صفحة جزء
[ ص: 428 ] ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة

فيها كان فتح مصر على يدي الأمير أسد الدين شيركوه وفيها طغت الفرنج بالديار المصرية ، وذلك لما جعل لهم شحنة بها ، وتحكموا في أبوابها وسكنها أكثر شجعانها ، ولم يبق شيء من أن يستحوذوا عليها ويخرجوا منها أهلها من المسلمين ، فعند ذلك ركب أمداد الفرنج من كل ناحية وساروا صحبة مري ملك عسقلان في جحافل هائلة ، فأول ما أخذوا مدينة بلبيس ، فقتلوا منها خلقا وأسروا آخرين ، ونزلوا بها وتركوا فيها أثقالهم ، وجعلوها موئلا ومعقلا لهم ، ثم جاءوا فنزلوا على القاهرة من ناحية باب البرقية ، فأمر الوزير شاور الناس أن يحرقوا مصر وأن ينتقل الناس منها إلى القاهرة ، فنهب البلد وذهب للناس أموال كثيرة جدا ، وبقيت النار تعمل في مصر أربعة وخمسين يوما ، فعند ذلك أرسل صاحبها العاضد يستغيث بنور الدين ، وبعث إليه بشعور نسائه يقول : أدركني واستنقذ نسائي من أيدي الفرنج . والتزم له بثلث خراج مصر ، على أن يكون أسد الدين مقيما عندهم ، ولهم إقطاعات زائدة على الثلث ، فشرع نور الدين في تجهيز الجيوش إلى الديار المصرية ، فلما استشعر الوزير شاور بوصول المسلمين ، أرسل إلى ملك الفرنج يقول له : قد عرفت محبتي ومودتي ولكن [ ص: 429 ] العاضد والمسلمين لا يوافقوني على تسليم البلد . وصالحهم ليرجعوا عن البلد بألف ألف دينار ، وعجل لهم من ذلك بمائة ألف دينار ، فأخذوها وانشمروا راجعين إلى بلادهم ; خوفا من وصول نور الدين وطمعا في العودة إليها مرة ثانية ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين [ آل عمران : 54 ] . ثم شرع الوزير شاور في مطالبة الناس بتحصيل الذهب الذي صالح الفرنج عليه ، وضيق على الناس مع ما نالهم من الحريق والخوف ، فجبر الله مصابهم وأحسن مآبهم ، واستدعى الملك نور الدين الأمير أسد الدين شيركوه من حمص إلى حلب فساق في يوم واحد من حمص فدخل حلب في ذلك اليوم فسر بذلك نور الدين وتفاءل به فقدمه على العساكر التي قد جهزها للديار المصرية وأنعم عليه بمائتي ألف دينار ، وأضاف إليه من الأمراء والأعيان جماعة ، كل منهم يبتغي بمسيره ذلك رضا الرحمن وكان في جملتهم ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي ولم يكن منشرحا لخروجه هذا بل كان كارها له وقد قال الله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [ البقرة : 216 ] وأضاف إليه ستة آلاف من التركمان وسار هو وإياه من حلب إلى دمشق ، ثم جهزه إلى الديار المصرية بمن معه ، ولما وصلت الجيوش النورية إلى الديار المصرية ، وجدوا الفرنج قد انشمروا عن القاهرة راجعين إلى بلادهم بالصفقة الخاسرة ، وكان وصوله إليها في سابع ربيع الآخر ، فدخل الأمير أسد الدين على العاضد في ذلك اليوم ، فخلع عليه خلعة سنية فلبسها ، [ ص: 430 ] وعاد إلى مخيمه بظاهر البلد ، وفرح المسلمون بقدومه ، وأجريت عليهم الخيرات ، وحملت إليهم التحف والكرامات ، وخرج وجوه الناس إلى مخيم أسد الدين خدمة له ، وكان فيمن جاء إليه المخيم الخليفة العاضد متنكرا ، فأسر إليه أمورا مهمة ، منها قتل الوزير شاور ، وقرر ذلك معه وعظم أمر الأمير أسد الدين بمصر ، ولم يقدر الوزير شاور على منع شيء من ذلك ; لكثرة الجيش الذي مع أسد الدين ، ولكن شرع يماطل بما كان تقرر لهم وللملك نور الدين مما كانوا التزموا له ولهم ، وهو مع ذلك يتردد إلى الأمير أسد الدين ويركب معه ، وعزم على عمل ضيافة له ، فنهاه أصحابه عن الحضور خوفا عليه من غائلته وشاوروه في قتل شاور ، فلم يمكنهم الأمير أسد الدين من ذلك ، فلما كان في بعض الأيام جاء شاور إلى منزل الأمير أسد الدين ، فوجده قد ذهب لزيارة قبر الشافعي ، وإذا ابن أخيه صلاح الدين هنالك ، فعند ذلك أمر صلاح الدين بالقبض عليه ، ولم يمكنه قتله إلا بعد مشاورة عمه ، وانهزم أصحابه فأعلموا العاضد لعله يبعث ينقذه ، فأرسل إلى الأمير أسد الدين يطلب منه رأسه ، فقتل شاور وأرسلوا برأسه إلى العاضد في سابع عشر ربيع الآخر ففرح المسلمون بذلك ، وأمر أسد الدين بنهب دار شاور ، فنهبت ، ودخل أسد الدين على العاضد فاستوزره ، وخلع عليه خلعة عظيمة ، ولقبه الملك المنصور ، فسكن دار شاور وعظم شأنه هنالك ، ولما بلغ نور الدين خبر فتح مصر فرح بذلك وقصدته الشعراء بالتهنئة ، غير أنه لم ينشرح ; لكون أسد الدين صار وزيرا ، وكذلك لما انتهت الوزارة إلى ابن أخيه صلاح الدين [ ص: 31 ] وشرع في إعمال الحيلة في إزالة ذلك فلم يتمكن ، ولا قدر عليه ; ولا سيما أنه بلغه أن . صلاح الدين استحوذ على خزائن العاضد كما سيأتي بيانه والله أعلم .

وأرسل أسد الدين إلى القصر يطلب كاتبا ، فأرسلوا إليه القاضي الفاضل ; رجاء أن يقبل منه إذا قال وأفاض فيما كانوا يؤملون ، وبعث أسد الدين العمال في الأعمال وأقطع الإقطاعات وولى الولايات ، وفرح بنفسه أياما معدودات فأدركه حمامه في يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة ، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام فلما توفي أسد الدين - رحمه الله - أشار الأمراء الشاميون على العاضد بتولية صلاح الدين يوسف الوزارة بعد عمه فولاه الوزارة وخلع عليه خلعة سنية ولقبه الملك الناصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية