صفحة جزء
وفيها توفي من الأعيان :

الملك الفائز

غياث الدين إبراهيم بن العادل ،
كان قد انتظم له الأمر في الملك بعد أبيه ، على الديار المصرية على يدي الأمير عماد الدين بن المشطوب ، لولا أن الكامل تدارك ذلك سريعا ، ثم أرسله أخوه في هذه السنة إلى أخيهما الأشرف موسى يستحثه في سرعة المسير إليهم بسبب الفرنج ، فمات بين سنجار [ ص: 101 ] والموصل ، وقيل : إنه سم ، فرد إلى سنجار ، فدفن بها ، رحمه الله تعالى .

شيخ الشيوخ صدر الدين

أبو الحسن محمد بن شيخ الشيوخ عماد الدين عمر بن حمويه الجويني ،
من بيت رياسة وإمرة عند بني أيوب ، وقد كان صدر الدين هذا فقيها فاضلا ، درس بالشافعي وبمشهد الحسين ، وولي مشيخة سعيد السعداء والنظر فيها ، وكانت له حرمة وافرة عند الملوك ، أرسله الكامل إلى الخليفة يستنصره على الفرنج ، فمات بالموصل بالإسهال ، ودفن بها عند قضيب البان عن ثلاث وسبعين سنة .

صاحب حماة الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ، وكان فاضلا له تاريخ في عشر مجلدات سماه المضمار ، وكان شجاعا فارسا ، فقام بالملك بعده والده الناصر قليج أرسلان ، ثم عزله عنها الكامل ، وحبسه حتى مات - رحمه الله تعالى - وولى أخاه المظفر بن المنصور .

صاحب آمد الملك الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق ، وكان شجاعا محبا للعلماء ، وكان مصاحبا للأشرف [ ص: 102 ] موسى بن العادل يجيء إلى خدمته مرارا ، وملك بعده ولده الملك المسعود ، وكان بخيلا فاسقا ، فأخذ الكامل آمد ، وحبسه بمصر ثم أطلقه ، فأخذ أمواله ، وسار إلى التتار فأخذت منه .

الشيخ عبد الله اليونيني

الملقب أسد الشام ،
رحمه الله ورضي عنه ، من قرية ببعلبك ، يقال لها : يونين . وكانت له زاوية يقصد فيها للزيارة ، وكان من الصالحين الكبار المشهورين بالعبادة والرياضة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . له همة عالية في الزهد والورع ، بحيث إنه كان لا يقتني شيئا ، ولا يملك مالا ولا ثيابا ، بل يلبس عارية ، ولا يتجاوز قميصا في الصيف ، وفروة فوقه في الشتاء ، وعلى رأسه قبعا من جلود المعز ، شعره إلى ظاهر ، وكان لا ينقطع عن غزاة من الغزوات ، ويرمي عن قوس زنته ثمانون رطلا ، وكان يجاور في بعض الأحيان بجبل لبنان ، ويأتي في الشتاء إلى عيون الفاسريا في سفح الجبل المطل على قرية دومة شرقي دمشق ، لأجل سخونة الماء ، فيقصده الناس للزيارة هناك ، ويجيء تارة إلى دمشق ، فينزل بسفح قاسيون عند المقادسة ، وكانت له أحوال [ ص: 103 ] ومكاشفات صالحة . وكان يقال له : أسد الشام .

حكى الشيخ أبو المظفر سبط ابن الجوزي عن القاضي جمال الدين يعقوب الحاكم بكرك البقاع ، أنه شاهد مرة الشيخ عبد الله ، وهو يتوضأ من ثورا عند الجسر الأبيض ، إذ مر نصراني ومعه حمل بغل خمرا ، فعثرت الدابة عند الجسر ، فسقط الحمل فرأى الشيخ وقد فرغ من وضوئه ، ولا يعرفه ، واستعان به على رفع الحمل ، فاستدعاني الشيخ فقال : تعال يا فقيه فتساعدنا على تحميل ذلك الحمل على الدابة ، وذهب النصراني ، فتعجبت من ذلك وتبعت الحمل ، وأنا ذاهب إلى المدينة ، فانتهى به إلى العقيبة ، فأورده إلى الخمار بها ، فإذا هو خل ، فقال له الخمار : ويحك هذا خل . فقال النصراني : أنا أعرف من أين أتيت ، ثم ربط الدابة في الخان ، ورجع إلى الصالحية ، فسأل عن الشيخ ، فعرفه فجاء إليه ، فأسلم على يديه .

وله أحوال وكرامات كثيرة جدا ، وكان لا يقوم لأحد دخل إليه ، ويقول : إنما يقوم الناس لرب العالمين . وكان الأمجد إذا دخل عليه جلس بين يديه ، فيقول له : يا مجيد ، فعلت كذا وكذا . ويأمره بما يأمره ، وينهاه عما ينهاه عنه ، وهو يمتثل جميع ما يقوله له; وما ذاك إلا لصدقه في زهده وورعه وطريقه . وكان يقبل الفتوح ولا يدخر منه شيئا لغد ، وإذا اشتد جوعه أخذ من ورق [ ص: 104 ] اللوز ، ففركه واستفه ، ويشرب فوقه الماء البارد ، رحمه الله تعالى وأكرم مثواه .

وذكروا أنه كان يحج في بعض السنين في الهواء ، وقد وقع هذا لطائفة كبيرة من الزهاد وصالحي العباد ، ولم يبلغنا هذا عن أحد من أكابر العلماء ، وأول من يذكر عنه هذا حبيب العجمي ، وكان من أصحاب الحسن البصري ، ثم من بعده من الصالحين - رحمهم الله تعالى أجمعين - .

فلما كان يوم جمعة من عشر ذي الحجة من هذه السنة صلى الشيخ عبد الله اليونيني صلاة الجمعة بجامع بعلبك ، وكان قد دخل الحمام يومئذ قبل الصلاة وهو سوي صحيح ، فلما انصرف من الصلاة ، قال للشيخ داود المؤذن وكان يغسل الموتى : انظر كيف تكون غدا . ثم صعد الشيخ إلى زاويته ، فبات يذكر الله تعالى تلك الليلة ، ويتذكر أصحابه ومن أحسن إليه ولو بأدنى شيء ، ويدعو لهم ، فلما دخل وقت الصبح صلى بأصحابه ، ثم استند يذكر الله وفي يده سبحة ، فمات وهو كذلك جالس لم يسقط ، ولم تسقط السبحة من يده ، فلما انتهى الخبر إلى الملك الأمجد صاحب بعلبك ، جاء إليه ، فعاينه كذلك ، فقال : لو بنينا عليه بنيانا هكذا; ليشاهد الناس منه آية . فقيل له : ليس هذا من السنة . فنحي وغسل وكفن ، وصلي عليه ، ودفن تحت اللوزة التي كان يجلس تحتها يذكر الله تعالى ، رحمه الله ونور ضريحه .

وكانت وفاته يوم السبت ، وقد جاوز ثمانين سنة ، رحمه الله تعالى وأكرم مثواه ، وكان الشيخ محمد الفقيه اليونيني من جملة تلاميذه ، وممن يلوذ به ، وهو [ ص: 105 ] جد هؤلاء المشايخ بمدينة بعلبك .

أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أبي بكر المجلي الموصلي

ويعرف بابن الجهني ، شاب فاضل ، ولي كتابة الإنشاء لبدر الدين لؤلؤ زعيم الموصل ، ومن شعره :


نفسي فداء الذي فكرت فيه وقد غدوت أغرق في بحر من العجب     يبدو بليل على صبح على قمر
على قضيب على وهم على كثب



التالي السابق


الخدمات العلمية