صفحة جزء
[ ص: 277 ] ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة

وهي سنة الخوارزمية;
وذلك أن الصالح أيوب بن الكامل صاحب مصر بعث الخوارزمية ، ومعهم ملكهم بركات خان في صحبة معين الدين بن الشيخ ، فأحاطوا بدمشق يحاصرون عمه الصالح أبا الخيش صاحب دمشق ، وأحرق قصر حجاج ، وحكر السماق ، وجامع جراح خارج باب الصغير ، ومساجد كثيرة ، ونصبت المنجنيق عند باب الصغير وعند باب الجابية ، ونصب من داخل البلد منجنيقات أيضا ، وترامى الفريقان ، وأرسل الصالح إسماعيل إلى الأمير معين الدين بن الشيخ بسجادة وعكاز وإبريق ، وأرسل يقول : اشتغالك بهذا أولى من اشتغالك بمحاصرة الملوك ، فأرسل إليه المعين بزمر وجنك وغلالة حرير أحمر وأصفر ، وأرسل يقول : أما السجادة ، فإنها تصلح لي ، وأما أنت فهذا أولى بك . ثم أصبح ابن الشيخ ، فاشتد الحصار بدمشق ، وأرسل الصالح إسماعيل ، فأحرق جوسق والده العادل ، وامتد الحريق في زقاق الرمان إلى العقيبة ، فاحترقت بأسرها وقطعت الأنهار ، وغلت الأسعار ، وأخيفت الطرق ، وجرى بدمشق أمور بشعة جدا ، لم تتم عليها [ ص: 278 ] قط ، وامتد الحصار شهورا من هذه السنة إلى جمادى الأولى ، فأرسل أمين الدولة يطلب من ابن الشيخ شيئا من ملابسه ، فأرسل إليه بفرجية وعمامة وقميص ومنديل ، فلبس ذلك الأمين ، وخرج إلى معين الدين ، فاجتمع به بعد العشاء طويلا ، ثم عاد ، ثم خرج مرة أخرى ، فاتفق الحال على أن يخرج الصالح إسماعيل إلى بعلبك ، ويسلم دمشق إلى الصالح أيوب ، ودخل معين الدين بن الشيخ ، فنزل في دار أسامة ، فولى وعزل ، وقطع ووصل ، وفوض قضاء القضاة إلى صدر الدين بن سني الدولة ، وعزل القاضي محيي الدين بن الزكي ، واستناب ابن سني الدولة التفليسي الذي ناب لابن الزكي ، والعزيز السنجاري ، وأرسل معين الدين بن الشيخ أمين الدولة غزال بن المسلماني وزير الصالح إسماعيل تحت الحوطة إلى الديار المصرية .

وأما الخوارزمية فإنهم لم يكونوا حاضرين وقت الصلح ، فلما علموا بوقوع الصلح غضبوا وساروا نحو داريا ، فنهبوها وساقوا نحو بلاد الشرق ، وكاتبوا الصالح إسماعيل فحالفوه على الصالح أيوب ، ففرح بذلك ، ونقض الصلح الذي كان وقع منه ، وعادت الخوارزمية فحاصروا دمشق ، وجاء إليهم الصالح إسماعيل من بعلبك ، فضاق الحال على الدماشقة ، فعدمت الأقوات ، وغلت الأسعار جدا ، حتى إنه بلغ ثمن الغرارة ألفا وستمائة ، وقنطار الدقيق بسبعمائة ، والخبز كل وقيتين إلا ربعا بدرهم ، ورطل اللحم بسبعة ، وأبيعت [ ص: 279 ] الأملاك بالدقيق ، وأكلت القطاط والكلاب والميتات والجيف ، وتماوت الناس في الطرقات ، وعجزوا عن التغسيل والتكفين والإقبار ، فكانوا يلقون موتاهم في الآبار ، حتى أنتنت المدينة وضجر الناس ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

وفي هذه الأيام توفي الشيخ تقي الدين بن الصلاح شيخ دار الحديث وغيرها من المدارس ، فما أخرج من باب الفرج إلا بالجهد الجهيد ، رحمه الله تعالى .

قال ابن السبط : ومع هذا كانت الخمور دائرة والفسق ظاهرا ، والمكوس بحالها .

وذكر الشيخ شهاب الدين أن الأسعار غلت في هذه السنة جدا ، وهلك الصعاليك بالطرقات; كانوا يسألون لقمة ، ثم صاروا يسألون لبابة ، ثم تنازلوا إلى فلس يشترون به نخالة يبلونها ويأكلونها كالدجاج . قال : وأنا شاهدت ذلك . وذكر تفاصيل الأسعار وغلاءها في الأطعمة وغيرها ، ثم زال هذا كله في آخر السنة بعد عيد الأضحى ، ولله الحمد والمنة .

ولما بلغ الصالح أيوب أن الخوارزمية قد مالئوا عليه ، وصالحوا عمه الصالح إسماعيل ، كاتب الملك المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص ، فاستماله إليه ، وقوي جانب نائب دمشق معين الدين حسن بن الشيخ ، ولكنه [ ص: 280 ] توفي في رمضان من هذه السنة كما سيأتي بيانه في الوفيات .

ولما رجع المنصور صاحب حمص عن موالاة الصالح إسماعيل ، شرع في جمع الجيوش من الحلبيين والتركمان والأعراب لاستنقاذ دمشق من الخوارزمية ، وحصارهم إياها ، فبلغ ذلك الخوارزمية فخافوا من ذلك وغائلته ، وقالوا : دمشق ما تفوت ، والمصلحة قتاله عند بلده . فساروا إليه عند بحيرة حمص ، وأرسل الناصر داود جيشه إلى الصالح إسماعيل مع الخوارزمية ، وساق جيش دمشق فانضافوا إلى صاحب حمص ، والتقوا مع الخوارزمية عند بحيرة حمص ، وكان يوما مشهودا ، قتل فيه عامة الخوارزمية ، وقتل ملكهم بركات خان ، وجيء برأسه على رمح ، فتفرق شملهم ، وتمزقوا شذر مذر ، وساق المنصور صاحب حمص إلى بعلبك ، فتسلمها الصالح أيوب ، وجاء إلى دمشق ، فنزل ببستان سامة ، خدمة للصالح أيوب ، ثم حدثته نفسه بأخذها ، فاتفق مرضه ، فمات - رحمه الله - في السنة الآتية ، ونقل إلى حمص فكانت مدة ملكه بعد أبيه عشر سنين ، وقام من بعده فيها ابنه الملك الأشرف مدة سنتين ، ثم أخذت منه على ما سيأتي ، وتسلم نواب الصالح أيوب بعلبك وبصرى ، ولم يبق بيد الصالح إسماعيل بلد يأوي إليه ولا أهل ولا ولد ولا مال ، بل أخذت جميع أمواله ، ونقلت عياله تحت الحوطة إلى الديار المصرية ، وسار هو فاستجار بالملك الناصر بن العزيز بن الظاهر غازي صاحب حلب ، فآواه وأكرمه واحترمه ، وقال الأتابك لؤلؤ الحلبي لابن أستاذه الناصر ، وكان شابا صغيرا : انظر إلى عاقبة الظلم . وأما الخوارزمية فإنهم [ ص: 281 ] ساروا إلى ناحية الكرك ، فأكرمهم الناصر داود صاحبها ، وأحسن إليهم ، وصاهرهم وأنزلهم بالصلت ، فأخذوا معها نابلس ، فأرسل إليهم الصالح أيوب جيشا مع فخر الدين بن الشيخ ، فكسرهم على الصلت وأجلاهم عن تلك البلاد ، وحاصر الناصر بالكرك ، وأهانه غاية الإهانة ، وقدم الملك الصالح نجم الدين أيوب من الديار المصرية ، فدخل دمشق في أبهة عظيمة ، وأحسن إلى أهلها ، وتصدق على الفقراء والمساكين ، وسار إلى بعلبك وإلى بصرى ، وإلى صرخد فتسلمها من صاحبها عز الدين أيبك المعظمي ، وعوضه عنها ، ثم عاد إلى مصر مؤيدا منصورا . وهذا كله في السنة الآتية ، ولله الحمد والمنة .

وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار ، لعنهم الله ، فكسرهم المسلمون كسرة عظيمة ، وفرقوا شملهم ، وهربوا من بين أيديهم ، فلم يلحقوهم ، ولم يتبعوهم خوفا من غائلة مكرهم ، وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم : اتركوا الترك ما تركوكم .

وفي هذه السنة ظهر ببلاد خوزستان ، على شق جبل داخله ، من الأبنية الغريبة العجيبة ما يحار فيه الناظر ، وقد قيل : إن ذلك من بناء الجن ، وأورد صفته ابن الساعي في " تاريخه " .

التالي السابق


الخدمات العلمية