صفحة جزء
وفاة الخليفة الظاهر وخلافة ابنه المستنصر

كانت وفاة الخليفة ، رحمه الله تعالى ، يوم الجمعة ضحى الثالث عشر من [ ص: 149 ] رجب من هذه السنة ، أعني سنة ثلاث وعشرين وستمائة ، ولم يعلم الناس بموته إلا بعد الصلاة ، فدعا له الخطباء يومئذ على المنابر على عادتهم ، فكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة عشر يوما ، وعمره ثنتان وخمسون سنة ، وكان من أجود بني العباس سيرة ، وأحسنهم سريرة ، وأكثرهم عطاء ، وأحسنهم منظرا ورواء ، ولو طالت مدته لصلحت الأمة صلاحا كثيرا على يديه ، ولكن أحب الله تقريبه وإزلافه لديه ، فاختار له ما عنده وأجزل له إحسانه ورفده . وقد ذكرنا ما اعتمده في أول ولايته من إطلاق الأموال الديوانية ، ورد المظالم ، وإسقاط المكوس ، وتخفيف الخراج عن الناس ، وأداء الديون عمن عجز عن قضائها ، والإحسان إلى العلماء والفقراء ، وتولية ذوي الديانة . وقد كان كتب كتابا لولاة الرعية ، فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالا ، ولا إغضاؤنا احتمالا ، ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملا ، وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد ، وتشريد الرعايا ، وتقبيح الشريعة ، وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة ومكيدة ، وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكا ، لأغراض انتهزتم فرصها ، مختلسة من براثن ليث باسل ، وأنياب أسد مهيب ، تنفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد ، وأنتم أمناؤه وثقاته ، [ ص: 150 ] فتميلون رأيه إلى هواكم ، وتمزجون باطلكم بحقه ، فيطيعكم وأنتم له عاصون ، ويوافقكم وأنتم له مخالفون ، والآن قد بدل الله بخوفكم أمنا ، وبفقركم غنى ، وبباطلكم حقا ، ورزقكم سلطانا يقيل العثرة ، ولا يؤاخذ إلا ممن أصر ، ولا ينتقم إلا ممن استمر يأمركم بالعدل ، وهو يريده منكم ، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم ، يخاف الله تعالى فيخوفكم مكره ، ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته ، فإن سلكتم مسالك خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه ، وإلا هلكتم ، والسلام .

ووجد في داره رقاع مختومة لم تفتح ، فيها سعايات إليه بسبب أناس كثيرة من الولاة وغيرهم ، لم يفتحها سترا للناس ودرءا عن أعراضهم - رحمه الله - .

وقد خلف من الأولاد عشرة ذكورا وإناثا ، منهم ابنه الأكبر الذي بويع له بالخلافة من بعده : أبو جعفر المنصور ، ولقب بالمستنصر بالله ، وغسله محمد الخياط الواعظ ، ودفن في دار الخلافة ، ثم نقل إلى الترب من الرصافة ، رحمه الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية