صفحة جزء
[ ص: 728 ] سنة ستمائة من الهجرة النبوية

في هذه السنة كانت الفرنج قد جمعوا خلقا كثيرا منهم ليستعيدوا بيت المقدس من المسلمين - فيما كانوا زاعمين - فأشغلهم الله بقتال الروم ; وذلك لأنهم اجتازوا في طريقهم بالقسطنطينية ، فوجدوا ملوكها قد اختلفوا فيما بينهم ، فحاصروها حتى فتحوها قسرا ، وأباحوها ثلاثة أيام قتلا وأسرا ، واحترق أكثر من ربعها ، وما أصبح أحد من الروم بعد الثلاثة إلا قتيلا أو فقيرا أو مكبولا أو أسيرا ، ولجأ عامة من بقي منها إلى كنيستها العظمى المسماة بصوفيا ، فقصدها الفرنج ، فخرج إليهم القسيسون بالأناجيل ; ليتوسلوا إليهم ويتلوا عليهم ، فما التفتوا إلى شيء مما واجهوهم به ، بل قتلوهم أجمعين أكتعين أبصعين ، وأخذوا ما كان في الكنيسة من الحلي والأذهاب والأموال التي لا تحصى ولا تعد ، وأخذوا ما كان على الصلبان والحيطان ؛ والحمد لله الرحيم الرحمن ، الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .

ثم اقترع ملوك الفرنج وكانوا ثلاثة ; وهم دوقس البنادقة ، وكان شيخا أعمى تقاد فرسه ، ومركيس الإفرنسيس ، وكند أفلند ، وكان أكثرهم عددا وعددا ، فخرجت القرعة له ثلاث مرات ، فولوه ملك القسطنطينية [ ص: 729 ] وأخذ الملكان الآخران بعض البلاد ، وتحول الملك من الروم إلى الفرنج بالقسطنطينية في هذه السنة قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ولم يبق بأيدي الروم هناك إلا ما وراء الخليج ، استحوذ عليه رجل من الروم يقال له : لشكري . لم يزل مالكا لتلك الناحية حتى توفي ؛ لعنه الله .

ثم إن الفرنج قصدوا بلاد الشام وقد تقووا بملكهم القسطنطينية فنزلوا عكا وأغاروا على كثير من بلاد الإسلام من ناحية الغور وتلك الأراضي فقتلوا وسبوا ، فنهض إليهم الملك العادل وكان بدمشق - ولله الحمد - واستدعى بالجيوش المصرية والمشرقية ، ونازلهم بالقرب من عكا فكان بينهم قتال شديد ومصابرة عظيمة ، ثم وقع الصلح بينهم والهدنة ، وأطلق لهم شيئا من البلدان ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

وفي هذه السنة جرت حروب كثيرة بين الخوارزمية والغورية بالمشرق يطول ذكرها .

وفيها تحارب نور الدين - صاحب الموصل - وقطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي - صاحب سنجار - وساعد الأشرف بن العادل القطب ، ثم اصطلحوا فيما بينهم ، وتزوج الأشرف أخت نور الدين ، وهي الأتابكية بنت عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي ، واقفة المدرسة التي بالسفح ، وبها تربتها .

وفيها كانت زلزلة عظيمة بمصر والشام والجزيرة وقبرس وغيرها من البلاد ; [ ص: 730 ] قاله ابن الأثير في " كامله " .

وفيها تغلب رجل من التجار يقال له : محمود بن محمد الحميري على بعض بلاد حضرموت ; ظفار وغيرها ، واستمرت أيامه إلى سنة تسع عشرة وستمائة وما بعدها .

وفي جمادى الأولى منها عقد مجلس لقاضي القضاة ببغداد ، وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن سليمان الحلبي بدار الوزير ، وثبت عليه محضر بأنه يتناول الرشا ، فعزل في ذلك المجلس ، وفسق ، ونزعت الطرحة عن رأسه ، وكانت مدة ولايته سنتين وثلاثة أشهر .

وفيها كانت وفاة الملك ركن الدين بن قلج أرسلان ، صاحب بلاد الروم ما بين ملطية وقونية ، وكانت فيه شهامة وصرامة ، غير أنه كان ينسب إلى اعتقاد الفلاسفة ، وكان كهفا لمن ينسب إلى ذلك ، وملجأ لهم ، وظهر منه قبل موته تجهم عظيم ; وذلك أنه حاصر أخاه شقيقه - وكان صاحب أنكورية ، وتسمى أيضا : أنقرة - مدة سنتين حتى ضيق عليه الأقوات بها ، فسلمها إليه قسرا ، على أن يعطيه بعض البلاد ، فلما تمكن منه ومن أولاده أرسل إليهم من قتلهم غدرا وخديعة ومكرا ، فلم ينظر إلا خمسة أيام حتى ضربه الله تعالى بالقولنج سبعة أيام ومات فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين وأقيم بعده في الملك ولده قلج أرسلان ، وكان صغيرا فبقي سنة [ ص: 731 ] واحدة ، ثم نزع منه الملك أيضا ، وصار إلى عمه كيخسرو .

وفيها قتل خلق كثير من الباطنية بواسط ؛ ولله الحمد .

قال ابن الأثير : وفي رجب اجتمع جماعة من الصوفية برباط ببغداد في سماع ، فأنشدهم الحادي ، وهو الجمال الحلي :


عويذلتي أقصري كفى بمشيبي عذل     شباب كأن لم يكن
وشيب كأن لم يزل     وحق ليالي الوصال
أواخرها والأول     وصفرة لون المحب
عند استماع العذل     لئن عاد عيشي بكم
حلا العيش لي واتصل



قال : فتحرك الصوفية على العادة فتواجد من بينهم رجل يقال له : أحمد بن إبراهيم الرازي ، فخر مغشيا عليه ، فحركوه فإذا هو ميت . قال : وكان رجلا صالحا ، وقال ابن الساعي : كان شيخا صالحا صحب الصدر عبد الرحيم شيخ الشيوخ . فشهد الناس جنازته ، ودفن بباب أبرز .

التالي السابق


الخدمات العلمية