صفحة جزء
[ ص: 569 ] ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

استهلت هذه السنة والسلطان مخيم بظاهر حماة ،
فسار إلى حلب وتلقاه أخوه العادل ، واجتمعت إليه العساكر ، فخرج منها في صفر ; لقصد الموصل فقطع الفرات ، وجاء إلى حران فقبض على صاحبها مظفر الدين بن زين الدين ، وهو أخو زين الدين صاحب إربل ، ثم رضي عنه ، وأعاده إلى مملكته حتى يتبين حسن طويته ، ثم سار منها إلى الموصل فتلقاه الملوك من كل ناحية ، وجاء إلى خدمته عماد الدين أبو بكر بن قرا أرسلان صاحب بلاد بكر وآمد ، ثم بلغه موت أخيه نور الدين أرسلان ، فطلب دستورا ; لأخذ مملكته فأعطاه ، وسار السلطان فنزل على الإسماعيليات قريبا من الموصل وجاءه صاحب إربل زين الدين وهو ممن خضع له ملوك تلك الناحية - كما تقدم - وأرسل السلطان ضياء الدين بن كمال الدين الشهرزوري إلى الخليفة يعلمه بما عزم عليه من حصار الموصل وإنما مقصوده ردهم إلى طاعة الإمام ، ونصرة الإسلام ، فحاصرها مدة ، ثم ترحل عنها في آخر ربيع الأول ولم يفتحها ، وسار إلى خلاط واستحوذ على بلدان كثيرة ، وأقاليم جمة ببلاد الجزيرة وديار بكر ، وجرت أمور طويلة قد استقصاها ابن الأثير في " الكامل " وصاحب " الروضتين " ، ثم وقع الصلح بينه وبين المواصلة ، على أن يكونوا من جنده إذا ندبهم لقتال الفرنج ، وعلى أن [ ص: 570 ] يخطب له ، وتضرب السكة باسمه ، ففعل ذلك في تلك البلاد كلها ، وانقطعت خطبة السلاجقة والأزيقية بتلك البلاد كلها ، واتفق الحال وزال الإشكال .

واتفق أنه مرض بعد هذا مرضا شديدا ، وهو يتجلد ولا يظهر شيئا من التألم حتى قوي عليه الأمر وتزايد الحال ، حتى وصل إلى حران فخيم هنالك من شدة ألمه ، وشاع ذلك في البلاد ، فخاف الناس عليه وأرجف الكفرة والملحدون ، وخاف أهل البر والمؤمنون ، وقصده أخوه أبو بكر العادل من حلب بالأطباء والأدوية ، فوجده في غاية الضعف ، وأشار عليه بأن يوصي ويعهد ، فقال : ما أبالي وأنا أترك من بعدي أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - يعني أخاه العادل صاحب حلب وتقي الدين عمر صاحب حماة وهو إذ ذاك نائب مصر وهو بها مقيم ، وابنيه العزيز عثمان والأفضل عليا - ثم نذر لله تعالى لئن شفاه الله من مرضه هذا ليصرفن همته كلها إلى قتال الكفار ، ولا يقاتل بعد ذلك مسلما ، وليجعلن أكبر همه فتح بيت المقدس ولو صرف في سبيل ذلك جميع ما يملكه من الأموال والذخائر وليقتلن البرنس صاحب الكرك بيده ; وذلك لأنه نقض العهد الذى عاهد السلطان عليه فغدر بقافلة من تجار مصر ، فأخذ أموالهم ، وضرب رقابهم صبرا بين يديه ، وهو يقول : أين محمدكم ينصركم ؟ وكان هذا النذر كله بإشارة القاضي الفاضل ، رحمه الله ، وهو الذي أرشده إلى ذلك وحثه عليه ، حتى عقده مع الله عز وجل ، فشفاه الله عز وجل ، وعافاه مما كان ابتلاه به من ذلك المرض الذي كان فيه ; كفارة لذنوبه ورفع لدرجته ونصرة للإسلام وأهله ، وجاءت البشائر بذلك من كل ناحية ، وزينت البلاد ، ولله الحمد والمنة .

وكتب القاضي الفاضل من دمشق وهو مقيم بها إلى المظفر تقي الدين عمر [ ص: 571 ] نائب مصر لعمه الناصر ; أن العافية الناصرية قد استفاضت أخبارها ، وأنوارها وآثارها ، وولت العلة ، ولله الحمد ، وأطفئت نارها ، وانجلى غبارها ، وخمد شرارها ، وما كانت إلا فلتة وقى الله شرها ، وعظيمة كفى الله الإسلام أمرها ، ونوبة امتحن الله بها نفوسنا ، فرأى أقل ما عندها صبرها ، وما كان الله ليضيع الدعاء وقد أخلصته القلوب ، ولا ليوقف الإجابة وإن سدت طريقها الذنوب ، ولا ليخلف وعد فرج وقد أيس الصاحب والمصحوب .


نعي زاد فيه الدهر ميما فأصبح بعد بؤساه نعيما     وما صدق النذير به لأني
رأ‍يت الشمس تطلع والنجوما

وقد استقبل مولانا السلطان الملك الناصر العافية غضة جديدة ، والعزمة ماضية حديدة ، والنشاط إلى الجهاد ، والجنة مبسوطة البساط ، وقد انقضى الحساب وجزنا الصراط ، وعرضنا نحن على الأهوال التي من خوفها كاد الجمل يلج في سم الخياط .

ثم ركب السلطان من حران بعد العافية فدخل حلب ثم اجتاز بحماة وحمص ، ودخل إلى دمشق وقد تكاملت عافيته ، وقد كان يوم دخله إليها يوما مشهودا وصباحا محمودا ، ولله المنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية