صفحة جزء
[ ص: 106 ] ثم دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة

فيها استولت التتار على كثير من البلدان كمراغة وهمذان وأردبيل وتبريز وكنجة ، وقتلوا أهاليها ، ونهبوا ما فيها ، واستأسروا ذراريها ، واقتربوا من بغداد ، فانزعج الخليفة من ذلك ، وحصن بغداد ، واستخدم الأجناد ، وقنت الناس في الصلوات والأوراد .

وفيها قهروا الكرج واللان ، ثم قاتلوا القفجاق ، فكسروهم ، وكذلك الروس ، وينهبون ما قدروا عليه من أموال هؤلاء ، ويسبون ذراريهم ونساءهم .

وفيها سار المعظم إلى أخيه الأشرف ، فاستعطفه على أخيه الكامل ، وكان في نفسه موجدة عليه ، فأزالها وسارا جميعا نحو الديار المصرية لمعاونة الكامل على الفرنج الذين قد أخذوا ثغر دمياط ، واستحكم أمرهم هنالك من سنة أربع عشرة ، وعرض عليهم في بعض الأوقات أن يرد إليهم بيت المقدس وجميع ما كان صلاح الدين فتحه من بلاد الساحل ، ويتركوا دمياط ، فامتنعوا من ذلك ، [ ص: 107 ] ولم يفعلوا ، فقدر الله تعالى أنهم ضاقت عليهم الأقوات ، فقدم عليهم مراكب فيها ميرة لهم ، فأخذها الأسطول البحري ، وأرسلت المياه على أراضي دمياط من كل ناحية ، فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرفوا في أنفسهم ، وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن ، فعند ذلك أثابوا إلى المصالحة بلا معاوضة ، فجاء مقدموهم إليه ، وعنده أخواه المعظم عيسى وموسى الأشرف ، وكانا قائمين بين يديه ، وكان يوما مشهودا وأمرا محمودا ، فوقع الصلح على ما أراد الكامل محمد ، بيض الله وجهه ، وملوك الفرنج والعساكر كلها واقفة بحضرته ، ومد سماطا عظيما ، فاجتمع عليه المؤمن والكافر والبر والفاجر ، وقام راجح الحلي الشاعر فأنشد :


هنيئا فإن السعد راح مخلدا وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا     حبانا إله الخلق فتحا بدا لنا
مبينا وإنعاما وعزا مؤبدا     تهلل وجه الدهر بعد قطوبه
وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا     ولما طغى البحر الخضم بأهله الط
غاة وأضحى بالمراكب مزبدا     أقام لهذا الدين من سل عزمه
صقيلا كما سل الحسام مجردا     فلم ينج إلا كل شلو مجدل
ثوى منهم أو من تراه مقيدا     ونادى لسان الكون في الأرض رافعا
عقيرته في الخافقين ومنشدا     أعباد عيسى إن عيسى وحزبه
وموسى جميعا يخدمون محمدا

قال أبو شامة : وبلغني أنه أشار عند ذلك إلى المعظم عيسى والأشرف [ ص: 108 ] موسى والكامل محمد . قال وهذا من أحسن شيء اتفق . وكان ذلك يوم الأربعاء تاسع عشر رجب من هذه السنة ، وتراجعت الفرنج إلى عكا وغيرها من البلدان ، ورجع المعظم إلى الشام ، واصطلح الأشرف والكامل على أخيهما المعظم .

وفيها ولى الملك المعظم قضاء دمشق لجمال الدين المصري الذي كان وكيل بيت المال بها ، وكان فاضلا بارعا ، يجلس في كل يوم جمعة قبل الصلاة بالعادلية وبعد فراغها لإثبات المحاضر ، ويحضر عنده في المدرسة جميع الشهود من كل المراكز حتى يتيسر على الناس إثبات كتبهم في الساعة الواحدة ، جزاه الله خيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية