صفحة جزء
[ ص: 735 ] ثم دخلت سنة سبعمائة من الهجرة النبوية

استهلت والخليفة والسلطان ونواب البلاد والحكام بها هم المذكورون في التي قبلها ، غير الشافعي والحنفي . ولما كان ثالث المحرم جلس المستخرج لاستخلاص أجرة أربعة أشهر من جميع أملاك الناس وأوقافهم بدمشق ، فهرب أكثر الناس من البلد ، وجرت خبطة قوية وشق ذلك على الناس مشقة عظيمة جدا .

وفي مستهل صفر وردت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام ، وأنهم عازمون على دخول مصر ، فانزعج الناس لذلك وازدادوا ضعفا على ضعفهم ، وطاشت عقولهم وألبابهم ، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرك والشوبك والحصون المنيعة ، فبلغت المحارة إلى مصر خمسمائة ، وبيع الجمل بألف ، والحمار بخمسمائة ، وبيعت الأمتعة والثياب والغلات بأرخص الأثمان ، وجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في [ ص: 736 ] الجامع ، وحرض الناس على القتال ، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك ، ونهى عن الإسراع في الفرار ، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم ، وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله تعالى كان خيرا ، وأوجب جهاد التتر حتما في هذه الكرة ، وتابع المجالس في ذلك ، ونودي في البلدان : لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة . فتوقف الناس عن السير ، وسكن جأشهم ، وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر المنصورة ، ودقت البشائر لخروجه ، لكن كان قد خرج جماعة من بيوتات دمشق كبيت ابن صصرى وبيت ابن فضل الله وابن منجا وابن سويد وابن الزملكاني وابن جماعة .

وفي أول ربيع الآخر قوي الإرجاف بأمر التتار ، وجاء الخبر بأنهم قد وصلوا إلى البيرة ، ونودي في البلد أن تخرج العامة مع العسكر ، وجاء مرسوم النائب من المرج بذلك ، فاستعرضوا في أثناء الشهر ، فعرض نحو من خمسة آلاف من العامة بالعدة والأسلحة على قدر طاقتهم ، وقنت الخطيب ابن جماعة في الصلوات كلها ، واتبعه أئمة المساجد ، وأشاع المرجفون بأن التتار قد وصلوا إلى حلب ، وأن نائب حلب تقهقر إلى حماة ، ونودي في البلد بتطييب قلوب الناس وإقبالهم على معايشهم ، وأن السلطان والعساكر واصلة ، وأبطل ديوان المستخرج وأقيموا ، ولكن كانوا قد استخرجوا أكثر مما أمروا به ، وبقيت بواق على الناس الذين قد اختفوا ، فعفي عما بقي ، ولم يرد ما سلف ، لا جرم أن عواقب هذه الأفعال خسر ونكر ، وأن أصحابها لا يفلحون ، ثم جاءت الأخبار بأن سلطان [ ص: 737 ] مصر رجع عائدا إلى مصر بعد أن خرج منها قاصدا الشام ، فكثر الخوف ، واشتد الحال ، وكثرت الأمطار جدا ، وصار بالطرقات من الأوحال والسيول ما يحول بين المرء وبين ما يريده من الانتشار في الأرض والذهاب فيها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

وخرج كثير من الناس خفافا وثقالا يتحملون بأهاليهم وأولادهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وجعلوا يحملون الصغار في الوحل الشديد والمشقة على الدواب والرقاب ، وقد ضعفت الدواب من قلة العلف مع كثرة الأمطار والزلق والبرد الشديد والجوع وقلة الشيء ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، واستهل جمادى الأولى ، والناس على خطة صعبة من الخوف ، وتأخر السلطان واقتراب العدو ، وشدة الأمر والحال ، وخرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، رحمه الله تعالى ، في مستهل هذا الشهر ، وكان يوم السبت ، إلى نائب الشام وعساكره بالمرج ، فثبتهم وقوى جأشهم ، وطيب قلوبهم ، ووعدهم النصر والظفر على الأعداء ، وتلا قوله تعالى : ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور [ الحج : 60 ] . وبات عند العسكر ليلة الأحد ، ثم عاد إلى دمشق ، وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان على المجيء ، فساق وراء السلطان ، وكان السلطان قد وصل إلى الساحل ، فلم يدركه إلا وقد رجع إلى القاهرة ، وتفارط الحال ، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام [ ص: 738 ] إن كان لهم به حاجة ، وقال لهم فيما قال : إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته ، أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ، ويستغله في زمن الأمن . ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام ثم قال لهم : لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر ، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه ، وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنهم . وقوى جأشهم ، وضمن لهم النصر هذه الكرة ، فخرجوا إلى الشام ، فلما تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحا شديدا ، بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، ثم قويت الأراجيف بوصول التتار وتحقق أهل الشام عود السلطان إلى مصر ، ونادى ابن النحاس متولي دمشق في الناس : من قدر على السفر فلا يقعد بدمشق . فتصايح النساء والولدان ، ورهق الناس ذلة عظيمة وخمدة ، وزلزلوا زلزالا شديدا ، وغلقت الأسواق ، وتيقن الناس أن لا ناصر لهم إلا الله عز وجل ، وأن نائب الشام لما كان فيه قوة مع السلطان عام أول لم يقو على التقاء جيش التتار فكيف به الآن وقد عزم على الهرب؟ ويقولون : ما بقي أهل دمشق إلا طعمة العدو . ودخل كثير من الناس القلعة ، وامتنع الناس من النوم والقرار ، وخرج كثير من الناس إلى البراري والقفار بأهاليهم من الكبار والصغار ، ونودي في الناس : من كانت نيته الجهاد فليلحق بالجيش; فقد اقترب وصول التتار . ولم يبق بدمشق من أكابرها إلا القليل ، وسافر ابن جماعة وشمس الدين بن الحريري ونجم الدين بن صصرى ووجيه الدين بن منجا ، وقد سبقتهم بيوتهم إلى الديار المصرية ، وجاءت الأخبار بوصول [ ص: 739 ] التتار إلى سرمين ، وخرج الشيخ زين الدين الفارقي والشيخ إبراهيم الرقي وابن قوام وشرف الدين ابن تيمية وابن خبارة إلى نائب السلطنة الأفرم ، فقووا عزمه على ملاقاة العدو ، واجتمعوا بمهنا أمير العرب ، فحرضوه على قتال العدو ، فأجابهم بالسمع والطاعة ، وقويت نياتهم على ذلك ، وخرج طلب سلار من دمشق إلى ناحية الجيش بالمرج ، واستعدوا للحرب والقتال بنيات صادقة .

ورجع الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد ، وقد أقام بقلعة مصر ثمانية أيام واجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة ، وحثهم وحرضهم فأجابوه ، وقد غلت الأسعار بدمشق جدا ، حتى أنه أبيع خروفان بخمسمائة درهم ، واشتد الحال جدا ، ثم جاءت الأخبار بأن ملك التتار قد خاض الفرات راجعا عامه ذلك; لضعف جيشه وقلة مدده ، فطابت النفوس بذلك ، وسكن الناس وعادوا إلى منازلهم منشرحين آمنين مستبشرين ، والحمد لله رب العالمين . ولما جاءت الأخبار بعدم وصول التتار إلى الشام في جمادى الآخرة تراجعت أنفس الناس إليهم ، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق ، وكان مخيما في المرج من مدة أربعة أشهر متتابعة ، وكان هذا من أعظم الرباط ، وتراجع الناس إلى أوطانهم .

وكان الشيخ زين الدين الفارقي قد درس بالناصرية لغيبة مدرسها كمال الدين بن الشريشي بالكرك هاربا ، ثم عاد إليها في رمضان ، وفي أواخر الشهر [ ص: 740 ] درس ابن الزكي بالدولعية عوضا عن القاضي جمال الدين الزرعي لغيبته ، وفي يوم الاثنين قرئت شروط الذمة عليهم ، وألزموا بها ، واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات ، وأخذوا بالصغار ، ونودي بذلك في البلد ، وألزم النصارى بالعمائم الزرق ، واليهود بالصفر ، والسامرة - بالحمر ، فحصل بسبب ذلك خير كثير ، وتميزوا عن المسلمين . وفي عاشر رمضان جاء المرسوم بالمشاركة بين أرجواش والأمير سيف الدين أقجبا في نيابة القلعة ، وأن يركب كل واحد منهما يوما ، ويكون الآخر بالقلعة يوما ، فامتنع أرجواش من ذلك .

وفي شوال درس بالإقبالية الشيخ شهاب الدين بن المجد عوضا عن علاء الدين القونوي بحكم إقامته بالقاهرة ، وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من ذي القعدة عزل شمس الدين بن الحريري عن قضاء الحنفية بالقاضي جلال الدين بن حسام الدين على قاعدته وقاعدة أبيه ، وذلك باتفاق من الوزير الأمير شمس الدين سنقر الأعسر ، ونائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم .

وفيها وصلت رسل ملك التتار إلى دمشق في أواخر الشهر ، فأنزلوا بالقلعة ثم ساروا إلى مصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية