صفحة جزء
[ ص: 448 ] ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة المباركة وسلطان المسلمين الملك الناصر أحمد ابن ناصر الدين محمد ابن الملك المنصور قلاوون ، وهو مقيم بالكرك ، قد حاز الحواصل السلطانية من قلعة الجبل إلى قلعة الكرك ، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين آق سنقر السلاري الذي كان نائبا بغزة ، وقضاة الديار المصرية هم المذكورون في السنة الماضية ، سوى القاضي الحنفي . وأما دمشق فليس لها نائب إلى حينئذ ، غير أن الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب كان استنابه الفخري بدمشق نائب غيبة ، فهو الذي يسد الأمور مع الحاجب أللمش ، وتمر المهمندار ، والأمير سيف الدين الملقب بحلاوة - والي البر - والأمير ناصر الدين بن بكتاش متولي البلد ، هؤلاء هم الذين يسدون الأشغال والأمور السلطانية ، والقضاة هم الذين ذكرناهم في السنة الخالية ، وخطيب البلد تاج الدين عبد الرحيم بن القاضي جلال الدين القزويني ، وكاتب السر القاضي شهاب الدين بن فضل الله .

[ ص: 449 ] واستهلت هذه السنة والأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي نازل بقصر تنكز بطريق داريا ، وكتب السلطان واردة في كل وقت بالاحتياط عليه والقبض ، وأن يمسك ويرسل إلى الكرك ، هذا والأمراء يتوانون في أمره ويسوفون المراسيم وقتا بعد وقت ، وحينا بعد حين ، ويحملهم على ذلك أن الأحمدي لا ذنب له ، ومتى مسكه تطرق إلى غيره ، مع أن السلطان يبلغهم عنه أحوال لا ترضيهم من اللعب والاجتماع مع الأراذل والأطراف ببلد الكرك ، مع قتله الفخري وطشتمر قتلا فظيعا ، وسلبه أهلهما ، وسلبه لما على الحريم من الثياب والحلي ، وإخراجهم في أسوأ حال من الكرك ، وتقريبه النصارى وحضورهم عنده ، فحمل الأمراء هذه الصفات على أن بعثوا أحدهم يكشف أمره ، فلم يصل إليه ، ورجع هاربا خائفا ، فلما رجع وأخبر الأمراء بذلك انزعجوا وتشوشوا كثيرا ، واجتمعوا بسوق الخيل مرارا ، وضربوا مشورة بينهم ، فاتفقوا على أن يخلعوه ، فكتبوا إلى المصريين بذلك ، وأعلموا نائب حلب أيدغمش ونواب البلاد ، وبقوا متوهمين من هذا الحال كثيرا ومترددين ، ومنهم من يصانع في الظاهر وليس معهم في الباطن ، وقالوا : لا سمع له ولا طاعة حتى يرجع إلى الديار المصرية ، ويجلس على سرير المملكة . وجاء كتابه إليهم يعيبهم ويعنفهم في ذلك ، فلم يفد ، وركب الأحمدي في الموكب وركبوا عن يمينه وشماله ، وراحوا إليه إلى القصر ، فسلموا عليه ، وخدموه ، وتفاقم الأمر ، وعظم الخطب ، وحملوا هموما عظيمة خوفا من أن يذهب إلى الديار المصرية ، فيلف عليه المصريون ، فيتلف الشاميين ، فحمل الناس همهم ، فالله هو المسئول أن يحسن العاقبة .

[ ص: 450 ] فلما كان يوم الأحد الخامس والعشرين من المحرم ورد مقدم البريدية ومعه كتب المصريين بأنه لما بلغهم خبر الشاميين كان عندهم من أمر السلطان أضعاف ما حصل عند الشاميين ، فبادروا إلى ما كانوا عزموا عليه ، ولكن ترددوا خوفا من الشاميين أن يخالفوهم فيه ويتقدموا في صحبة السلطان لقتالهم ، فلما اطمأنوا من جهة الشاميين صمموا على عزمهم ، فخلعوا الناصر أحمد وملكوا عليهم أخاه الملك الصالح إسماعيل ابن الناصر محمد بن المنصور ، جعله الله مباركا على المسلمين ، وأجلسوه على السرير يوم الثلاثاء العشرين من المحرم المذكور ، وجاء كتابه مسلما على أمراء الشام ومقدميه ، وجاءت كتب الأمراء على الأمراء بالسلام والأخبار بذلك ، ففرح المسلمون وأمراء الشام والخاصة والعامة بذلك فرحا شديدا ، ودقت البشائر بالقلعة المنصورة يومئذ ، ورسم بتزيين البلد ، فزين الناس صبيحة الثلاثاء السابع والعشرين منه . ولما كان يوم الجمعة سلخ المحرم خطب بدمشق للملك الصالح عماد الدنيا والدين إسماعيل بن الناصر بن المنصور .

وفي يوم الخميس سادس صفر درس بالصدرية صاحبنا الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي إمام الجوزية ، وحضر عنده الشيخ عز الدين بن المنجا - الذي نزل له عنها - وجماعة من الفضلاء .

وفي يوم الاثنين سابع عشر صفر دخل الأمير سيف الدين طقزدمر من الديار المصرية إلى دمشق ذاهبا إلى نيابة حلب المحروسة ، فنزل بالقابون .

[ ص: 451 ] وفي يوم الثلاثاء ثامن عشر صفر توفي الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد عبد الله بن أبي الوليد المقرئ المالكي ، إمام المالكية ، هو وأخوه أبو عمرو ، بالجامع الأموي بمحراب الصحابة ، توفي ببستان بقبة المسجف ، وصلي عليه بالمصلى ، ودفن عند أبيه - رحمهما الله - بمقابر باب الصغير ، وحضر جنازته الأعيان ، والفقهاء ، والقضاة ، وكان رجلا صالحا مجمعا على ديانته وجلالته ، رحمه الله .

وفي يوم الخميس العشرين من صفر دخل الأمير أيدغمش نائب السلطنة بدمشق ، ودخل إليها من ناحية القابون قادما من حلب ، وتلقاه الجيش بكماله ، وعليه خلعة النيابة ، واحتفل الناس له ، وأشعلوا الشموع ، وخرج أهل الذمة من اليهود والنصارى يدعون له ومعهم الشموع ، وكان يوما مشهودا ، وصلى يوم الجمعة بالمقصورة من الجامع الأموي ، ومعه الأمراء والقضاة ، وقرئ تقليده هناك على السدة وعليه خلعته ، ومعه الأمير سيف الدين ملكتمر السرجواني ، وعليه خلعة أيضا .

وفي يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر دخل الأمير علم الدين الجاولي دمشق المحروسة ذاهبا إلى نيابة حماة المحروسة ، وتلقاه نائب السلطنة والأمراء إلى مسجد القدم ، وراح فنزل بالقابون ، وخرج القضاة والأعيان إليه ، وسمع عليه من " مسند الشافعي " فإنه يرويه ، وله فيه عمل ، ورتبه ترتيبا حسنا رأيته ، وشرحه أيضا ، وله أوقاف على الشافعية وغيرهم .

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين منه عقد مجلس بعد الصلاة بالشباك [ ص: 452 ] الكمالي من مشهد عثمان بسبب القاضي فخر الدين المصري ، وصدر الدين عبد الكريم ابن القاضي جلال الدين القزويني; بسبب العادلية الصغيرة ، فاتفق الحال على أن نزل صدر الدين عن تدريسها ، ونزل القاضي فخر الدين عن مائة وخمسين على الجامع . وفي يوم الأحد سلخ الشهر المذكور حضر القاضي فخر الدين المصري ، ودرس بالعادلية الصغيرة ، وحضر الناس عنده على العادة ، وأخذ في قوله تعالى : هذه بضاعتنا ردت إلينا [ يوسف : 65 ] .

وفي أواخر شهر ربيع الأول جاء المرسوم من الديار المصرية بأن تخرج تجريدة من دمشق بصحبة الأمير حسام الدين البشمقدار لحصار الكرك الذي تحصن فيه ابن السلطان أحمد ، واستحوذ على ما عنده من الأموال التي أخذها من الخزائن من ديار مصر ، وبرز المنجنيق من القلعة إلى قبلي جامع القبيبات ، فنصب هناك ، وخرج الناس للتفرج عليه ورمي به ، ومن نيتهم أن يستصحبوه معهم للحصار .

وفي يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر قدم الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني من الديار المصرية على خيل البريد ذاهبا إلى حماة نائبا عليها ، ورسم بعود الجاولي إلى الديار المصرية على قاعدته وعادته .

وفي يوم الخميس عاشره دخل إلى دمشق الأميران الكبيران; ركن الدين بيبرس الأحمدي من طرابلس ، وعلم الدين الجاولي من حماة - سحرا ، وحضرا الموكب ، ووقفا مكتنفين لنائب السلطنة ، الأحمدي عن يمينه ، والجاولي عن يساره ، ونزلا ظاهر البلد ، ثم بعد أيام يسيرة توجه الأحمدي إلى الديار المصرية [ ص: 453 ] على عادته وقاعدته رأس مشورة ، وتوجه الجاولي إلى غزة المحروسة نائبا عليها ، وكان الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير على إمرة طبلخاناه بدمشق .

وفي يوم الخميس ثالثه خرجت التجريدة من دمشق سحرا إلى مدينة الكرك ، والأمير شهاب الدين بن صبح والي الولاة بحوران مشد المجانيق ، وخرج الأمير سيف الدين بهادر الشمس الملقب بحلاوة والي البر بدمشق إلى ولاية الولاة بحوران .

وفي يوم الجمعة ثامن عشره وقع بين النائب والقاضي الشافعي بسبب كتاب ورد من الديار المصرية فيه الوصاة بالقاضي السبكي المذكور ، ومعه التوقيع بالخطابة له ، مضافا إلى القضاء وخلعة من الديار المصرية ، فتغيظ عليه النائب لأجل أولاد الجلال; لأنهم عندهم عائلة كثيرة وهم فقراء ، وقد نهاه عن السعي في ذلك ، فتقدم إليه يومئذ أن لا يصلي عنده في الشباك الكمالي ، فنهض من هناك وصلى في الغزالية .

وفي يوم الأحد العشرين منه دخل دمشق الأمير سيف الدين أرنبغا زوج ابنة السلطان الملك الناصر مجتازا ذاهبا إلى طرابلس نائبا بها - في تجمل وأبهة ، ونجائب وجنائب كثيرة ، وعدة وسرك كامل .

[ ص: 454 ] وفي يوم الخميس الرابع والعشرين منه دخل الأمير بدر الدين بن الخطير معزولا عن نيابة غزة المحروسة ، فأصبح يوم الخميس فركب في الموكب وسير مع نائب السلطنة ، ونزل في داره ، وراح الناس للسلام عليه .

وفي جمادى الأولى صبيحة يوم الثلاثاء ثالث عشر زينت البلد لعافية السلطان الملك الصالح لمرض أصابه ، ثم شفي منه .

وفي يوم الجمعة السادس عشره قبل العصر ورد البريد من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة تقي الدين السبكي إليها حاكما بها ، فذهب الناس للسلام عليه ولتوديعه ، وذلك بعد ما أرجف الناس به كثيرا ، واشتهر أنه سينعقد له مجلس للدعوى عليه بما دفعه من مال الأيتام إلى ألطنبغا وإلى الفخري ، وكتبت فتوى عليه بذلك في تغريمه ، وداروا بها على المفتين ، فلم يكتب لهم أحد فيها غير القاضي جلال الدين بن حسام الدين الحنفي ، رأيت خطه عليها وحده يومئذ بعد الصلاة ، وسئلت في الإفتاء عليها فامتنعت; لما فيها من التشويش على الحكام ، وفي أول مرسوم نائب السلطان أن يتأمل المفتون هذا السؤال ويفتوا بما يقتضيه حكم الشرع الشريف ، وكانوا له في نية عجيبة ، ففرج الله عنه بطلبه إلى الديار المصرية ، فسار إليها صحبة البريد ليلة الأحد ، وخرج الكبراء والأعيان لتوديعه وفي خدمته .

استهل جمادى الآخرة والتجريدة عمالة إلى الكرك ، والجيش المجردون من الحلقة قريب من ألف أو يزيدون ، ولما كان يوم الثلاثاء رابعه بعد الظهر مات الأمير [ ص: 455 ] علاء الدين أيدغمش نائب السلطنة بالشام المحروس فجأة في دار وحده ، بدار السعادة ، فدخلوا عليه ، وكشفوا أمره ، وأحصروا ، وخشوا أن يكون اعتراه سكتة ، ويقال : إنه شفي ، فالله أعلم ، فانتظروا به إلى الغد احتياطا ، فلما أصبح الناس اجتمعوا للصلاة عليه ، فصلي عليه خارج باب النصر حيث يصلى على الجنائز ، وذهبوا به إلى نحو القبلة ، ورام بعض أهله أن يدفن في تربة غبريال إلى جانب جامع القبيبات ، فلم يمكن ذلك ، فدفن قبلي الجامع على حافة الطريق ، ولم يتهيأ دفنه إلى بعد الظهر من يومئذ ، وعملوا عنده ختمة ليلة الجمعة ، رحمه الله وسامحه .

واشتهر في أوائل هذا الشهر أن الحصار عمال على الكرك ، وأن أهل الكرك خرجت طائفة منهم ، فقتل منهم خلق كثير ، وقتل من الجيش واحد في الحصار ، فنزل القاضي وجماعة ومعهم شيء من الجوهر ، وتراضوا على أن يسلموا البلد ، فلما أصبح أهل الحصن تحصنوا ، ونصبوا المجانيق ، واستعدوا ، فلما كان بعد أيام رموا منجنيق الجيش فكسروا السهم الذي له ، وعجزوا عن نقله ، فحرقوه برأي أمراء المقدمين ، وجرت أمور فظيعة ، فالله يحسن العاقبة .

ثم وقعت في أواخر هذا الشهر بين الجيش وأهل الكرك وقعة أخرى ، وذلك أن جماعة من رجال الكرك خرجوا إلى الجيش ورموهم بالنشاب ، فخرج الجيش لهم من الخيام ، ورجعوا مشاة ملبسين بالسلاح ، فقتلوا منأهل الكرك جماعة من النصارى وغيرهم ، وجرح من العسكر خلق ، وقتل واحد أو اثنان ، وأسر الأمير سيف الدين أبو بكر بن بهادرآص ، وقتل أمير العرب ، وأسر آخرون فاعتقلوا [ ص: 456 ] بالكرك ، وجرت أمور منكرة ، ثم بعدها تعرض العسكر راجعين إلى بلادهم لم ينالوا مرادهم منها ، وذلك أنهم دقهم البرد الشديد وقلة الزاد ، وحاصروا أولئك شديدا بلا فائدة ، فإن البلد بريد متطاولة ومجانيق ، ويشق على الجيش الإقامة هناك في زمان كوانين ، والمنجنيق الذي حملوه معهم كسر ، فرجعوا ليتأهبوا لذلك .

ولما كان في يوم الأربعاء الخامس والعشرين منه قدم من الديار المصرية على البريد القاضي بدر الدين بن فضل الله كاتبا على السر عوضا عن أخيه القاضي شهاب الدين ، ومعه كتاب بالاحتياط على حواصل أخيه شهاب الدين ، وعلى حواصل القاضي عماد الدين بن الشيرازي المحتسب ، فاحتيط على أموالهما ، وأخرج من في ديارهما من الحرم ، وضربت الأخشاب على الأبواب ، ورسم على المحتسب بالعذراوية ، فسأل أن يحول إلى دار الحديث الأشرفية فحول إليها ، وأما القاضي شهاب الدين ، فكان قد خرج ليلتقي الأمير سيف الدين طقزدمر الحموي الذي جاء تقليده بنيابة الشام بدمشق وكان بحلب ، وجاء هذا الأمر وهو في أثناء الطريق ، فرسم برجعته ليصادر هو والمحتسب ، ولم يدر الناس ما ذنبهما .

وفي يوم الأحد ثامن شهر رجب آخر النهار رجع قاضي القضاة تقي الدين السبكي إلى دمشق على القضاء ، ومعه تقليد بالخطابة أيضا ، وذهب الناس إليه للسلام عليه ، ودخل نائب السلطنة الأمير سيف الدين طقزدمر الحموي في يوم الأحد بعد العصر الخامس عشر من حلب ، فتلقاه الأمراء إلى طريق القابون ، ودعا له الناس دعاء كثيرا ، وأحبوه لبغضهم النائب الذي كان قبله ، [ ص: 457 ] وهو علاء الدين أيدغمش ، سامحه الله تعالى ، فنزل بدار السعادة ، وحضر الموكب صبيحة يوم الاثنين ، واجتمع طائفة من العامة وسألوه أن لا يغير عليهم خطيبهم تاج الدين عبد الرحيم بن جلال الدين ، فلم يلتفت إليهم ، بل عمل على تقليد القاضي تقي الدين السبكي الخطابة ، ولبس الخلعة ، وأكثر العوام لما سمعوا بذلك الكلام والغوغاء ، وصاروا يجتمعون حلقا حلقا بعد الصلوات ويكثرون الفرح في ذلك لما منع ابن الجلال ، ولكن بقي هذا لم يباشر السبكي في المحراب ، واشتهر عن العوام كلام كثير ، وتوعدوا السبكي بالسفاهة عليه إن خطب ، وضاق بذلك ذرعا ، ونهوا عن ذلك فلم ينتهوا ، وقيل لهم ولكثير منهم : الواجب عليكم السمع والطاعة لأولي الأمر ، ولو أمر عليكم عبد حبشي . فلم يرعووا ، فلما كان يوم الجمعة العشرين منه اشتهر بين العامة بأن القاضي نزل عن الخطابة لابن الجلال ، ففرح العوام بذلك ، وحشدوا في الجامع ، وجاء نائب السلطنة إلى المقصورة والأمراء معه ، وخطب ابن الجلال على العادة ، وفرح الناس بذلك وأكثروا من الكلام والهرج ، ولما سلم عليهم الخطيب حين صعد ، ردوا عليه ردا بليغا ، وتكلفوا في ذلك وأظهروا بغضة القاضي السبكي ، وتجاهروا بذلك ، وأسمعوه كلاما كثيرا ، ولما قضيت الصلاة قرئ تقليد النيابة على السدة ، وخرج الناس فرحى بخطيبهم لكونه استمر عليهم ، واجتمعوا عليه يسلمون ويدعون له .

وفي يوم الأربعاء ثالث شعبان درس القاضي برهان الدين بن عبد الحق بالمدرسة العذراوية بمرسوم سلطاني بتوليته ، وعزل القحفازي ، وعقد لهما مجلس يوم الثلاثاء بدار العدل ، فرجح جانب القاضي برهان الدين لحاجته وكونه لا وظيفة له .

[ ص: 458 ] وفي يوم الجمعة خامسه توفي الشيخ الصالح شهاب الدين أحمد بن الجزري أحد المسندين المكثرين الصالحين ، مات عن خمس وتسعين سنة - رحمه الله - وصلي عليه يوم الجمعة بالجامع المظفري ، ودفن بالروضة .

وفي يوم الأربعاء السابع عشر منه توفي الشيخ الإمام العالم العابد الناسك الصالح الشيخ شمس الدين محمد بن الوزير خطيب الجامع الكريمي بالقبيبات ، وصلي عليه بعد الظهر يومئذ بالجامع المذكور ، ودفن قبلي الجامع المذكور ، إلى جانب الطريق من الشرق ، رحمه الله تعالى .

واشتهر في أوائل شهر رمضان أن مولودا ولد له رأسان وأربع أيد ، وأحضر إلى بين يدي نائب السلطنة ، وذهب الناس للنظر إليه في محلة ظاهر باب الفراديس ، يقال لها : حكر الوزير ، وكنت في من ذهب إليه في جماعة من الفقهاء يوم الخميس ثالث الشهر المذكور بعد العصر ، فأحضره أبوه ، واسم أبيه : سعادة ، وهو رجل من أهل الجبل ، فنظرت إليه فإذا هما ولدان مستقلان ، فكل قد اشتبكت أفخاذهما بعضهما ببعض ، وركب كل واحد منهما ودخل في الآخر ، والتحمت فصارت جثة واحدة ، وهما ميتان ، فقالوا : أحدهما ذكر والآخر أنثى ، وهما ميتان حال رؤيتي إليهما ، وقالوا : إنه تأخر موت أحدهما عن الآخر بيومين أو نحوهما . وكتب بذلك محضر جماعة من الشهود .

[ ص: 459 ] وفي هذا اليوم احتيط على أربعة من الأمراء; وهم أبناء الكامل ، صلاح الدين محمد - أمير طبلخاناه - وغياث الدين محمد أمير عشرة ، وعلاء الدين علي ، وابن أيبك الطويل - طبلخاناه أيضا ، وصلاح الدين خليل بن بلبان طرنا - طبلخاناه أيضا; وذلك بسبب أنهم اتهموا على ممالأة الملك أحمد بن الناصر الذي في الكرك ومكاتبته ، والله أعلم بحالهم ، فقيدوا وحملوا إلى القلعة المنصورة من باب السر مقابل باب دار السعادة - الثلاثة الطبلخاناه - والغياث من بابها الكبير ، وفرق بينهم في الأماكن .

وخرج المحمل يوم الخميس خامس عشره ، ولبس الخطيب ابن الجلال خلعة استقرار الخطابة في هذا اليوم ، وركب بها مع القضاة على عادة الخطباء .

وفي أواخر هذا الشهر نصب المنجنيق الكبير على باب الميدان الأخضر ، وطول أكتافه ثمانية عشر ذراعا ، وطول سهمه سبعة وعشرون ذراعا ، وخرج الناس للفرجة عليه ، ورمي به في يوم السبت الرابع والعشرين منه حجرا زنته ستون رطلا ، فبلغ إلى مقابلة القصر من الميدان الكبير ، وذكر معلم المجانيق أنه ليس في حصون الإسلام مثله ، وأنه عمله الحاج محمد الصالحي ليكون بالكرك ، فقدر الله أنه خرج ليحاصر به الكرك ، فالله يحسن العاقبة .

وفي أواخره أيضا مسك أربعة أمراء وهم; أقبغا عبد الواحد الذي كان مباشرا الأستادارية للملك الناصر الكبير ، فصودر في أيام ابنه المنصور ، وأخرج إلى الشام فناب بحمص ، فسار سيرة غير مرضية ، وذمه الناس ، وعزل عنها ، وأعطي تقدمة [ ص: 460 ] ألف بدمشق ، وجعل رأس الميمنة ، فلما كان في هذه الأيام اتهم بممالأة السلطان أحمد بن الناصر الذي بالكرك ، فمسك ، وحمل إلى القلعة ومعه الأمير سيف الدين بلو ، والأمير سيف الدين حطية الذي كان مباشرا الحجوبية في أيام ألطنبغا ، والأمير سيف الدين سلامش ، وكلهم بطبلخاناه ، فرفعوا إلى القلعة المنصورة ، فالله يحسن العاقبة .

وفي هذا الشهر خرج قضاء حمص عن نيابة دمشق بمرسوم سلطاني مجدد للقاضي شهاب الدين البارزي ، وذلك بعد مناقشة كثيرة وقعت بينه وبين قاضي القضاة تقي الدين السبكي ، وانتصر له بعض الدولة ، واستخرج له المرسوم المذكور . وفيه أيضا أفرد قضاء القدس الشريف أيضا باسم القاضي شمس الدين بن سالم الذي كان مباشرها مدة طويلة قبل ذلك نيابة ، ثم عزل عنها وبقي مقيما ببلده غزة ، ثم أعيد إليها مستقلا بها في هذا الوقت . وفي هذا الشهر رجع القاضي شهاب الدين بن فضل الله من الديار المصرية ومعه توقيع بالمرتب الذي كان له أولا; كل شهر ألف درهم ، وأقام بعمارته التي أنشأها بسفح قاسيون شرقي الصالحية بقرب حمام النحاس .

وفي صبيحة مستهل ذي القعدة خرج المنجنيق قاصدا إلى الكرك على الجمال والعجل ، وصحبته الأمير صارم الدين إبراهيم المسبقي أمير حاجب كان في الدولة السكرية ، وهو المقدم عليه ، يحوطه ويحفظه ، ويتولى تسييره بطلبه [ ص: 461 ] وأصحابه ، وتجهز الجيش للذهاب إلى الكرك ، وتأهبوا أتم الجهاز ، وبرزت أثقالهم إلى ظاهر البلد ، وضربت الخيام ، فالله يحسن العاقبة .

وفي يوم الاثنين رابعه توفي الطواشي شبل الدولة كافور السكري ، ودفن صبيحة يوم الثلاثاء خامسه بتربته التي أنشاها قديما ظاهر باب الجابية ، تجاه تربة الطواشي ظهير الدين الخازن بالقلعة - كان - قبيل مسجد الذبان - رحمه الله - وكان قديما للصاحب تقي الدين توبة التكريتي ، ثم اشتراه تنكز بعد مدة طويلة من ابني أخيه; صلاح الدين ، وشرف الدين - بمبلغ جيد ، وعوضهما إقطاعا زيادة على ما كان بأيديهما; وذلك رغبة في أمواله التي حصلها من أبواب السلطنة ، وقد تغضب عليه أستاذه تنكز - رحمه الله - في وقت ، وصودر ، وجرت عليه فصول ، ثم سلم بعد ذلك ، ولما مات ترك أموالا جزيلة وأوقافا ، رحمه الله .

وخرجت التجريدة يوم الأربعاء سادسه ، والمقدم عليها الأمير بدر الدين بن الخطير ، ومعه مقدم آخر وهو الأمير علاء الدين بن قراسنقر .

وفي يوم السبت سلخ هذا الشهر توفي الشاب الحسن شهاب الدين أحمد بن فرج ، المؤذن بمئذنة العروس ، وكان شهيرا بحسن الصوت ، ذا حظوة عظيمة عند أهل البلد ، وكان رحمه الله كما في النفس وزيادة ، في حسن الصوت الرخيم المطرب ، وليس في القراء ولا في المؤذنين قريب منه ولا من يدانيه في وقته ، وكان في آخر وقته على طريقة حسنة ، وعمل صالح ، وانقطاع [ ص: 462 ] عن الناس ، وإقبال على شأن نفسه ، فرحمه الله ، وأكرم مثواه ، وصلي عليه بعد الظهر يومئذ ، ودفن عند أخيه بمقبرة الصوفية .

وفي يوم الخميس خامس ذي الحجة توفي الشيخ بدر الدين بن بصخان ، شيخ القراء السبع في البلد ، الشهير بذلك ، وصلي عليه بالجامع بعد الظهر يومئذ بمقابر باب الفراديس ، رحمه الله .

وفي يوم الأحد تاسعه - وهو يوم عرفة - حضر الإقراء بتربة أم الصالح عوضا عن الشيخ بدر الدين بن بصخان القاضي شهاب الدين أحمد بن النقيب البعلبكي ، وحضر عنده جماعة من الفضلاء وبعض القضاة ، وكان حضوره بغتة ، وكان متمرضا ، فألقى شيئا من القراءات والإعراب عند قوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم [ آل عمران : 178 ] .

وفي أواخر هذا الشهر غلا السعر جدا ، وقل الخبز ، وازدحم الناس على الأفران زحمة عظيمة ، وبيع خبز الشعير المخلوط بالزوان والنقارة ، وبلغت الغرارة مائة وستة وثمانين درهما ، وتقلص السعر جدا حتى بيع الخبز كل رطل بدرهم ، وفوق ذلك بيسير ودونه ، بحسب طيبه ورداءته ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وكثر السؤال وجاع العيال ، وضعف كثير من الأشياء [ ص: 463 ] والأحوال ، ولكن لطف الله عظيم ، فإن الناس مترقبون مغلا هائلا لم يسمع بمثله من مدة سنين عديدة ، وقد اقترب أوانه ، وشرع كثير من البلاد في حصاد الشعير وبعض القمح ، مع كثرة الفول وبوادر التوت ، فلولا ذلك لكان غير ذلك ، ولكن لطف الله بعباده ، وهو الحاكم المتصرف الفعال لما يريد ، لا إله إلا هو .

التالي السابق


الخدمات العلمية