صفحة جزء
[ ص: 136 ] خلافة الظاهر بن الناصر

لما توفي الخليفة الناصر لدين الله كان قد عهد إلى ابنه أبي نصر محمد هذا ، ولقبه بالظاهر ، وخطب له على المنابر ، ثم عزله عن ذلك بأخيه علي ، فتوفي في حياة أبيه سنة ثنتي عشرة ، فاحتاج إلى إعادة هذا لولاية العهد ، فخطب له ثانيا ، فحين توفي بويع له بالخلافة ، وعمره يومئذ ثنتان وخمسون سنة ، فلم يل الخلافة من بني العباس أسن منه ، وكان عاقلا وقورا دينا عادلا محسنا ، رد مظالم كثيرة ، وأسقط مكوسا كان قد أحدثها أبوه ، وسار في الناس سيرة حسنة ، حتى قيل : إنه لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز أعدل منه لو طالت مدته . لكنه لم يحل عليه الحول ، بل كانت مدته تسعة أشهر ، أسقط الخراج الماضي عن الأراضي التي قد تعطلت ، ووضع عن أهل بلدة واحدة - وهي بعقوبا - سبعين ألف دينار كان أبوه قد زادها عليهم في الخراج . وكانت صنجة المخزن تزيد على صنجة البلد نصف دينار في كل مائة إذا قبضوا ، وإذا أقبضوا دفعوا بصنجة البلد ، فكتب إلى الديوان : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [ المطففين : 1 - 6 ] فكتب إليه بعض الكتاب يقول : يا أمير المؤمنين! إن تفاوت هذا عن العام الماضي خمسة وثلاثون ألفا . فأرسل ينكر عليه ويقول : هذا يترك وإن كان تفاوته ثلاثمائة ألف [ ص: 137 ] وخمسين ألفا رحمه الله تعالى .

وأمر القاضي أن كل من ثبت له حق بطريق شرعي يوصل إليه بلا مراجعة ، وأقام في النظر على الأموال الحشرية رجلا صالحا ، واستخلص على القضاء الشيخ العلامة عماد الدين أبا صالح نصر بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي ، الحنبلي ، في يوم الأربعاء ثامن ذي الحجة ، وكان من خيار المسلمين ومن خيار القضاة العادلين - رحمهم الله أجمعين - ولما عرض عليه القضاء لم يقبله إلا بشرط أن يورث ذوي الأرحام ، فقال : أعط كل ذي حق حقه ، واتق الله ولا تتق سواه . وكان من عادة أبيه أن يرفع إليه حراس الدروب في كل صباح بما كان عندهم في المحال من الاجتماعات الصالحة والطالحة ، فلما ولي الظاهر أمر بتبطيل ذلك كله ، وقال : أي فائدة في كشف أحوال الناس وهتك أستارهم؟! فقيل له : إن ترك ذلك يفسد الرعية . فقال : نحن ندعو الله لهم أن يصلحهم .

وأطلق من كان في السجون معتقلا على الأموال الديوانية ورد عليهم ما كان استخرج منهم قبل ذلك من المظالم ، وأرسل إلى القاضي بعشرة آلاف دينار يوفي بها ديون من في سجونه من المدينين الذين لا يجدون وفاء . وفرق في العلماء بقية المائة ألف . وقد لامه بعض الناس في هذه التصرفات ، فقال : إنما فتحت الدكان بعد العصر ، فذروني أعمل صالحا وأفعل الخير ، فكم مقدار ما بقيت أعيش؟ ولم تزل هذه سيرته حتى توفي في العام الآتي كما سيأتي .

ورخصت الأسعار في أيامه وقد كانت قبل ذلك في غاية الشدة والغلاء ، حتى إنه فيما حكى [ ص: 138 ] ابن الأثير أكلت الكلاب والسنانير والميتات ببلاد الجزيرة والموصل ، فزال ذلك في أيامه ولله الحمد . وكان هذا الخليفة الظاهر حسن الشكل ، مليح الوجه ، أبيض مشربا حمرة ، حلو الشمائل ، شديد القوى .

التالي السابق


الخدمات العلمية