صفحة جزء
فصل

لما رجع الحلبيون إلى حلب وقد انقلبوا شر منقلب وندموا على نقضهم الأيمان ومخالفتهم طاعة الرحمن وشقهم العصا على السلطان حصنوا البلد خوفا من وثوب الأسد ، وأسرع صاحب الموصل فوصلها ، وما صدق حتى دخلها ، وأما السلطان صلاح الدين فإنه لما فرغ من قسمة ما غنم مما تركه من عطب ومن سلم ، أسرع المسير إلى حلب الشهباء وهو في غاية السطوة والقوة والعزة القعساء ، فوجدهم قد حصنوها ، والقلعة قد أحكموها فقال : من المصلحة أن نبادر إلى فتح الحصون التي حول البلد ، ثم نعود إليهم فلا يمتنع علينا [ ص: 512 ] منهم أحد . فشرع يفتح الحصون حصنا حصنا ثم يعود إليهم ويهدم من أركان دولتهم ركنا ركنا ففتح بزاغة ومنبج ، ثم سار إلى عزاز فأرسل الحلبيون إلى سنان ، فأرسل جماعة من أصحابه ليقتلوا صلاح الدين فدخل طائفة منهم في جيشه في زي الجند فقاتلوا أشد القتال حتى اختلطوا بهم فوجدوا فرصة ذات يوم والسلطان ظاهر للناس فحمل عليه واحد منهم فضربه بسكين على رأسه فإذا هو محترس منهم باللأمة فسلمه الله غير أن السكين مرت على خده فجرحته جرحا هينا ثم أخذ الفداوي رأس السلطان فوضعه على الأرض ليذبحه ، ومن حوله قد أخذتهم دهشة ، ثم ثاب إليهم عقلهم فبادروا إلى الفداوي فقتلوه وقطعوه ثم هجم آخر في الساعة الراهنة على السلطان فقتل ، ثم هجم آخر على بعض الأمراء فقتل أيضا ، وهرب الرابع فأدرك فقتل ، وبطل القتال ذلك اليوم . ثم صمم السلطان على البلد ففتحه وأقطعه ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب وقد اشتد حنقه على أهل حلب لما فعلوا ولما أرسلوا من الفداوية إليه وإقدامهم عليه ، فجاء فنزل تجاه البلد على جبل جوشن وضربت خيمته على رأس البادوقية ، وذلك في خامس عشر ذي الحجة وجبى الأموال وأخذ الخراج من القرى ومنع أن يدخل البلد شيء أو يخرج منه شيء واستمر حصاره إياها حتى انسلخت السنة .

وفي ذي الحجة من هذه السنة عاد شمس الدولة تورانشاه أخو [ ص: 513 ] السلطان من بلاد اليمن ، وذلك من كثرة اشتياقه إلى أخيه وذويه وإلى الشام وطيبه وظلاله ; لأنه ضجر من حر اليمن ، وإن كان قد حصل على أموال جزيلة من ماله ، ففرح به أخوه الملك الناصر ، واشتد أزره بسببه ، ولما اجتمعا قال الناصر الناصح البر الوفي : أنا يوسف وهذا أخي ، وقد استناب شمس الدين على بلاد اليمن وإنما استناب على مخالفيها من لا يخالفه من ذي قراباته ومن له سالف المنن ، فلما استقر عند أخيه استنابه على دمشق وأعمالها ، وقيل : إن قدومه كان قبل وقعة المواصلة وكان من أكبر أسباب الفتح والنصر ; لشهامته وشجاعته وفروسيته وبسالته .

وفيها أنفذ تقي الدين عمر ابن أخي السلطان مملوكه بهاء الدين قراقوش في جيش إلى بلاد المغرب ففتح بلادا كثيرة هنالك وغنم أموالا جزيلة ثم عاد إلى مصر وطابت له وترك تلك البلاد .

وفيها قدم إلى دمشق الواعظ الكبير أبو الفتوح عبد السلام بن يوسف بن محمد بن مقلد التنوخي الدمشقي الأصل البغدادي المنشأ ذكره العماد في الخريدة ، قال : وكان صاحبي وجلس للوعظ وحضر عنده السلطان صلاح الدين . وأورد له مقطعات أشعار ، فمن ذلك ما كان يقول في مجلسه :


يا مالكا مهجتي يا منتهى أملي يا حاضرا شاهدا في القلب والفكر     خلقتني من تراب أنت خالقه
حتى إذا صرت تمثالا من الصور     أجريت في قالبي روحا منورة
تمر فيه كجري الماء في الشجر      [ ص: 514 ] جمعت بين صفا روح منورة
وهيكل صغته من معدن كدر     إن غبت فيك فيا فخري ويا شرفي
وإن حضرت فيا سمعي ويا بصري     إن احتجبت فسري فيك في وله
وإن خطرت فقلبي منك في خطر     تبدو فتمحو رسومي ثم تثبتها
وإن تغيبت عني عشت بالأثر



التالي السابق


الخدمات العلمية