صفحة جزء
وممن توفي فيها من المشاهير والأعيان :

الشيخ أبو الفرج بن الجوزي عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبد الله بن حمادى بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي - نسبة إلى فرضة [ ص: 707 ] نهر بالبصرة - ابن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، الشيخ الحافظ الواعظ جمال الدين أبو الفرج ، المشهور بابن الجوزي ، القرشي التيمي البغدادي الحنبلي ، أحد أفراد العلماء ، برز في كثير من العلوم ، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوا من ثلاثمائة مصنف ، وكتب بيده نحوا من ألفي مجلدة ، وتفرد بفن الوعظ الذي لم يسبق إلى مثله ، ولا يلحق شأوه في طريقته وشكله ، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبة كلامه ، وحلاوة ترصيعه ، ونفوذ وعظه ، وغوصه على المعاني البديعة ، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية ، بعبارة وجيزة سريعة ، هذا وله في العلوم كلها اليد الطولى ، والمشاركات في سائر أنواع العلوم من التفسير والحديث والتاريخ والحساب ، والنظر في النجوم ، وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المقام عن تعدادها ، وحصر أفرادها ; منها كتابه في التفسير المشهور ب " زاد المسير " وله أبسط منه ولكنه ليس بمشهور ولا منكور ، وله " جامع المسانيد " استوعب فيه غالب " مسند الإمام أحمد " و " صحيحي البخاري ومسلم " و " جامع الترمذي " ، وله كتاب " المنتظم في تواريخ الأمم من العرب والعجم " في عشرين مجلدا ، قد أوردنا في كتابنا هذا كثيرا من حوادثه وتراجمه ، فلم يزل يؤرخ أخبار العالم حتى صار هو تاريخا ، وما أحقه بقول الشاعر :


ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدا حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا

وله مقامات وخطب ، وله " الأحاديث الموضوعة " و " العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " وغير ذلك .

ولد سنة عشر وخمسمائة ، ومات أبوه وعمره ثلاث سنين ، وكان أهله تجارا [ ص: 708 ] في النحاس ، فلما ترعرع جاءت به عمته إلى مسجد محمد بن ناصر الحافظ ، فلزم الشيخ ، وسمع عليه الحديث ، وتفقه بابن الزاغوني ، وحفظ الوعظ ، ووعظ وهو دون العشرين ، وأخذ اللغة عن أبي منصور الجواليقي ، وكان صينا دينا ، مجموعا على نفسه لا يخالط أحدا ، ولا يأكل مما فيه شبهة ، ولا يخرج من بيته إلا للجمعة ، وقد حضر مجلس وعظه الخلفاء والوزراء والملوك والأمراء والعلماء والفقراء ، ومن سائر صنوف بني آدم ، وأقل ما كان يجتمع في مجلسه عشرة آلاف ، وربما اجتمع فيه مائة ألف أو يزيدون ، وربما تكلم من خاطره على البديهة نظما ونثرا ؛ رحمه الله .

وبالجملة كان أستاذا فردا في الوعظ ، له مشاركات حسنة في بقية العلوم ، وقد كان فيه بهاء ، وترفع في نفسه ، ويسمو بنفسه أكثر من مقامه ، وذلك ظاهر في نثره ونظمه ، فمن ذلك قوله :


ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا     وأكابد النهج العسير الأطولا
تجري بي الآمال في حلباته     طلق السعيد جرى مدى ما أملا
يفضي بي التوفيق فيه إلى الذي     أعمى سواي توصلا وتغلغلا
لو كان هذا العلم شخصا ناطقا     وسألته هل زرت مثلي قال لا



ومن شعره أيضا ، ويروى لغيره :


إذا قنعت بميسور من القوت     أصبحت في الناس حرا غير ممقوت
يا قوت نفسي إذا ما در خلفك لي     فلست آسى على در وياقوت

[ ص: 709 ] وله من النظم والنثر شيء كثير لا ينضبط ، وله كتاب مفرد سماه : " نظم الجمان في كان وكان " .

ومن لطائف كلامه قوله في الحديث : أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين إنما طالت أعمار من قبلنا لطول البادية ، فلما شارف الركب بلد الإقامة ، قيل لهم : حثوا المطي . وقال له رجل : أيما أفضل ؟ أجلس أسبح أو أستغفر ؟ فقال : الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور .

وسئل عمن أوصى وهو في السياق ، فقال : هذا طين سطوحه في كانون .

والتفت يوما إلى ناحية الخليفة المستضيء وهو في الوعظ فقال : يا أمير المؤمنين ; إن تكلمت خفت منك ، وإن سكت خفت عليك ، وإن قول القائل : اتق الله ، خير لكم من قوله : إنكم أهل بيت مغفور لكم . وكان عمر بن الخطاب يقول : إذا بلغني عن عامل أنه ظالم فلم أغيره ، فأنا الظالم . يا أمير المؤمنين ; وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينسى الجيعان ، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول : قرقر أو لا تقرقر ، والله لا سمنا ولا سمينا حتى يخصب الناس . قال : فتصدق المستضيء بمال جزيل ، وأطلق المحابيس ، وكسى خلقا من الفقراء .

ولد ابن الجوزي في حدود سنة عشر وخمسمائة ، كما تقدم ، وكانت [ ص: 710 ] وفاته في ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان من هذه السنة ، وله سبع وثمانون سنة ، وحملت جنازته على رءوس الناس ، فدفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد ، وكان يوما مشهودا ، حتى قيل : إنه أفطر جماعة من الناس بسبب شدة الحر وكثرة الزحام ؛ رحمه الله ، وقد أوصى أن تكتب على قبره هذه الأبيات :


يا كثير العفو عمن     كثر الذنب لديه
جاءك المذنب يرجو الصف     ح عن جرم يديه
أنا ضيف وجزاء الضي     ف إحسان إليه

وقد كان للشيخ جمال الدين بن الجوزي من الأولاد الذكور ثلاثة ; عبد العزيز ، وهو أكبر أولاده ، مات شابا في حياة والده في سنة أربع وخمسين ، ثم أبو القاسم علي ، وقد كان عاقا لوالده إلبا عليه في زمن المحنة وغيرها ، وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط ، فباعها بأبخس الأثمان ، ثم محيي الدين يوسف ، وكان أنجب الأولاد وأصغرهم ; ولد سنة ثمانين ووعظ بعد أبيه ، واشتغل وحرر وأتقن وساد أقرانه ، ثم باشر حسبة بغداد ثم كان رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد ، ولا سيما إلى بني أيوب بالشام ، وقد حصل منهم من الأموال والكرامات ما ابتنى به المدرسة الجوزية التي بالنشابين بدمشق ، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم في سنة أربعين وستمائة ، واستمر مباشرها إلى أن قتل مع الخليفة عام هولاكو بن تولي بن جنكزخان ، وكان لأبي الفرج عدة بنات ; منهن رابعة أم سبطه أبي المظفر بن قزاوغلي صاحب " مرآة الزمان " وهي كتاب [ ص: 711 ] من أجمع التواريخ وأكثرها فائدة ، وقد ذكره ابن خلكان في " الوفيات " فأثنى عليه ومدحه وشكر تصانيفه وعلومه .

العماد الكاتب الأصبهاني

محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله - بتشديد اللام وضمها
- المعروف بالعماد الكاتب الأصبهاني ، صاحب المصنفات والرسائل والشعر ، ولد بأصبهان في سنة تسع عشرة وخمسمائة ، وقدم بغداد فاشتغل بها على الشيخ أبي منصور سعيد بن الرزاز مدرس النظامية ، وسمع الحديث ، ثم رحل إلى الشام فحظي عند الملك نور الدين محمود بن زنكي ، وكتب بين يديه وولاه المدرسة التي أنشأها داخل باب الفرج التي يقال لها العمادية ; نسبة إلى العماد هذا لكثرة إقامته بها ، وتدريسه فيها ، ولم يكن أول من درس بها ، بل قد سبقه إلى تدريسها غير واحد ، كما تقدم في ترجمة نور الدين .

ثم صار العماد كاتبا في الدولة الصلاحية ، وكان القاضي الفاضل يثني عليه ويشكره ، قالوا : وكان منطوقه يعتريه جمود وفترة ، وقريحته في غاية الجودة والحدة . وقد قال القاضي الفاضل لأصحابه يوما : قولوا ، فتكلموا وشبهوه في هذه الصفة بصفات ، فلم يقبلها القاضي ، وقال : هو كالزناد ، ظاهره بارد [ ص: 712 ] وداخله نار ، وله من المصنفات : " خريدة القصر في شعراء العصر " و " الفتح القدسي " و " البرق الشامي " وغير ذلك من المصنفات المسجعة ، والعبارات المصرعة ، والقصائد المطولة ، والمعاني والألفاظ المؤثلة .

ومن لطيف تغزله ، قوله هذه الأبيات :


كيف قلتم في مقلتيه فتور     وأراها بلا فتور تجور
لو بصرتم بطرفه كيف يسبي     قلتم ذاك كاسر لا كسير
موتر قوس حاجبيه لإصما     ء فؤادي كأنه موتور
لا تسلني عن العقار فعقلي     طافح من عقارهن عقير
كيف يصحو من سكره مستهام     مزجت كأسه الحسان الحور
أورثته سقامها الحدق النج     ل وأهدت له النحول الخصور
ما تصيد الأسد الخوادر إلا     ظبيات كناسهن الخدور
كل غصنية الموشح هيفا     ء على البدر جيبها مزرور
وجنات تجني الشقائق منها     وثنايا كأنها المنثور

وقد كانت وفاته في مستهل رمضان من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة ؛ رحمه الله ، ودفن بمقابر الصوفية .

الأمير بهاء الدين قراقوش

الفحل الخصي ، أحد كبراء أمراء الدولة الصلاحية ، كان شهما شجاعا فاتكا ، تسلم القصر لما مات العاضد ، وعمر سور [ ص: 713 ] القاهرة محيطا على مصر أيضا ، وانتهى إلى المقسم ; وهو المكان الذي اقتسمت فيه الصحابة ما غنموا من الديار المصرية ، وبنى قلعة الجبل ، وقد كان الملك صلاح الدين سلمه عكا ليعمر فيها أماكن كثيرة ، فوقع الحصار وهو بها ، فلما خرج البدل منها كان هو من جملة من خرج ، ثم دخلها ابن المشطوب . وقد ذكر أنه أسر فافتدى نفسه بعشرة آلاف دينار ، وعاد إلى صلاح الدين ففرح به فرحا شديدا ، ولما توفي في هذه السنة احتاط العادل على تركته وصارت أقطاعه وأملاكه للملك الكامل محمد بن العادل . قال القاضي ابن خلكان : وقد نسب إليه أحكام عجيبة ، حتى صنف بعضهم جزءا لطيفا سماه : كتاب " الفاشوش في أحكام قراقوش " فذكر أشياء كثيرة جدا وأظنها موضوعة عليه ; فإن الملك صلاح الدين كان يعتمد عليه ، وما كان ليفعل ذلك وهو بهذه المثابة ! والله أعلم .

مكلبة بن عبد الله المستنجدي

كان تركيا عابدا زاهدا ، سمع المؤذن وقت السحر وهو ينشد على المنارة :


يا رجال الليل جدوا     رب صوت لا يرد
ما يقوم الليل إلا     من له عزم وجد

فبكى مكلبة ، وقال للمؤذن : يا مؤذني زدني ، فقال المؤذن :


قد مضى الليل وولى     وحبيبي قد تجلى

[ ص: 714 ] فصرخ مكلبة صرخة كان فيها حتفه ، فأصبح أهل البلد قد اجتمعوا على بابه ، فالسعيد من وصل إلى نعشه ؛ رحمه الله تعالى .

أبو منصور بن أبي بكر بن شجاع

المزكلش
ببغداد ، ويعرف بابن نقطة ، كان يدور في أسواق بغداد بالنهار ينشد كان وكان والمواليا ، ويسحر الناس في ليالي رمضان ، وكان مطبوعا ظريفا خليعا ، وكان أخوه الشيخ عبد الغني الزاهد من أكابر الصالحين ، له زاوية ببغداد يزار فيها ، وكان له أتباع ومريدون ، ولا يدخر شيئا يحصل له من الفتوح . تصدق في ليلة بألف دينار وأصحابه صيام لم يدخر منها شيئا لعشائهم . وزوجته أم الخليفة بجارية من خواصها وجهزتها بعشرة آلاف دينار إليه ، فما حال الحول وعندهم من ذلك شيء ، بل جميع ذلك يؤثر به ويتصدق به حتى لم يبق عندهم سوى هاون ، فوقف سائل ببابه فألح في الطلب ، فأخرج إليه الهاون ، فقال : خذ هذا وكل به ثلاثين يوما ، ولا تشنع على الله عز وجل ، وكان من خيار الصالحين .

والمقصود أنه قيل لأخيه أبي منصور هذا : ويحك ، أنت تدور في الأسواق وتنشد الأشعار ، وأخوك من قد عرفت ! فأنشأ يقول في جواب ذلك بيتين مواليا من شعره على البديهة :


قد خاب من شبه الجزعه إلى الدره     وشابه قحبه إلى مستجنه حره
[ ص: 715 ] أنا مغني وأخي زاهد إلى مره     في الدار بئرين ذي حلوه وذي مره



وقد جرى عنده مرة ذكر قتل عثمان ، وعلي حاضر ، فأنشأ يقول : كان وكان ، ومن قتل في جواره مثل ابن عفان فاعتذر ، يجب عليه أن يقبل في الشام عذر يزيد . فأرادت الروافض قتله ، فاتفق أنه في بعض الليالي يسحر الناس في رمضان إذ مر بدار الخليفة فعطس الخليفة في الطارقة فشمته أبو منصور هذا من الطريق في نظم ارتجله على البديهة مواليا يقول في آخره :

أي من عطس في المنظره يرحمك الله

فأرسل إليه مائة دينار ، ورسم بحمايته من الروافض ، إلى أن مات في هذه السنة ؛ رحمه الله .

وفيها توفي :

مسند الشام أبو طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر

الخشوعي ،
شارك ابن عساكر في كثير من مشيخته ، وطالت حياته بعد وفاته بسبع وعشرين سنة ، فألحق فيها الأحفاد بالأجداد .

التالي السابق


الخدمات العلمية