صفحة جزء
[ ص: 547 ] فصل فيما أصاب المهاجرين من حمى المدينة رضي الله عنهم أجمعين وقد سلم الرسول صلى الله عليه وسلم بحول الله وقوته ، ودعا الله فأزاحها عنالمدينة

قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف ، ثنا مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أنها قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال . قالت : فدخلت عليهما فقلت : يا أبه كيف تجدك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت : وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :


كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله

وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ، ويقول :


ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بواد وحولي إذخر وجليل
[ ص: 548 ] وهل أردن يوما مياه مجنة     وهل يبدون لي شامة وطفيل

قالت عائشة : فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، وصححها ، وبارك لنا في صاعها ومدها ، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة " .
ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبيدة عن هشام مختصرا .

وفي رواية البخاري له عن أبي أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، فذكره . وزاد بعد شعر بلال ، ثم يقول : اللهم العن عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، كما أخرجونا إلى أرض الوباء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، اللهم بارك لنا في صاعها ، وفي مدها ، وصححها لنا ، وانقل حماها إلى الجحفة " . وقدمنا إلى المدينة وهي أوبأ أرض الله ، وكان بطحان يجري نجلا . يعني ماء آجنا .

وقال زياد ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني هشام بن عروة وعمر بن عبد الله ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 549 ] المدينة ، قدمها وهي أوبأ أرض الله ، من الحمى ، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم ، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم . قالت : فكان أبو بكر ، وعامر بن فهيرة ، وبلال; موليا أبى بكر في بيت واحد ، فأصابتهم الحمى ، فدخلت عليهم أعودهم ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب ، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك ، فدنوت من أبي بكر ، فقلت : كيف تجدك يا أبه ؟ فقال :


كل امرئ مصبح في أهله     والموت أدنى من شراك نعله

قالت : والله ما يدري أبى ما يقول . قالت : ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت : كيف تجدك يا عامر ؟ قال :


لقد وجدت الموت قبل ذوقه     إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه     كالثور يحمي جلده بروقه

قالت : فقلت : والله ما يدري عامر ما يقول . قالت : وكان بلال إذا أدركته الحمى اضطجع بفناء البيت ، ثم رفع عقيرته فقال :


ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بفخ وحولي إذخر وجليل
[ ص: 550 ] وهل أردن يوما مياه مجنة     وهل يبدون لي شامة وطفيل

قالت عائشة : فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم ، وقلت : إنهم ليهذون ، وما يعقلون من شدة الحمى . فقال : " اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد ، وبارك لنا في مدها ، وصاعها ، وانقل وباءها إلى مهيعة " .
ومهيعة هي الجحفة .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، ثنا ليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي بكر بن إسحاق بن يسار ، عن عبد الله بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتكى أصحابه ، واشتكى أبو بكر ، وعامر بن فهيرة ، مولى أبي بكر ، وبلال ، فاستأذنت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم ، فأذن لها ، فقالت : لأبي بكر : كيف تجدك فقال :


كل امرئ مصبح في أهله     والموت أدنى من شراك نعله

وسألت عامرا فقال :


إني وجدت الموت قبل ذوقه     إن الجبان حتفه من فوقه

وسألت بلالا فقال :


يا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بفخ وحولي إذخر وجليل

[ ص: 551 ] فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فنظر إلى السماء ، وقال : " اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد ، اللهم بارك لنا في صاعها ، وفي مدها ، وانقل وباءها إلى مهيعة " .
وهي الجحفة فيما زعموا . وكذا رواه النسائي ، عن قتيبة ، عن الليث به . ورواه الإمام أحمد ، من طريق عبد الرحمن بن الحارث عنها مثله .

وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو ، قالا : ثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، ثنا يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهي أوبأ أرض الله ، وواديها بطحان نجل . قال هشام : وكان وباؤها معروفا في الجاهلية ، وكان إذا كان الوادي وبيئا ، فأشرف عليه الإنسان ، قيل له أن ينهق نهيق الحمار; فإذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي ، وقد قال الشاعر حين أشرف على المدينة :


لعمري لئن عشرت من خيفة الردى     نهيق الحمار إنني لجزوع

[ ص: 552 ] وروى البخاري ، من حديث موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة - وهي الجحفة - فأولت أن وباء المدينة نقل إليها : . هذا لفظ البخاري ، ولم يخرجه مسلم . ورواه الترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث موسى بن عقبة .

وقد روى حماد بن زيد ، عن هشام بن عروة ، عن عائشة ، قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهي وبيئة . فذكر الحديث بطوله إلى قوله : " وانقل حماها إلى الجحفة " . قال هشام : فكان المولود يولد بالجحفة ، فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى . رواه البيهقي في " دلائل النبوة " . وقال يونس ، عن ابن إسحاق ، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهي وبيئة ، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم حتى أجهدهم ذلك ، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم .

وقد ثبت في " الصحيحين " عن ابن عباس ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 553 ] وأصحابه - صبيحة رابعة يعني مكة - عام عمرة القضاء ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم وفد قد وهنهم حمى يثرب . فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ، وأن يمشوا ما بين الركنين . ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم .

قلت : وعمرة القضاء كانت في سنة سبع في ذي القعدة ، فإما أن يكون تأخر دعاؤه عليه الصلاة والسلام بنقل الوباء إلى قريب من ذلك ، أو أنه رفع وبقي آثار منه قليل ، أو أنهم بقوا في خمار ما كان أصابهم من ذلك إلى تلك المدة . والله أعلم .

وقال زياد ، عن ابن إسحاق ، وذكر ابن شهاب الزهري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه ، أصابتهم حمى المدينة ، حتى جهدوا مرضا ، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، حتى كانوا ما يصلون إلا وهم قعود . قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك ، فقال لهم : " اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " . فتجشم المسلمون القيام ، على ما بهم من الضعف والسقم; التماس الفضل .

التالي السابق


الخدمات العلمية