صفحة جزء
وممن توفي فيها من الأعيان :

الشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي

مصنف " المغني " في الفقه ، [ ص: 117 ] عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة ، الشيخ موفق الدين أبو محمد المقدسي ، إمام عالم بارع ، لم يكن في عصره بل ولا قبل دهره بمدة ، أفقه منه ، ولد بجماعيل في شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ، وقدم مع أهله إلى دمشق في سنة إحدى وخمسين ، وقرأ القرآن ، وسمع الحديث الكثير ، ورحل مرتين إلى العراق; إحداهما في سنة إحدى وستين مع ابن خالته الحافظ عبد الغني ، والأخرى سنة سبع وستين ، وحج في سنة ثلاث وسبعين ، وتفقه ببغداد على مذهب الإمام أحمد ، وبرع وأفتى وناظر ، وتبحر في فنون كثيرة ، مع زهد وعبادة ، وورع وتواضع ، وحسن أخلاق ، وجود وحياء وحسن سمت ، ونور وبهاء ، وكثرة تلاوة وصلاة وصيام وقيام ، وطريقة حسنة واتباع للسلف الصالح ، وكانت له أحوال ومكاشفات ، وقد قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : إن لم يكن العلماء العاملون أولياء الله ، فلا أعلم لله وليا .

وكان يؤم الناس للصلاة في محراب الحنابلة هو والشيخ العماد ، فلما توفي [ ص: 118 ] العماد استقل هو بالوظيفة ، فإن غاب صلى عنه أبو سليمان عبد الرحمن بن الحافظ عبد الغني . وكان يتنفل بين العشاءين بالقرب من محرابه ، فإذا صلى العشاء انصرف إلى منزله بدرب الدولعي بالرصيف ، وأخذ معه من الفقراء من تيسر; يأكلون معه من طعامه ، وكان منزله الأصلي بقاسيون ، فينصرف في بعض الليالي بعد العشاء إلى الجبل ، فاتفق في بعض الليالي أن خطف رجل عمامته ، وكان فيها كاغد فيه رمل ، فقال له الشيخ : خذ الكاغد ، وألق العمامة . فظن الرجل أن الكاغد مالا ، فأخذه وألقى العمامة ، فأخذها الموفق ثم ذهب ، وهذا يدل على ذكاء مفرط واستحضار حسن في الساعة الراهنة ، حتى خلص عمامته من يده بتلطف .

وله مصنفات عديدة مشهورة منها " المغني " في شرح " مختصر الخرقي " في عشرة مجلدات ، و " الكافي " في أربعة مجلدات ، و " المقنع " للحفظ ، و " الروضة " في أصول الفقه ، وغير ذلك من التصانيف المفيدة ، وكانت وفاته في يوم عيد الفطر في هذه السنة ، وقد بلغ الثمانين ، وكان يوم سبت ، وحضر جنازته خلق كثير ، ودفن بتربته المشهورة ، ورئيت له منامات [ ص: 119 ] صالحة - رحمه الله تعالى - . وكان له أولاد ذكور وإناث ، فماتوا في حياته . ولم يعقب منهم سوى ابنه عيسى ولدين ، ثم ماتا وانقطع نسله .

قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي : نقلت من خط الشيخ موفق :


لا تجلسن بباب من يأبى عليك دخول داره     وتقول حاجاتي إلي
ه يعوقها إن لم أداره     واتركه واقصد ربها
تقضى ورب الدار كاره

ومما أنشده الشيخ موفق الدين لنفسه - رحمه الله تعالى ورضي عنه - قوله :


أبعد بياض الشعر أعمر مسكنا     سوى القبر إني إن فعلت لأحمق
يخبرني شيبي بأني ميت     وشيكا وينعاني إلي ويصدق
يخرق عمري كل يوم وليلة     فهل أستطيع رقع ما يتخرق
كأني بجسمي فوق نعشي ممددا     فمن ساكت أو معول يتحرق
[ ص: 120 ] إذا سئلوا عني أجابوا وعولوا     وأدمعهم تنهل هذا الموفق
وغيبت في صدع من الأرض ضيق     وأودعت لحدا فوقه الصخر مطبق
ويحثو علي الترب أوثق صاحب     ويسلمني للقبر من هو مشفق
فيا رب كن لي مؤنسا يوم وحشتي     فإني بما أنزلته لمصدق
وما ضرني أني إلى الله صائر     ومن هو من أهلي أبر وأرفق

فخر الدين بن عساكر :

عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر ، فخر الدين أبو منصور الدمشقي ، شيخ الشافعية بها ، وأمه أسماء بنت محمد بن الحسن بن طاهر القريشية المعروف والدها بأبي البركات بن الراني ، وهو الذي جدد مسجد القدم في سنة سبع عشرة وخمسمائة ، وبه قبره وقبرها ، ودفن هناك طائفة كبيرة من العلماء ، وهي أخت آمنة والدة القاضي محيي الدين محمد بن علي بن الزكي .

[ ص: 121 ] اشتغل الشيخ فخر الدين من صغره بالعلم الشريف على شيخه قطب الدين مسعود النيسابوري ، وتزوج بابنته ، ودرس مكانه بالجاروخية ، وبها كان يسكن في إحدى القاعتين اللتين أنشأهما ، وبها توفي غربي الإيوان ، ثم تولى تدريس الصلاحية الناصرية بالقدس الشريف ، ثم ولاه العادل تدريس التقوية ، وكان عنده أعيان الفضلاء ، ثم تفرغ ، فلزم المجاورة في الجامع في البيت الصغير إلى جانب محراب الصحابة ، يخلو فيه للعبادة والمطالعة والفتاوى . وكانت تفد إليه من الأقطار . وكان كثير الذكر ، حسن السمت ، وكان يجلس تحت قبة النسر في كل يوم اثنين وخميس مكان عمه لإسماع الحديث بعد العصر ، فيقرأ عليه دلائل النبوة وغيره ، وكان يحضر مشيخة دار الحديث النورية ، ومشهد ابن عروة أول ما فتح ، وقد استدعاه الملك العادل بعد ما عزل قاضيه زكي الدين ، فأجلسه إلى جانبه وقت السماط ، وسأل منه أن يلي [ ص: 122 ] القضاء بدمشق ، فقال : حتى أستخير الله تعالى . ثم امتنع من ذلك ، فشق على السلطان امتناعه ، وهم أن يؤذيه ، فقيل له : احمد الله الذي في بلادك مثل هذا ، ولما توفي العادل ، وأعاد ابنه المعظم الخمور أنكر عليه الشيخ فخر الدين ، فبقي في نفسه منه ، فانتزع منه تدريس الصلاحية التي بالقدس وتدريس التقوية ، ولم يبق معه سوى الجاروخية ودار الحديث النورية ، ومشهد ابن عروة . وكانت وفاته يوم الأربعاء بعد العصر عاشر رجب من هذه السنة ، وله خمس وستون سنة ، وصلي عليه بالجامع ، وكان يوما مشهودا ، وحملت جنازته إلى مقابر الصوفية ، فدفن بها ، في أولها قريبا من قبر شيخه قطب الدين مسعود .

ابن عروة ، شرف الدين محمد بن عروة الموصلي ، المنسوب إليه مشهد ابن عروة ، ويقول الناس : مشهد عروة بالجامع الأموي; لأنه أول من فتحه ، وقد كان مشحونا بالحواصل الجامعية ، وبنى فيه البركة ، ووقف فيه على الحديث درسا ، ووقف خزائن كتب فيه ، وكان مقيما بالقدس الشريف ، ولكنه كان من خواص أصحاب الملك المعظم ، فانتقل إلى [ ص: 123 ] دمشق حين خرب سور بيت المقدس إلى أن توفي بها ، وقبره عند قباب أتابك طغتكين قبلي المصلى ، رحمه الله تعالى .

الشيخ أبو الحسن الروزبهاري

دفن بالمكان المنسوب إليه بين السورين عند باب الفراديس .

الشيخ عبد الرحمن اليمني

كان مقيما بالمنارة الشرقية ، كان صالحا زاهدا ورعا ، ودفن بمقابر الصوفية .

الرئيس عز الدين المظفر بن أسعد ، بن حمزة التميمي بن القلانسي ، أحد رؤساء دمشق وكبرائها ، وجده أبو يعلى حمزة ، له تاريخ ذيل به على ابن عساكر ، وقد سمع عز الدين هذا الحديث من الحافظ أبي القاسم ابن عساكر وغيره ، ولزم مجالسة الكندي ، وانتفع به .

الأمير الكبير أحد حجاب الخليفة

محمد بن سليمان بن قتلمش بن [ ص: 124 ] تركانشاه أبو منصور السمرقندي ، وكان من أولاد الأمراء ، وولي حاجب الحجاب بالديوان العزيز الخليفتي ، وكان يكتب جيدا جدا ، وله معرفة حسنة بعلوم كثيرة; منها الأدب وعلوم الرياضة ، وعمر دهرا ، وله شعر حسن ، ومن شعره قوله :


سئمت تكاليف هذي الحياة     وكر الصباح بها والمساء
وقد كنت كالطفل في عقله     قليل الصواب كثير الهراء
أنام إذا كنت في مجلس     وأسهر عند دخول الغناء
وقصر خطوي قيد المشيب     وطال على ما عناني عناء
وغودرت كالفرخ في عشه     وخلفت حلمي وراء وراء
وما جر ذلك غير البقاء     فكيف ترى فعل سوء البقاء

وله أيضا :


إلهي يا كثير العفو غفرا     لما أسلفت في زمن الشباب
فقد سودت في الآثام وجها     ذليلا خاضعا لك في التراب
فبيضه بحسن العفو عني     وسامحني وخفف من عذابي

[ ص: 125 ] ولما توفي صلي عليه بالنظامية ، ودفن بالشونيزية .

ورآه بعضهم في المنام ، فقال : ما فعل بك ربك؟ فقال :


تحاشيت اللقاء لسوء فعلي     وخوفا في المعاد من الندامة
فلما أن قدمت على إلهي     وحاقق في الحساب على قلامه
وكان العدل أن أصلى جحيما     تعطف بالمكارم والكرامة
وناداني لسان العفو منه     ألا يا عبد تهنيك السلامه

أبو علي الحسن بن أبي المحاسن زهرة بن الحسن بن زهرة العلوي الحسيني الحلبي ، نقيب الأشراف بها ، كان لديه فضل وعلم بالأدب والعربية ، وأخبار الناس والتواريخ والسير والحديث ، حافظا للقرآن المجيد ، وله شعر جيد ، فمنه قوله :


قد رأيت المعشوق وهو من الهج     ر تنبو النواظر عنه
أثر الدهر فيه آثار سوء     وأدالت يد الحوادث منه
عاد مستبذلا ومستبدلا عزا     بذل كأنه لم يصنه

أبو علي يحيى بن محمد بن علي بن المبارك بن الجلاجلي

من أبناء [ ص: 126 ] التجار ، سمع الحديث ، وكان جميل الهيئة ، يسكن بدار الخلافة ، وكان عنده علم ، وله شعر حسن ، فمنه قوله :


خير إخوانك المشارك في المر     وأين الشريك في المر أينا
الذي إن شهدت سرك في القو     م وإن غبت كان أذنا وعينا
مثل سر العقيان إن مسه النا     ر جلاه الجلاء فازداد زينا
وأخو السوء إن يغب عنك يشنئ     ك وإن يحتضر يكن ذاك شينا
جيبه غير ناصح ومناه     أن يصيب الخليل إفكا ومينا
فاخش منه ولا تلهف عليه     إن غرما له كنقدك دينا

التالي السابق


الخدمات العلمية