صفحة جزء
[ ص: 516 ] ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة

استهلت هذه السنة والسلطان صلاح الدين محاصر حلب وقد أشرف منها على نيل الطلب ، فسألوه وتوسلوا إليه أن يصالحهم ، فصالحهم على أن تكون حلب وأعمالها للملك الصالح فقط ، فكتب بذلك الكتاب ، وأبرم الحساب ، فلما كان الليل بعث الملك الصالح إسماعيل إلى الملك الناصر يسأل منه زيادة قلعة عزاز ، على ما شرفه به من الإعزاز ، وأرسل بأخت له صغيرة وهي الخاتون بنت نور الدين ; ليكون ذلك أدعى إلى قبول السؤال ، وأنجع لحصول النوال ، فحين رآها الناصر قام كالقضيب الناضر ، وقبل الأرض ، وأجابها إلى سؤالها ، وأطلق لها من الجواهر والتحف ما رأى أنه عليه فرض ، ثم ترحل عن حلب فقصد الإسماعيلية الذين اعتدوا عليه فحاصر حصنهم مصياب فقتل وضرب وسبى ، وأخذ أبقارهم ، وخرب ديارهم ، وقصر أعمارهم ، حتى شفع فيهم خاله شهاب الدين محمود بن تكش صاحب حماة ; لأنهم جيرانه ، فقبل شفاعته ، وقد أحضر إليه نائب بعلبك الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن مقدم - [ ص: 517 ] الذي كان نائب دمشق - جماعة من أسارى الفرنج الذين عاثوا بالبقاع في غيبة السلطان واشتغاله بحصار مصياب ، فجدد له العزم على غزو الفرنج والانبعاث فصالح الإسماعيلية أصحاب سنان ، ثم كر راجعا إلى دمشق في حراسة الرحمن ، وقد تلقاه أخوه شمس الدولة تورانشاه فتسالما وتعانقا وتناشدا الأشعار ، ولما دخل السلطان إلى دمشق في سابع عشر صفر فوضها إلى أخيه شمس الدولة توارنشاه ولقبه الملك المعظم ، وعزم السلطان على السفر إلى مصر ، وكان القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري قد توفي في سادس المحرم من هذه السنة ، وقد كان من خيار القضاة ، وأخص الناس بنور الدين الشهيد ، فوض إليه نظر الجامع ودار الضرب وعمارة الأسوار والنظر في المصالح العامة .

ولما حضرته الوفاة أوصى بالقضاء لابن أخيه ضياء الدين بن تاج الدين الشهرزوري ، فأمضى ذلك السلطان الملك الناصر صلاح الدين ; رعاية لحق الكمال الشهرزوري ، مع أنه كان يجد عليه ; بسبب ما كان بينه وبينه حين كان صلاح الدين شحنة بدمشق ، وكان يعاكسه ويخالفه ، ومع هذا أمضى وصيته لابن أخيه ، فجلس في مجلس القضاء على عادة عمه وقاعدته ورسمه ، وبقي في نفس السلطان من تولية شرف الدين أبى سعد عبد الله بن أبي عصرون الحلبي ، وكان قد هاجر إلى السلطان إلى دمشق فوعده أن يوليه قضاءها ، فأسر بذلك إلى القاضي الفاضل ، فأشار القاضي الفاضل على الضياء أن يستعفي من [ ص: 518 ] القضاء فاستعفى فأعفي ، وترك له وكالة بيت المال ، وولى السلطان ابن أبي عصرون على أن يستنيب القاضي محيي الدين أبا المعالي محمد بن زكي الدين ، والأوحد ، عنه ففعل ذلك ، ثم بعد سنوات استقل بالحكم محيي الدين ; أبو حامد بن أبي عصرون عوضا عن أبيه شرف الدين ; بسبب ضعف بصره .

وفي صفر من هذه السنة وقف السلطان الملك الناصر قرية حزم على الزاوية الغزالية ، ومن يشتغل بها بالعلوم الشرعية ، أو ما يحتاج إليه الفقيه ، وجعل النظر لقطب الدين النيسابوري مدرسها .

وفي هذا الشهر تزوج السلطان صلاح الدين بالست خاتون عصمة الدين بنت معين الدين أنر ، وكانت زوجة الملك نور الدين محمود ، فأقامت بعده في القلعة محترمة مكرمة ، وولي تزويجها منه أخوها الأمير سعد الدين مسعود بن أنر ، وحضر القاضي ابن أبي عصرون العقد ، ومن معه من العدول ، وبات الناصر عندها تلك الليلة والتي بعدها ، ثم سافر إلى مصر بعد يومين من الدخول بها ، فركب يوم الجمعة قبل الصلاة فنزل بمرج الصفر ، ثم سافر فعشا قريبا من الصنمين ، ثم أجد السير حتى كان دخوله الديار المصرية يوم السبت سادس عشر ربيع الأول من هذه السنة في أبهة الملك . وقد تلقاه أخوه [ ص: 519 ] ونائبه الملك العادل سيف الدين أبو بكر إلى عند بحر القلزم ومعه من الهدايا شيء كثير ولا سيما المآكل المتنوعة ، وكان في صحبة السلطان العماد الكاتب ، ولم يكن ورد الديار المصرية قبل ذلك ، فشرع يذكر محاسنها ، وما اختصت به من بين البلدان ، ووصف الهرمين ، وشبههما بأنواع من التشبيهات ، وبالغ في ذلك حسب ما ذكر في " الروضتين " .

وفي شعبان ركب السلطان الناصر بن أيوب إلى الإسكندرية فأسمع ولديه الأفضل عليا ، والعزيز عثمان على الحافظ السلفي ، وتردد بهما إليه ثلاثة أيام ; الخميس والجمعة والسبت رابع رمضان ، وعزم السلطان على الصيام بها ، وقد كمل عمارة السور على البلد ، وأمر بتجديد الأسطول وإصلاح مراكبه وسفنه وشحنه بالرجال والمقاتلة ، وأمرهم بغزو جزائر البحر ، وأقطعهم الإقطاعات الجزيلة ، وأرصد لصالح الأسطول من بيت المال ما يكفيه لجميع شئونه ، ثم عاد إلى القاهرة في أثناء رمضان فأكمل صومه بها .

وفيها أمر الناصر صلاح الدين ببناء مدرسة للشافعية على قبر الإمام الشافعي ، وجعل الشيخ نجم الدين الخبوشاني مدرسها وناظرها .

وفيها أمر ببناء المارستان بالقاهرة ، ووقف عليه أوقافا كثيرة . وفيها بنى الأمير مجاهد الدين قايماز نائب قلعة الموصل جامعا حسنا ورباطا ومدرسة ومارستانا [ ص: 520 ] متجاورات بظاهر مدينة الموصل وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمس وتسعين وخمسمائة ، وله عدة مدارس وخانقاهات وجوامع غير ما ذكرنا ، وكان دينا خيرا فاضلا حنفي المذهب ، يذاكر في الأدب والأشعار والفقه ، كثير الصيام وقيام الليل - قدس الله روحه .

وفيها أخرج المجذومون من أهل بغداد إلى ناحية منها ليتميزوا عن أهل العافية - نسأل الله العافية بفضله وكرمه - وذكر ابن الجوزي في " المنتظم " عن امرأة أنها قالت " كنت أمشي في الطريق وكأن رجلا يعارضني كلما مررت به ، فقلت له : إنه لا سبيل إلى هذا الذي ترومه مني إلا بكتاب ، فتزوجني عند الحاكم ، فمكثت معه مدة ثم اعتراه انتفاخ ببطنه فكنا نظن أن به استسقاء فنداويه لذلك ، فلما كان بعد مدة ولد ولدا كما تلد النساء ، وإذا هو خنثى مشكل ، وهذا من أغرب الأشياء . والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية