صفحة جزء
[ ص: 684 ] ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة

وفيها كانت وفاة الملك العزيز صاحب مصر

وذلك أنه خرج إلى الصيد ، فلما كان ليلة الأحد العشرين من المحرم ، ساق خلف ذئب ، فكبا به الفرس فسقط عنه ، وكانت وفاته بعد أيام بعد رجوعه إلى البلد ، فنقل ودفن بداره ، ثم حول إلى عند تربة الشافعي ، وله سبع أو ثمان وعشرون سنة ؛ رحمه الله . ويقال : إنه كان قد عزم في هذه السنة على إخراج الحنابلة من بلده ، ويكتب إلى بقية إخوته أن يخرجوهم من بلادهم ، وشاع ذلك عنه وسمع منه وذاع وصرح به ، وكل ذلك من معلميه وخلطائه وعشرائه من الجهمية ، وقلة علمه بالقرآن والحديث ، فلما وقع ما وقع عظم قدر الحنابلة بديار مصر والشام عند الخاص والعام . وقيل : إن بعض صالحيهم دعا عليه ، فما هو إلا أن خرج إلى الصيد ، فكان هلاكه سريعا ، فالله أعلم .

وكتب القاضي الفاضل كتاب التعزية بالعزيز إلى عمه الملك العادل وهو مقيم على محاصرة ماردين ومعه العساكر ، وولده محمد الكامل ، وهو نائبه على بلاد الجزيرة المقاربة لبلاد الحيرة ، وصورة الكتاب : أدام الله سلطان مولانا الملك [ ص: 685 ] العادل ، وبارك في عمره وأعلا أمره بأمره ، وأعز نصر الإسلام بنصره ، وفدت الأنفس نفسه الكريمة ، وأصغر الله العظائم بنعمه فيه العظيمة ، وأحياه حياة طيبة يقف فيها هو والإسلام في مواقف الفتوح الجسيمة ، وينقلب عنها بالأمور المسلمة والعواقب السليمة ، ولا نقص له رجالا ولا عددا ، ولا أعدمه نفسا ولا ولدا ، ولا قصر له ذيلا ولا يدا ، ولا أسخن له قلبا ولا كبدا ، ولا كدر له خاطرا ولا موردا ، ولما قدر الله ما قدر في الملك العزيز ؛ رحمه الله ، وتحياته مكررة إليه من انقضاء مهله وحضور أجله ، كانت بديهة المصاب عظيمة ، وطالعة المكروه أليمة ، فرحم الله ذلك الوجه ونضره ، ثم إلى سبيل الجنة يسره


وإذا محاسن أوجه بليت فعفا الثرى عن وجهه الحسن



فأعزز على المملوك وعلى الأولياء بل على قلب مولانا ، لا سلبه ثياب العزاء ، لسرعة مصرعه وانقلابه إلى مضجعه ، ولباسه ثوب البلي قبل أن يبلى ثوب الشباب ، وزفه إلى التراب وسريره محفوف باللذات والأتراب ، وكانت مدة المرض بعد العود من الفيوم أسبوعين ، وكانت في الساعة السابعة من ليلة الأحد العشرين من المحرم ، والمملوك في حال تسطيرها مجموع بين مرض قلب وجسد ووجع أطراف وغليل كبد ، وقد فجع بهذا المولى ، والعهد بوالده - رحمه الله - غير بعيد ، والأسى عليه في كل يوم جديد .

ولما توفي العزيز ؛ رحمه الله ، خلف من الولد عشرة ذكور ، فعمد أمراؤه فملكوا عليهم ولده محمدا ، ولقبوه بالمنصور ، وجمهور الأمراء في الباطن مائلون إلى تمليك العادل ، ولكنهم استبعدوا مكانه ، فأرسلوا إلى الأفضل وهو بصرخد فأحضروه على البريد سريعا ، فلما حصل عندهم منع رفدهم ، ووجدوا الكلمة [ ص: 686 ] مختلفة عليه ، ولم يتم له ما صار إليه ، وخامر عليه أكابر الأمراء الناصرية ، وخرجوا من ديار مصر فأقاموا في بيت المقدس وأرسلوا يستحثون الجيوش العادلية ، فأقر ابن أخيه على السلطنة ، ونوه باسمه على السكة والخطبة في سائر ما هنالك من المملكة ، لكن استفاد بهذه السفرة أن أخذ جيشا كثيفا من المصريين ، وأقبل بهم ليسترد دمشق في غيبة عمه بمحاصرة ماردين وذلك بإشارة أخيه صاحب حلب وابن عمه ملك حمص أسد الدين . فلما انتهى إليها ونزل حواليها ، قطع أنهارها وعقر أشجارها وقلل ثمارها ونزل بمخيمه على مسجد القدم ، وقد لحقه الأسف والندم ، وجاء إليه أخوه الظاهر وابن عمه الأسد الكاسر والليث الكاشر وجيش حماة ، فكثر جيشه وقوي الأفضل بن الناصر ، وقد دخل جيشه إلى البلد ، ونادوا بشعاره ، فلم يتابعهم من العامة أحد وأقبل العادل من ماردين بعساكره ، وقد التف عليه طائفة بني أخيه وأمده كل مصر بأكابره ، وسبق الأفضل إلى دمشق بيومين فحصنها وحفظها من كل حاسد وذي عينين ، وقد استناب على ماردين ولده محمدا الكامل رئيس السلاطين .

ولما دخل دمشق خامر إليه أكثر الأمراء من المصريين وغيرهم وضعف أمر الأفضل ويئس من برهم وخيرهم ، فأقام محاصرا البلد بمن معه حتى انسلخ الحول وهو كذلك ، ثم انفصل الحال في أول السنة الآتية ، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

وفيها شرع في بناء سور بغداد بالآجر والكلس ، وفرق على الأمراء ، وكملت عمارته بعد هذه السنة ، فأمنت بغداد من الغرق والحصار ، ولم يكن لها سور قبل ذلك .

[ ص: 687 ] وفي هذه السنة توفي

السلطان الكبير أبو محمد يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن

، صاحب المغرب والأندلس بمدينته سلا ، وكان قد ابتنى عندها مدينة مليحة سماها المهدية ، وقد كان دينا حسن السيرة ، صحيح السريرة ، وكان مالكي المذهب ، ثم صار ظاهريا حزميا ، ثم مال إلى مذهب الشافعي ، واستقضى في بعض بلاده منهم قضاة ، وكانت مدة ملكه خمس عشرة سنة ، وكان كثير الجهاد ؛ رحمه الله ، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس ، وكان قريبا إلى المرأة والضعيف ، وهو الذي كتب إليه صلاح الدين يستنجده على الفرنج ، فلما لم يخاطبه بأمير المؤمنين غضب من ذلك ، ولم يجبه إلى ما طلب منه ، وقام بالملك بعده ولده محمد ، فسار كسيرة والده ، ورجع إليه كثير من البلدان اللاتي كانت قد عصت على أبيه ، ثم من بعد ذلك تفرقت بهم الأهواء ، وباد هذا البيت بعد الملك يعقوب .

وفي هذه السنة ادعى رجل أعجمي بدمشق أنه عيسى ابن مريم ، فأمر الأمير صارم الدين بزغش نائب القلعة ، بصلبه فصلب عند حمام العماد الكاتب ، خارج باب الفرج مقابل الطاحون التي بين البابين ، وقد باد هذا الحمام قديما ، وبعد صلبه بيومين ثارت العامة على الروافض وعمدوا إلى قبر رجل منهم بباب الصغير يقال له : وثاب . فنبشوه وصلبوه مع كلبين ، وذلك في ربيع الآخر منها .

[ ص: 688 ] وفي هذه السنة وقعت فتنة كبيرة ببلاد خراسان وكان سببها أن فخر الدين محمد بن عمر الرازي أستاذ المتكلمين في زمانه وفد إلى الملك غياث الدين الغوري صاحب غزنة ، فأكرمه وبنى له مدرسة بهراة ، وكان أكثر الغورية كرامية ; فأبغضوا الرازي وأحبوا إبعاده عن الملك ، فجمعوا له جماعة من الفقهاء الحنفية والكرامية ، وخلقا من الشافعية ، وحضر ابن القدوة ، وكان شيخا معظما في الناس ، وهو على مذهب ابن كرام وابن الهيصم ، فتناظر هو والرازي ، وخرجا من المناظرة إلى السب والشتم ، فلما كان من الغد اجتمع الناس في المسجد الجامع ، وقام واعظ فتكلم ، فقال في خطبته : أيها الناس إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما علم أرسطاطاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي ، فلا نعلمها ، ولأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام ، يذب عن دين الله وسنة رسوله . قال : فبكى الناس وضجوا ، وبكت الكرامية واستغاثوا ، وأعانهم على ذلك قوم من خواص الناس ، وأنهوا إلى الملك صورة ما وقع ، فأمر بإخراج الرازي من بلاده ، وعاد إلى هراة ; فلهذا أشرب قلب الرازي بغض الكرامية ، وصار يلهج بهم في كلامه في كل موطن ، وكلما هبت الصبا .

وفي هذه السنة وقع الرضا عن الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي ، شيخ الوعاظ في زمانه وبعده ، وقد كان أخرج من بغداد إلى واسط فأقام بها خمس سنين فانتفع به أهلها واشتغلوا عليه واستفادوا منه ، فلما عاد إلى بغداد خلع عليه الخليفة وأذن له في الجلوس على عادته عند التربة الشريفة المجاورة لقبر معروف الكرخي ، فكثر الجمع جدا ، وحضر الخليفة ، وأخذ في العتاب ، وأنشد يومئذ فيما يخاطب به الخليفة :


لا تعطش الروض الذي نبته     بصوب إنعامك قد روضا
[ ص: 689 ] لا تبر عودا أنت قد رشته     حاشا لباني المجد أن ينقضا
إن كان لي ذنب ولم آته     فاستأنف العفو وهب لي الرضا
قد كنت أرجوك لنيل المنى     فاليوم لا أطلب إلا الرضا

ومما أنشده يومئذ :


شقينا بالنوى زمنا فلما     تلاقينا كأنا ما شقينا
سخطنا عندما جنت الليالي     وما زالت بنا حتى رضينا
ومن لم يحي بعد الموت يوما     فإنا بعد ما متنا حيينا



وفي هذه السنة استدعى الخليفة الناصر قاضي الموصل ضياء الدين بن الشهرزوري ، فولاه قضاء قضاة بغداد . وفي هذه السنة وقعت فتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي ; وذلك أنه كان يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الأموي ، فذكر يوما شيئا من العقائد فاجتمع القاضيمحيي الدين بن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم والأمير صارم الدين بزغش ، فعقد له مجلس فيما يتعلق بمسألة الاستواء على العرش والنزول والحرف والصوت ، فوافق النجم الحنبلي بقية الفقهاء واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه واجتمع بقية الفقهاء عليه وألزموه بإلزامات شنيعة لم يلتزمها ، حتى قال له الأمير بزغش : كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدك على الحق ؟ ! قال : نعم . فغضب الأمير عند ذلك ، وأمر بنفيه من البلد ، فاستنظره ثلاثة أيام ، فأنظره ، وأرسل بزغش الأسارى من القلعة [ ص: 690 ] ، فكسروا منبر الحافظ ، وتعطلت صلاة الظهر يومئذ في محراب الحنابلة ، وأخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك ، وجرت خبطة شديدة ، نعوذ بالله من الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، وكان عقد المجلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة ، فارتحل الحافظ عبد الغني إلى بعلبك ، ثم سار إلى الديار المصرية ، فآواه المحدثون ، فحنوا عليه وأكرموه .

التالي السابق


الخدمات العلمية