صفحة جزء
[ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم

ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة

استهلت والخليفة الحاكم العباسي ، وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن قلاوون ، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين سلار ، وبالشام الأمير جمال الدين آقوش الأفرم . وفي أولها عزل الأمير قطلبك عن نيابة البلاد الساحلية ، وتولاها الأمير سيف الدين أسندمر ، وعزل عن وزارة مصر شمس الدين الأعسر ، وتولى سيف الدين آقجبا المنصوري نيابة غزة وجعل عوضه بالقلعة الأمير سيف الدين بهادر السنجري وهو من البرجية .

وفي صفر رجعت رسل ملك التتر من مصر إلى دمشق فتلقاهم نائب [ ص: 6 ] السلطنة والجيش والعامة . وفي نصف صفر ولي تدريس النورية الشيخ صدر الدين علي البصراوي الحنفي عوضا عن الشيخ ولي الدين السمرقندي ، وإنما كان وليها ستة أيام ، ودرس بها أربعة دروس بعد بني الصدر سليمان ، توفي ، وكان من كبار الصالحين ، يصلي كل يوم مائة ركعة .

وفي يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول جلس قاضي القضاة ، وخطيب الخطباء : بدر الدين بن جماعة بالخانقاه السميساطية ، شيخ الشيوخ بها عن طلب الصوفية له في ذلك ، ورغبتهم فيه ، وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف بن حمويه الحموي ، وفرحت الصوفية به ، وجلسوا حوله ، ولم تجتمع هذه المناصب قبله لغيره ، ولا بلغنا أنها اجتمعت إلى أحد بعده إلى زماننا هذا : القضاء ، والخطابة ، ومشيخة الشيوخ .

وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول ، قتل الفتح أحمد بن البققي بالديار المصرية ، حكم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقصه للشريعة المطهرة ، واستهزائه بالآيات المحكمات ، ومعارضة [ ص: 7 ] المشتبهات بعضها ببعض ، ويذكر عنه أنه كان يحل المحرمات من اللواط ، والخمر ، وغير ذلك ، لمن كان يجتمع به من الفسقة من الترك وغيرهم من الجهلة ، هذا ، وقد كان لديه فضيلة ، وله اشتغال وهيئة جميلة في الظاهر ، وبزته ولبسته جيدة ، ولما أوقف عند شباك دار الحديث الكاملية بين القصرين ، استغاث بالقاضي تقي الدين بن دقيق العيد ، وقال : ما تعرف مني ؟ فقال : إنما أعرف منك الفضيلة ، ولكن حكمك إلى القاضي زين الدين ، فأمر القاضي للوالي أن يضرب عنقه ، فضرب عنقه ، وطيف برأسه في البلد ، ونودي عليه : هذا جزاء من طعن في الله ورسوله .

قال الشيخ علم الدين البرزالي في " تاريخه " : وفي وسط شهر ربيع الأول ، ورد كتاب من بلاد حماة ، من جهة قاضيها ، يخبر فيه أنه وقع في هذه الأيام ببارين من عمل حماة ، برد كبار على صور حيوانات مختلفة ، منها : سباع ، وحيات ، وعقارب ، وطيور ، ومعز ، وبلشون ، ورجال في أوساطهم حوائص ، وأن ذلك ثبت بمحضر عند قاضي الناحية ، ثم نقل ثبوته إلى قاضي حماة .

وفي يوم الثلاثاء عاشر ربيع الآخر شنق الشيخ علي الحوراني ، بواب [ ص: 8 ] الظاهرية على بابها ، وذلك أنه اعترف بقتل الشيخ زين الدين السمرقندي .

وفي النصف منه حضر القاضي بدر الدين بن جماعة تدريس الناصرية الجوانية عوضا عن كمال الدين بن الشريشي ، وذلك أنه ثبت محضر أنها لقاضي الشافعية بدمشق ، فانتزعها من يد ابن الشريشي .

وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى قدم الصدر علاء الدين بن شرف الدين بن القلانسي على أهله من بلاد التتر بعد الأسر سنتين وأيام ، وقد حبس مدة ، ثم لطف الله به ، وتلطف حتى تخلص منهم ، ورجع إلى أهله ، ففرحوا به .

وفي سادس جمادى الآخرة قدم البريد من القاهرة وأخبر بوفاة أمير المؤمنين : الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي ، وأن ولده ولي الخلافة من بعده ، وهو أبو الربيع سليمان ، ولقب بالمستكفي بالله ، وأنه حضر جنازته الناس كلهم مشاة ، ودفن بالقرب من الست نفيسة وله أربعون سنة في الخلافة . وقدم مع البريد تقليد بالقضاء لشمس الدين بن الحريري الحنفي ، وبنظر الدواوين لشرف الدين بن مزهر ، واستمرت الخاتونية الجوانية بيد القاضي جلال الدين بن حسام الدين بإذن نائب السلطنة . وفي يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة خطب للخليفة .

[ ص: 9 ] المستكفي بالله ، وترحم على والده بجامع دمشق ، وأعيدت الناصرية إلى ابن الشريشي ، وعزل عنها ابن جماعة ، ودرس بها يوم الأربعاء الرابع عشر من جمادى الآخرة .

وفي شوال قدم إلى الشام جراد عظيم ، أكل الزرع والثمار ، وجرد الأشجار حتى صارت مثل العصي ، ولم يعهد مثل هذا ، وفي هذا الشهر عقد مجلس لليهود الخيابرة ، وألزموا بأداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود ، فأحضروا كتابا معهم يزعمون أنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضع الجزية عنهم ، فلما وقف عليه الفقهاء ، تبينوا أنه مكذوب مفتعل لما فيه من الألفاظ الركيكة ، والتواريخ المخبطة ، واللحن الفاحش ، وحاققهم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبين لهم خطأهم وكذبهم ، وأنه مزور مكذوب ، فأنابوا إلى أداء الجزية ، وخافوا من أن يستعاد عليهم بالسنين الماضية .

قلت : وقد وقفت أنا على هذا الكتاب ، فرأيت فيه شهادة سعد بن معاذ عام خيبر ، وقد توفي سعد قبل ذلك بنحو من ثلاث سنين ، وشهادة معاوية بن أبي سفيان ، ولم يكن أسلم إذ ذاك ، وإنما أسلم بعد ذلك بنحو من سنتين ، وفيه : وكتب علي بن أبو طالب ، وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين علي ؛ لأن علم النحو إنما أسند إليه من طريق أبي الأسود الدؤلي عنه ، وقد جمعت فيه جزءا .

[ ص: 10 ] مفردا ، وذكرت ما جرى فيه أيام القاضي الماوردي ، وكبار أصحابنا في ذلك العصر ، وقد ذكره في " الحاوي " ، وصاحب " الشامل " في كتابه ، وغير واحد ، وبينوا خطأه ، ولله الحمد والمنة .

وفي هذا الشهر ثار جماعة من الحسدة على الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وشكوا منه أنه يقيم الحدود ، ويعزر ، ويحلق رءوس الصبيان ، وتكلم هو أيضا في من يشكو منه ذلك ، وبين خطأهم ، ثم سكنت الأمور .

وفي ذي القعدة ضربت البشائر بقلعة دمشق أياما بسبب فتح أماكن من بلاد سيس عنوة ، ففتحها المسلمون ، ولله الحمد ، وفيه قدم عز الدين بن ميسر على نظر الدواوين عوضا عن ابن مزهر .

وفي يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة حضر عبد السيد بن المهذب ديان اليهود إلى دار العدل ، ومعه أولاده ، فأسلموا كلهم ، فأكرمهم نائب السلطنة ، وأمر أن يركب بخلعة وخلفه الدبادب تضرب والبوقات إلى داره ، وعمل ليلتئذ في داره ختمة عظيمة حضرها القضاة والعلماء ، وأسلم على يديه جماعة كبيرة من اليهود ، وخرجوا يوم العيد كلهم يكبرون مع المسلمين ، وأكرمهم [ ص: 11 ] الناس إكراما زائدا .

وقدمت رسل التتار في سابع عشر ذي الحجة ، فنزلوا بالقلعة ، وسافروا إلى القاهرة بعد ثلاثة أيام ، وبعد مسيرهم بيومين مات أرجواش ، وبعد موته بيومين قدم الجيش من بلاد سيس ، وقد فتحوا جانبا منها ، فخرج نائب السلطنة والجيش لتلقيهم ، وخرج الناس للفرجة على العادة ، وفرحوا بقدومهم ونصرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية