صفحة جزء
فصل

في تزويجه صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها ، بعائشة بنت الصديق ، وسودة بنت زمعة رضي الله عنهما

والصحيح أن عائشة - تزوجها أولا لما سيأتي; قال البخاري في باب تزويج عائشة : حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا وهيب ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : أريتك في المنام مرتين; أرى أنك في [ ص: 325 ] سرقة من حرير ، ويقول : هذه امرأتك ، فاكشف عنها . فإذا هي أنت ، فأقول : إن يك هذا من عند الله ، يمضه " .

قال البخاري : باب نكاح الأبكار : وقال ابن أبي مليكة : قال ابن عباس لعائشة : لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرك . حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني أخي ، عن سليمان بن بلال ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قلت : يا رسول الله ، أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها ، ووجدت شجرة لم يؤكل منها ، في أيها كنت ترتع بعيرك ؟ قال : " في التي لم يرتع منها " تعني : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها . انفرد به البخاري .

ثم قال : حدثنا عبيد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أريتك في المنام مرتين ، إذا رجل يحملك في سرقة حرير ، فيقول : هذه امرأتك . فأكشفها فإذا هي أنت ، فأقول : إن يكن هذا من عند الله ، يمضه " . ورواه مسلم من طريق هشام بن عروة به .

ورواه البخاري في باب النظر إلى المرأة قبل التزويج ، ثنا مسدد ، ثنا حماد بن زيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أريتك في المنام يجيء بك الملك في سرقة من حرير ، فقال لي : [ ص: 326 ] هذه امرأتك . فكشفت عن وجهك الثوب ، فإذا أنت هي ، فقلت : إن يك هذا من عند الله ، يمضه " . - وفي رواية - : " أريتك في المنام ثلاث ليال " . وعند الترمذي : أن جبريل جاءه بصورتها في خرقة من حرير خضراء ، فقال : هذه زوجتك في الدنيا والآخرة .

وقال البخاري : باب تزويج الصغار من الكبار ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، عن يزيد ، عن عراك ، عن عروة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر ، فقال له أبو بكر : إنما أنا أخوك . فقال : " أنت أخي في دين الله وكتابه ، وهي لي حلال " . هذا الحديث ظاهر سياقه كأنه مرسل ، وهو عند البخاري والمحققين متصل; لأنه من حديث عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، وهذا من أفراد البخاري رحمه الله .

وقال يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بعد موت خديجة بثلاث سنين ، وعائشة يومئذ ابنة ست سنين ، وبنى بها وهي ابنة تسع ، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة ابنة ثماني عشرة سنة . وهذا غريب .

وقد روى البخاري ، عن عبيد بن إسماعيل ، عن أبي أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 327 ] بثلاث سنين ، فلبث سنتين أو قريبا من ذلك ، ونكح عائشة وهي بنت ست سنين ، ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين . وهذا الذي قاله عروة مرسل في ظاهر السياق كما قدمنا ولكنه في حكم المتصل في نفس الأمر . وقوله : تزوجها وهي ابنة ست سنين ، وبنى بها وهي ابنة تسع . ما لا خلاف فيه بين الناس ، وقد ثبت في الصحاح وغيرها . وكان بناؤه بها ، عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة .

وأما كون تزويجها كان بعد موت خديجة بنحو ثلاث سنين ، ففيه نظر; فإن يعقوب بن سفيان الحافظ ، قال : حدثنا الحجاج ، حدثنا حماد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة ، قبل مخرجه من مكة ، وأنا ابنة سبع - أو ست - سنين ، فلما قدمنا المدينة ، جاءني نسوة وأنا العب في أرجوحة ، وأنا مجممة ، فهيأنني وصنعنني ، ثم أتين بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة تسع سنين . فقوله في هذا الحديث " " متوفى خديجة " يقتضي أنه على أثر ذلك قريبا ، اللهم إلا أن يكون قد سقط من النسخة : بعد متوفى خديجة . فلا ينفي ما ذكره يونس بن بكير وأبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه . والله أعلم .

وقال البخاري : حدثنا فروة بن أبي المغراء حدثنا علي بن مسهر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت [ ص: 328 ] ست سنين ، فقدمنا المدينة ، فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج ، فوعكت فتمزق شعري فوفى لي جميمة ، فأتتني أمي أم رومان - وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي - فصرخت بي ، فأتيتها ما أدري ما تريد بي ، فأخذت بيدي ، حتى أوقفتني على باب الدار ، وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي ، ثم أخذت شيئا من ماء ، فمسحت به وجهي ورأسي ، ثم أدخلتني الدار ، فإذا نسوة من الأنصار في البيت ، فقلن : على الخير والبركة ، وعلى خير طائر ، فأسلمتني إليهن ، فأصلحن من شأني ، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى ، فأسلمنني إليه ، وأنا يومئذ بنت تسع سنين .

وقال الإمام أحمد في " مسند عائشة أم المؤمنين " : حدثنا محمد بن بشر ، ، حدثنا محمد بن عمرو ، ثنا أبو سلمة ويحيى ، قالا : لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون ، فقالت : يا رسول الله ، ألا تزوج ؟ قال : " من ؟ " قالت : إن شئت بكرا ، وإن شئت ثيبا . قال : " فمن البكر ؟ " قالت : ابنة أحب خلق الله إليك ، عائشة ابنة أبي بكر . قال : [ ص: 329 ] " ومن الثيب ؟ " قالت : سودة بنت زمعة ، قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول . قال : " فاذهبي فاذكريهما علي " . فدخلت بيت أبي بكر ، فقالت : يا أم رومان ، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة! قالت : وما ذاك ؟ قالت : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة . قالت : انتظري أبا بكر حتى يأتي . فجاء أبو بكر ، فقالت : يا أبا بكر ، ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة! قال : وما ذاك ؟ قالت : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة . قال : وهل تصلح له؟! إنما هي ابنة أخيه . فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، قال : " ارجعي إليه ، فقولي له : أنا أخوك ، وأنت أخي في الإسلام ، وابنتك تصلح لي " . فرجعت فذكرت ذلك له ، قال : انتظري . وخرج . قالت أم رومان : إن مطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه ، ووالله ما وعد وعدا قط فأخلفه - لأبي بكر - فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي ، وعنده امرأته أم الفتى . فقالت : يا ابن أبي قحافة ، لعلك مصب صاحبنا ، مدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك ؟ فقال أبو بكر للمطعم بن عدي : أقول هذه تقول ؟ قال : إنها تقول ذلك . فخرج من عنده ، وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعده ، فرجع فقال لخولة : ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدعته ، فزوجها إياه ، وعائشة يومئذ بنت [ ص: 330 ] ست سنين ، ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة ، فقالت : ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة . قالت : وما ذاك ؟ قالت : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك إليه . قالت : وددت ، ادخلي إلى أبي فاذكري ذلك له . وكان شيخا كبيرا قد أدركه السن ، قد تخلف عن الحج ، فدخلت عليه ، فحيته بتحية الجاهلية ، فقال : من هذه ؟ قالت : خولة بنت حكيم . قال : فما شأنك ؟ قالت : أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة . فقال : كفؤ كريم ، ماذا تقول صاحبتك ؟ قالت : تحب ذاك . قال : ادعيها لي . فدعتها ، قال : أي بنية ، إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك ، وهو كفؤ كريم ، أتحبين أن أزوجك به ؟ قالت : نعم . قال ادعيه لي . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه ، فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج ، فجعل يحثي في رأسه التراب ، فقال بعد أن أسلم : لعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب; أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة . قالت عائشة : فقدمنا المدينة ، فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح . قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا ، واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء ، فجاءتني أمي ، وإني لفي أرجوحة بين عذقين ترجح بي ، فأنزلتني من الأرجوحة ، ولي جميمة ففرقتها ، ومسحت وجهي بشيء من ماء ، ثم أقبلت تقودني ، حتى [ ص: 331 ] وقفت بي عند الباب ، وإني لأنهج حتى سكن من نفسي ، ثم دخلت بي ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا ، وعنده رجال ونساء من الأنصار ، فأجلستني في حجرة ، ثم قالت : هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم ، وبارك لهم فيك . فوثب الرجال والنساء فخرجوا ، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا ، ما نحرت علي جزور ، ولا ذبحت علي شاة ، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة ، كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دار إلى نسائه ، وأنا يومئذ ابنة تسع سنين .

وهذا السياق كأنه مرسل ، وهو متصل; لما رواه البيهقي من طريق أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا عبد الله بن إدريس الأودي عن محمد بن عمرو ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، قال : قالت عائشة : لما ماتت خديجة ، جاءت خولة بنت حكيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، ألا تزوج ؟ قال : " ومن ؟ " قالت : إن شئت بكرا ، وإن شئت ثيبا . قال : " من البكر ؟ ومن الثيب ؟ " قالت : أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك; عائشة ، وأما الثيب فسودة بنت زمعة ، قد آمنت بك واتبعتك . قال : " فاذكريهما علي " . وذكر تمام الحديث نحو ما تقدم . وهذا يقتضي أن عقده على عائشة كان متقدما على تزويجه بسودة بنت زمعة ، ولكن دخوله على سودة كان بمكة ، وأما دخوله على عائشة ، فتأخر إلى المدينة في السنة الثانية ، [ ص: 332 ] كما تقدم وكما سيأتي .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود ، حدثنا شريك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : لما كبرت سودة وهبت يومها لي ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لي بيومها مع نسائه . قالت : وكانت أول امرأة تزوجها بعدي

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد ، حدثني شهر ، حدثني عبد الله بن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب امرأة من قومه ، يقال لها : سودة ، وكانت مصبية كان لها خمسة صبية - أو ستة - من بعل لها مات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يمنعك مني ؟ " قالت : والله يا نبي الله ، ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي ، ولكني أكرمك أن يضغو هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة وعشية . قال : " فهل منعك مني غير ذلك ؟ " قالت : لا والله . قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرحمك الله إن خير نساء ركبن أعجاز الإبل صالح نساء قريش; أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه على بعل بذات يده " .

قلت : وكان زوجها قبله عليه السلام السكران بن عمرو ، أخو سهيل [ ص: 333 ] بن عمرو وكان ممن أسلم وهاجر إلى الحبشة ، كما تقدم ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضي الله عنه .

فهذه السياقات كلها دالة على أن العقد على عائشة كان متقدما على العقد بسودة ، وهو قول عبد الله بن محمد بن عقيل ، ورواه يونس عن الزهري ، واختار ابن عبد البر أن العقد على سودة قبل عائشة ، وحكاه عن قتادة وأبي عبيدة . قال : ورواه عقيل عن الزهري .

التالي السابق


الخدمات العلمية