الواحد بعد الواحد ، وأكل الناس الجيف والميات من قلة الطعام ، ووجد مع امرأة فخذ كلب قد اخضر وأروح ، وشوى رجل صبية في الأتون وأكلها فقتل ، وسقط طائر ميت من سطح ، فاحتوشه خمسة أنفس ، فاقتسموه وأكلوه . وورد كتاب من بخارى أنه مات في يوم واحد منها ومن معاملتها ثمانية عشر ألف إنسان ، وأحصي من مات في هذا الوباء إلى أن كتب هذا الكتاب - يعني الوارد من بخارى - بألف ألف وخمسمائة ألف وخمسين ألف إنسان ، والناس يمرون في هذه البلاد ، فلا يرون إلا أسواقا فارغة وطرقات خالية ، وأبوابا مغلقة ، حكاه 
 nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي    . قال : وجاء الخبر من أذربيجان وتلك البلاد بالوباء العظيم ، وأنه لم يسلم إلا العدد القليل : ووقع وباء 
بالأهواز  وأعمالها وبواسط   
[ ص: 742 ] والنيل 
والكوفة  وطبق الأرض ، وكان أكثر سبب ذلك الجوع ، حتى كان الفقراء يشوون الكلاب ، وينبشون القبور ، ويشوون الموتى ويأكلونهم ، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات وتجهيزهم ودفنهم ، وقد كانت تحفر الحفيرة ، فيدفن فيها العشرون والثلاثون ، وكان الإنسان يكون قاعدا فينشق قلبه عن دم المهجة ، فيخرج إلى الفم منه قطرة ، فيموت الإنسان من وقته ، وتاب الناس ، وتصدقوا بأكثر أموالهم ، وأراقوا الخمور وكسروا المعازف وتصالحوا ، ولزموا المساجد لقراءة القرآن ، وقل دار يكون فيها خمر إلا مات أهلها كلهم . 
ودخل على مريض له سبعة أيام في النزع ، فأشار بيده إلى مكان فوجدوا فيه خابية من خمر ، فأراقوها فمات من فوره بسهولة . 
ومات رجل بمسجد ، فوجد معه خمسون ألف درهم ، فلم يقبلها أحد ، فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد ، فدخل أربعة فأخذوها ، فماتوا عليها . 
وكان الشيخ 
أبو محمد عبد الجبار بن محمد  يشتغل عليه سبعمائة متفقه ، فمات وماتوا كلهم إلا اثنى عشر نفرا منهم ، رحمهم الله تعالى . 
ولما اصطلح 
دبيس بن علي مع الملك طغرلبك  رجع إلى بلاده ، فوجدها خرابا لقلة أهلها ، فأرسل رسولا منه إلى بعض النواحي ، فتلقاه طائفة ، فقتلوه وأكلوه .  
[ ص: 743 ] قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي    : وفي يوم الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة احترقت 
قطيعة عيسى  ، 
وسوق الطعام  ، 
والكنيس  ، 
وأصحاب السقط  ، 
وباب الشعير  ، 
وسوق العطارين  ، 
وسوق العروس  ، 
والأنماط ،  والخشابين ، والجزارين ، والتمارين ، 
والقطيعة  ، 
وسوق محول  ، 
ونهر الدجاج  ، 
وسويقة غالب  والصفارين والصباغين ، وغير ذلك من المواضع ، وهذه مصيبة أخرى ما بالناس من الغلاء والفناء . 
وفيها كثر العيارون 
ببغداد  ، وأخذوا الأموال جهارا ، وكبسوا الدور ليلا ونهارا ، وكبست دار 
أبي جعفر الطوسي  متكلم 
الشيعة  ، وأحرقت كتبه ومنابره ودفاتره التي كان يستعملها في بدعته ، ويدعو إليها أهل نحلته ، ولله الحمد . 
وفيها دخل الملك 
طغرلبك  بغداد  عائدا إليها من 
الموصل  وقد تسلمها واستعادها من 
البساسيري  وسلمها إلى أخيه 
إبراهيم ينال  ، فأحسن فيهم السيرة ، وحسنت منه العلانية والسريرة ، فلله الحمد ، فتلقاه الأمراء والوزراء إلى أثناء الطريق ، وأحضر له رئيس الرؤساء خلعة من الخليفة فرجية مجوهرة فلبسها ،   
[ ص: 744 ] وقبل الأرض ، ثم بعد ذلك دخل دار الخلافة ، وقد ركب إليها فرسا من مراكب الخليفة ، فلما دخل على الخليفة إذا هو على سرير طوله سبعة أذرع ، وعلى كتفيه البردة النبوية ، وبيده القضيب ، فقبل الأرض ، ثم أجلس على سرير دون سرير الخليفة ، ثم قال الخليفة لرئيس الرؤساء : قل له : أمير المؤمنين حامد لسعيك ، شاكر لفعلك ، آنس بقربك ، وقد ولاك جميع ما ولاه الله من بلاده ، فاتق الله فيما ولاك ، واجتهد في عمارة البلاد ، وإصلاح العباد ، ونشر العدل ، وكف الظلم . ففسر له عميد الدولة ما قاله ، فقام وقبل الأرض وقال : أنا خادم أمير المؤمنين وعبده ، ومتصرف عن أمره ونهيه ، ومتشرف بما أهلني له ، واستخدمني فيه ، ومن الله أستمد المعونة والتوفيق . ثم أذن الخليفة في أن ينهض للبس الخلعة ، فقام إلى بيت في ذلك البهو ، فأفيض عليه سبع خلع وتاج ، ثم عاد فجلس على السرير بعد ما قبل يد الخليفة ، ورام تقبيل الأرض ، فلم يتمكن من التاج ، فأخرج الخليفة سيفا فقلده إياه وخاطبه بملك الشرق والغرب ، وأحضرت ثلاثة ألوية ، فعقد منها الخليفة بيده لواء يقال له : لواء الحمد ، وأحضر العهد فسلم إلى الملك ، وأوصاه الخليفة بتقوى الله تعالى ، والقيام بالحق في ذلك العهد ، وقرئ بين يدي الخليفة بحضرة الملك ، ثم نهض فقبل يد الخليفة ، ووضعها على عينيه ، ثم خرج في أبهة عظيمة ، وبين يديه الحجاب والجيش بكماله ، وجاء الناس للسلام عليه والتهنئة ، وأرسل إلى الخليفة بتحف عظيمة ; منها خمسون ألف دينار ، وخمسون غلاما أتراكا بمراكبهم   
[ ص: 745 ] وسلاحهم ومناطقهم ، وخمسمائة ثوب أنواعا ، وأعطى رئيس الرؤساء خمسة آلاف دينار ، وخمسين قطعة قماش . 
وفيها قبض صاحب 
مصر  على وزيره 
أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن البازوري  ، وأخذ خطه بثلاثة آلاف ألف دينار ، وأحيط على ثمانين من أصحابه ، وقد كان هذا الوزير فقيها حنفيا ، يحسن إلى أهل العلم وأهل الحرمين ، وقد كان الشيخ 
أبو يوسف القزويني  يثني عليه ويمدحه .