صفحة جزء
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان :

الشيخ تقي الدين بن الصلاح ، عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان ،
الشيخ [ ص: 282 ] الإمام العلامة ، مفتي الشام ومحدثه ، تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح ، الشهرزوري ثم الدمشقي ، سمع الحديث ببلاد الشرق ، وتفقه هنالك بالموصل وحلب وغيرها ، وكان أبوه مدرسا بالأسدية التي بحلب ، وواقفها أسد الدين شيركوه بن شاذي ، وقدم الشام ، وهو في عداد الفضلاء الكبار ، وأقام بالقدس مدة ، ودرس بالصلاحية ، ثم تحول منه إلى دمشق ، ودرس بالرواحية ثم بالشامية الجوانية ، ثم بدار الحديث الأشرفية ، وهو أول من وليها من شيوخ الحديث ، وهو الذي صنف كتاب وقفها ، وقد صنف كتبا كثيرة مفيدة في علوم الحديث وفي الفقه ، وتعاليق حسنة على " الوسيط " وغيره من الفوائد التي يرحل إليها . وكان دينا زاهدا ورعا ناسكا ، على طريق السلف الصالح ، كما هي طريقة متأخري أكثر المحدثين ، مع الفضيلة التامة في فنون كثيرة ، ولم يزل على طريقة جيدة حتى كانت وفاته بمنزله في دار الحديث الأشرفية ، في ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر من سنة ثلاث وأربعين وستمائة ، وصلي عليه بجامع دمشق ، وشيعه الناس إلى داخل باب الفرج ، ولم يمكنهم البروز لظاهره لحصار الخوارزمية ، وما صحبه إلى جبانة الصوفية إلا نحو العشرة ، رحمه الله وتغمده برحمته ، وقد أثنى عليه القاضي شمس الدين بن خلكان ، وكان من شيوخه . قال السبط : أنشدني الشيخ تقي الدين من لفظه ، رحمه الله :


احذر من الواوات أر بعة فهن من الحتوف     واو الوصية والودي
عة والوكالة والوقوف

[ ص: 283 ] وحكى ابن خلكان عنه أنه قال : ألهمت في المنام هؤلاء الكلمات; ادفع المسألة ما وجدت التحمل يمكنك ، فإن لكل يوم رزقا جديدا ، والإلحاح في الطلب يذهب البهاء ، وما أقرب الصنيع من الملهوف ، وربما كانت الغير نوعا من آداب الله تعالى ، والحظوظ مراتب فلا تعجل على ثمرة قبل أن تدرك ، فإنك ستنالها في أوانها ، ولا تعجل في حوائجك فتضيق بها ذرعا ، ويغشاك القنوط .

ابن النجار الحافظ صاحب التاريخ

محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن بن النجار ، أبو عبد الله البغدادي ،
الحافظ الكبير ، سمع الكثير ، ورحل شرقا وغربا ، ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ، وشرع في كتابة التاريخ وعمره خمس عشرة سنة ، وقرأ الأدب والنحو والقراءات ، وقرأ بنفسه على المشايخ كثيرا ، حتى حصل نحوا من ثلاثة آلاف شيخ ، من ذلك نحو من أربعمائة امرأة ، وتغرب ثمانيا وعشرين سنة ، ثم عاد إلى بغداد وقد جمع أشياء كثيرة ، من ذلك " القمر المنير في المسند الكبير " ، يذكر لكل صحابي ما روى ، و " كنز الأيام في معرفة السنن والأحكام " ، و " المختلف والمؤتلف " ، و " السابق واللاحق " ، و " المتفق والمفترق " ، وكتاب " الألقاب " ، و " نهج [ ص: 284 ] الإصابة في معرفة الصحابة " ، و " الكمال في أسماء الرجال " ، وغير ذلك مما لم يتم أكثره . وله كتاب " الذيل على تاريخ مدينة السلام " ، في ستة عشر مجلدا كاملا ، وله في أخبار مكة والمدينة وبيت المقدس ، و " غرر الفوائد " في خمس مجلدات ، وأشياء كثيرة جدا ، سردها ابن الساعي في ترجمته ، وذكر أنه لما عاد إلى بغداد عرض عليه الإقامة في المدارس ، فقال : معي ما أستغني به . فاشترى جارية ، وأولدها ولدا ، وأقام برهة ينفق على نفسه من كسبه ، ثم احتاج إلى أن نزل محدثا في جماعة المحدثين بالمدرسة المستنصرية حين وضعت ، ثم مرض شهرين ، وأوصى إلى ابن الساعي في أمر تركته ، وكانت وفاته يوم الثلاثاء الخامس من شعبان من هذه السنة ، وله من العمر خمس وسبعون سنة ، وصلي عليه بالمدرسة النظامية ، وشهد جنازته خلق كثير ، وكان ينادى حول جنازته : هذا حافظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذي ينفي الكذب عنه . ولم يترك وارثا ، وكانت تركته عشرين دينارا وثياب بدنه ، وأوصى أن يتصدق بها ، ووقف خزانتين من الكتب بالنظامية تساوي ألف دينار ، فأمضى ذلك الخليفة المستعصم ، وقد أثنى عليه الناس ، ورثوه بمراث كثيرة ، سردها ابن الساعي في آخر ترجمته .

الحافظ ضياء الدين المقدسي ، صاحب " الأحكام " ، محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي ، سمع الحديث الكثير ، وكتب [ ص: 285 ] كثيرا ، ورحل وطاف وجمع وصنف وألف كتبا مفيدة حسنة كثيرة الفوائد ، من ذلك كتاب " الأحكام " ولم يتمه ، وكتاب " المختارة " وفيه علوم حسنة حديثية ، وهي أجود من " مستدرك الحاكم " لو كمل ، وله " فضائل الأعمال " ، وغير ذلك من الكتب الحسنة الدالة على حفظه واطلاعه وتضلعه من علم الحديث متنا وإسنادا . وكان رحمه الله في غاية العبادة والزهادة والورع والخير ، وقد وقف كتبا كثيرة عظيمة بخطه لخزانة المدرسة الضيائية التي وقفها على أصحابهم من أهل الحديث والفقهاء ، وقد وقفت عليها أوقاف أخر كثيرة بعد ذلك .

الشيخ علم الدين أبو الحسن السخاوي ، علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب الهمداني المصري ثم الدمشقي ، شيخ القراء بدمشق ، ختم عليه ألوف من الناس ، وكان قد قرأ على الشاطبي ، وشرح قصيدته ، وله " شرح المفصل " ، وله تفاسير وتصانيف كثيرة ، ومدائح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت له حلقة بجامع دمشق ، وولي مشيخة الإقراء بتربة أم الصالح ، وبها كان مسكنه ، وبه توفي ليلة الأحد ثاني عشر جمادى الآخرة ، ودفن بقاسيون . وذكر القاضي ابن خلكان أن مولده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ، وذكر من شعره قوله :


قالوا غدا نأتي ديار الحمى     وينزل الركب بمغناهم
وكل من كان مطيعا لهم     أصبح مسرورا بلقياهم
[ ص: 286 ] قلت فلي ذنب فما حيلتي     بأي وجه أتلقاهم
قالوا أليس العفو من شأنهم     لاسيما عمن ترجاهم

ربيعة خاتون

واقفة الصاحبة بقاسيون : ربيعة خاتون بنت أيوب أخت السلطان صلاح الدين ، زوجها أخوها أولا بالأمير سعد الدين مسعود بن معين الدين أنر ، وتزوج هو بأخته عصمة الدين خاتون ، التي كانت زوجة الملك نور الدين ، واقفة الخاتونية الجوانية والخانقاه ، ثم لما مات الأمير سعد الدين زوجها من الملك مظفر الدين صاحب إربل ، فأقامت عنده بإربل أزيد من أربعين سنة حتى مات ، ثم قدمت دمشق ، فسكنت في دار العقيقي حتى كانت وفاتها في هذه السنة وقد جاوزت الثمانين ، ودفنت بقاسيون ، وكانت في خدمتها الشيخة الصالحة العالمة أمة اللطيف بنت الناصح الحنبلي ، وكانت فاضلة ، ولها تصانيف ، وهي التي أرشدتها إلى وقف المدرسة الصاحبة بسفح قاسيون على الحنابلة ، وأوقفت أمة اللطيف على الحنابلة مدرسة أخرى ، وهي الآن شرقي الرباط الناصري ، ثم لما ماتت الخاتون وقعت العالمة في المصادرات ، وحبست مدة ثم أفرج عنها ، وتزوجها الأشرف صاحب حمص ، وسافرت معه إلى الرحبة ، وتل باشر ، ثم توفيت في سنة ثلاث وخمسين ، ووجد لها بدمشق ذخائر كثيرة وجواهر ثمينة ، تقارب ستمائة ألف درهم ، غير الأملاك والأوقاف .

معين الدين الحسن بن شيخ الشيوخ

وزير الصالح نجم الدين أيوب ،
[ ص: 287 ] أرسله إلى دمشق ، فحاصرها مع الخوارزمية أول مرة حتى أخذها من يد الصالح إسماعيل ، وأقام بها نائبا من جهة الصالح أيوب ، ثم تمالأ الخوارزمية مع الصالح إسماعيل عليه ، فحصروه بدمشق ، ثم كانت وفاته في العشر الأخير من رمضان هذه السنة ، عن ست وخمسين سنة ، فكانت مدة ولايته بدمشق أربعة أشهر ونصفا ، وصلي عليه بجامع دمشق ، ودفن بقاسيون إلى جانب أخيه عماد الدين .

وفيها كانت وفاة واقف القليجية للحنفية ، وهو الأمير سيف الدين بن قليج ودفن بتربته التي بمدرسته المذكورة ، التي كانت سكنه بدار فلوس ، تقبل الله تعالى منه .

وخطيب الجبل شرف الدين عبد الله بن الشيخ أبي عمر ، رحمه الله تعالى .

والسيف أحمد بن عيسى بن الإمام موفق الدين بن قدامة .

وفيها توفي إمام الكلاسة الشيخ تاج الدين أبو الحسن محمد بن أبي جعفر ، مسند وقته ، وشيخ الحديث في زمانه رواية وصلاحا - رحمه الله تعالى -

والمحدثان الكبيران الحافظان المفيدان شرف الدين أحمد بن الجوهري ، وتاج الدين عبد الجليل الأبهري .

التالي السابق


الخدمات العلمية