[ ص: 484 ] ثم دخلت 
سنة سبع وأربعين وسبعمائة 
استهلت هذه السنة وسلطان البلاد بالديار المصرية ، والشامية والحرمين ، وغير ذلك - 
الملك الكامل سيف الدين شعبان ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون  ، وليس له 
بمصر  نائب ، وقضاة 
مصر  هم المذكورون في التي قبلها ، ونائب 
دمشق  الأمير 
سيف الدين يلبغا اليحياوي ،  وقضاة 
دمشق  هم المذكورون في التي قبلها ، إلا أن قاضي القضاة 
عماد الدين إسماعيل الحنفي  نزل عن القضاء لولده قاضي القضاة 
نجم الدين ،  واستقل بالولاية وتدريس النورية ، وبقي والده على تدريس الريحانية . 
وفي يوم الجمعة السادس عشر من المحرم من هذه السنة توفي الشيخ 
تقي الدين ، الشيخ الصالح محمد ابن الشيخ محمد بن قوام  بزاويتهم بالسفح ، وصلي عليه الجمعة بجامع 
الأفرم ،  ثم دفن بالزاوية ، وحضره القضاة ، والأعيان ، وخلق كثير ، وكان بينه وبين أخيه ستة أشهر وعشرون يوما ، وهذا أشد من ذلك .  
[ ص: 485 ] وفتحت في أول السنة القيسارية التي أنشأها الأمير 
سيف الدين يلبغا  نائب السلطنة ظاهر 
باب الفرج ،  وضمنت ضمانا باهرا بنحو من سبعة آلاف كل شهر ، وداخلها 
قيسارية  تجارة في وسطها بركة ومسجد ، وظاهرها دكاكين ، وأعاليها بيوت للسكن . 
وفي صبيحة يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول عقد مجلس بمشهد 
عثمان للنور الخراساني ،  وكان يقرئ القرآن في جامع 
تنكز ،  ويعلم الناس أشياء من فرائض الوضوء والصلاة ، ادعي عليه فيه أنه تكلم في بعض الأئمة الأربعة ، وأنه تكلم في شيء من العقائد ، ويطلق عبارات زائدة على ما ورد به الحديث ، وشهد عليه بعض الشهود بأشياء متعددة ، فاقتضى الحال أن عزر في هذا اليوم ، وطيف به في البلد ، ثم رد إلى السجن معتقلا ، فلما كان يوم الخميس الثاني عشرين منه شفع فيه الأمير 
أحمد بن مهنا  ملك العرب عند نائب السلطنة ، فاستحضره بين يديه ، وأطلقه إلى أهله وعياله . 
ولما كان تاريخ يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الأولى صلى نائب السلطنة الأمير 
سيف الدين يلبغا اليحياوي الناصري  بجامع 
تنكز  ظاهر 
دمشق  برا 
باب النصر ،  وصلى عنده القاضي الشافعي والمالكي وكبار الأمراء ، ولما أقيمت الصلاة صلى وقعد بعض مماليكه عن الصلاة ومعه السلاح; حراسة له ، ثم لما انصرف من الصلاة اجتمع بالأمراء المذكورين ، وتشاوروا طويلا ، ثم نهض النائب إلى دار السعادة ، فلما كان آخر النهار برز بخدمه ، ومماليكه ، وحشمه ، ووطاقه ، وسلاحه ، وحواصله ، ونزل قبلي مسجد القدم ، وخرج الجند والأمراء في آخر النهار ، وانزعج   
[ ص: 486 ] الناس ، واتفق طلوع القمر خاسفا ، ثم خرج الجيش ملبسا تحت الثياب ، وعليهم التراكيش بالنشاب والخيول الجنابات ، ولا يدري الناس ما الخبر ، وكان سبب ذلك أن نائب السلطنة بلغه أن نائب 
صفد  قد ركب إليه ليقبض عليه ، فانزعج لذلك ، وقال : لا أموت إلا على ظهر أفراسي ، لا على فراشي . وخرج الجند والأمراء خوفا من أن يفوتهم بالفرار ، فنزلوا يمنة ويسرة ، فلم يذهب من تلك المنزلة بل استمر بها يعمل النيابة ، ويجتمع بالأمراء جماعة وفرادى ، ويستميلهم إلى ما هو فيه من الرأي ، وهو خلع 
الملك الكامل شعبان    ; لأنه يكثر من مسك الأمراء بغير سبب ، ويفعل أفعالا لا تليق بمثله ، وذكروا أمورا كثيرة ، وأن يولوا أخاه أمير 
حاجي بن الناصر;  لحسن شكالته ، وجميل فعله ، ولم يزل يفتل لهم في الذروة والغارب حتى أجابوه إلى ذلك ، ووافقوه عليه ، وسلموا له ما يدعيه ، وبايعوه على ما أشار إليه وتابعوه ، ثم شرع في البعث إلى نواب البلاد يستميلهم إلى ما تمالأ عليه الدمشقيون وكثير من المصريين ، وشرع أيضا في التصرف في الأمور العامة الكلية ، وأخرج بعض من كان الملك الكامل اعتقله بالقلعة المنصورة ، ورد إليه إقطاعه بعد ما بعث 
الملك الكامل  إلى من أقطعه منشوره ، وعزل وولى ، وأخذ وأعطى ، وطلب التجار يوم الأربعاء ثامن عشره ليباع عليهم غلال الحواصل السلطانية ، فيدفعوا أثمانها في الحال ، ثم يذهبوا   
[ ص: 487 ] فيتسلموها من البلاد البرانية ، وحضر عنده القضاة على العادة والأمراء والسادة ، وهذا كله وهو مخيم بالمكان المذكور ، لا يحصره بلد ولا يحويه سور . 
وفي يوم الخميس رابع جمادى الآخرة خرجت تجريدة نحو عشرة طليعة لتلقي من يقدم من الديار المصرية ، إما مقاتلا أو مخامرا عليهم ، وهي ألفان بمقدمين ، هذا كله والأخبار تقدم من الديار المصرية باختلاف الأمراء على السلطان ، وأن الأمراء مبايعون للشاميين ، وتقدم التجاريد من الديار المصرية من الأمراء وغيرهم ببقاء الأمر على ما كان عليه ، فلم يصدقهم النائب ، وربما عاقب بعضهم ، ثم رفعهم إلى القلعة ، وأهل 
دمشق  ما بين مصدق باختلاف المصريين ، وما بين قائل : السلطان الكامل قائم الصورة ، مستمر على ما كان عليه ، والتجاريد المصرية واصلة قريبا ، ولا بد من وقوع خبطة عظيمة . وتشوشت أذهان الناس وأحوالهم بسبب ذلك ، والله المسئول أن يحسن العاقبة . 
وحاصل القضية أن العامة ما بين تصديق وتكذيب ، ونائب السلطنة وخواصه من كبار الأمراء على ثقة من أنفسهم ، وأن الأمراء على خلف شديد في الديار المصرية بين 
السلطان الكامل شعبان  وبين أخيه 
أمير حاجي ،  والجمهور مع أخيه 
أمير حاجي ،  ثم جاءت الأخبار إلى النائب بأن التجاريد المصرية خرجت تقصد 
الشام  ومن فيه من الجند لتوطد الأمر ، ثم إنه تراجعت رءوس الأمراء في الليل إلى 
مصر ،  واجتمعوا إلى إخوانهم ممن هو ممالئ لهم على السلطان ، فاجتمعوا ودعوا إلى سلطنة 
أمير حاجي ،  وضربت الطبلخاناه ، وصارت باقي النفوس متجاهرة على نية تأييده ، ونابذوا السلطان الكامل ، وعدوا   
[ ص: 488 ] عليه مساوئه ، وقتل بعض الأمراء ، وفر 
الكامل  وأنصاره فاحتيط عليه ، وخرج 
أرغون العلائي  زوج ابنته واستظهر أيضا 
أمير حاجي ،  فأجلسوه على السرير ، ولقبوه 
بالملك المظفر ،  وجاءت الأخبار إلى النائب بذلك ، فضربت البشائر عنده ، وبعث إلى نائب القلعة فامتنع من ضربها ، وكان قد طلب إلى الوطاق فامتنع من الحضور ، وأغلق باب القلعة ، فانزعج الناس ، واختبط البلد ، وتقلص وجود الخير ، وحصنت القلعة ، ودعوا للكامل بكرة وعشية على العادة ، وأرجف العامة بالجيش على عادتهم في كثرة فضولهم ، فحصل لبعضهم أذية ، فلما كان يوم الاثنين ثامن الشهر قدم نائب 
حماة  إلى 
دمشق  مطيعا لنائب السلطنة في تجمل وأبهة ، كما جرت به عادة أمثاله . 
وفي هذا اليوم وقعت بطاقة بقدوم الأمير 
سيف الدين بيغرا  حاجب الحجاب بالديار المصرية; لأجل البيعة للسلطان 
الملك المظفر ،  فدقت البشائر بالوطاق ، وأمر بتزيين البلد ، فزين الناس وليسوا منشرحين ، وأكثرهم يظن أن هذا مكر وخديعة ، وأن التجاريد المصرية واصلة قريبا ، وامتنع نائب القلعة من دق البشائر ، وبالغ في تحصين القلعة ، وغلق بابها ، فلا يفتح إلا الخوخة البرانية والجوانية ، وهذا الصنيع هو الذي يشوش خواطر العامة ، يقولون : لو كان ثم شيء له صحة كان نائب القلعة يطلع على هذا قبل الوطاق ، فلما كان يوم الثلاثاء بعد الزوال قدم الأمير 
سيف الدين بيغرا  إلى الوطاق ، وقد تلقوه وعظموه ، ومعه تقليد النيابة   
[ ص: 489 ] من المظفر إلى الأمير 
سيف الدين يلبغا  نائب السلطنة ، وكتاب إلى الأمراء بالسلام ، ففرحوا بذلك وبايعوه ، وانتظمت الكلمة ، ولله الحمد . وركب 
بيغرا  إلى القلعة ، فترجل وسل سيفه ، ودخل إلى نائب القلعة ، فبايعه سريعا ، ودقت البشائر في القلعة بعد المغرب حين بلغه الخبر ، وطابت أنفس الناس ، ثم أصبحت القلعة في الزينة وزادت الزينة في البلد ، وفرح الناس . فلما كان يوم الخميس حادي عشر الشهر دخل نائب السلطنة من الوطاق إلى البلد ، والأطلاب بين يديه في تجمل وطبلخاناه على عادة العرض ، وقد خرج أهل البلد للفرجة ، وخرج 
أهل الذمة  بالتوراة ، وأشعلت الشموع ، وكان يوما مشهودا . 
وقد صلى في شهر رمضان من هذه السنة بالشامية البرانية صبي عمره ست سنين ، وقد رأيته وامتحنته فإذا هو يجيد الحفظ والأداء ، وهذا من أغرب ما يكون . 
وفي العشر الأول من هذا الشهر فرغ من بناء الحمامين الذين بناهما نائب السلطنة بالقرب من الثابتية في خان السلطان العتيق ، وما حولها من الرباع والقرب ، وغير ذلك . 
وفي يوم الأحد حادي عشره اجتمع نائب السلطنة ، والقضاة الأربعة ، ووكيل بيت المال ، والدولة عند 
تل المشنقين ،  من أجل أن نائب السلطنة قد عزم على   
[ ص: 490 ] بناء هذه البقعة جامعا بقدر جامع 
تنكز ،  فاشتوروا هنالك ، ثم انفصل الحال على أن يعمل ، والله ولي التوفيق . 
وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة صلي على الشيخ 
زين الدين عبد الرحمن ابن تيمية ،  أخي الشيخ 
تقي الدين    - رحمهما الله تعالى . 
وفي يوم السبت ثاني عشره توفي الشيخ 
علي القطناني  بقطنا ،  وكان قد اشتهر أمره في هذه السنين ، واتبعه جماعة من الفلاحين والشباب المنتمين إلى طريقة 
أحمد بن الرفاعي ،  وعظم أمره وسار ذكره ، وقصده الأكابر إلى بلده للزيارة مرات ، وكان يقيم السماعات على عادة أمثاله ، وله أصحاب يظهرون إشارات باطلة ، وأحوالا مفتعلة ، وهذا مما كان ينقم عليه بسببه ، فإنه إن لم يكن يعلم بحالهم فجاهل ، وإن كان يقرهم على ذلك فهو مثلهم ، والله سبحانه وتعالى أعلم . 
وفي أواخر هذا الشهر - أعني : ذا الحجة من العيد وما بعده - اهتم ملك   
[ ص: 491 ] الأمراء في بناء الجامع الذي بناه تحت القلعة مكان 
تل المشنقين ،  وهدم ما كان هناك من أبنية ، وعملت العجل ، وأخذت أحجار كثيرة من أرجاء البلد ، وأكثر ما أخذت الأحجار من 
الرحبة  التي للحضريين ، من تحت المئذنة التي في رأس 
عقبة الكتان ،  تيسر منها أحجار كثيرة ، والأحجار أيضا من 
جبل قاسيون ،  وحمل على الجمال وغيرها ، وكان سلخ هذه السنة - أعني : سنة سبع وأربعين وسبعمائة - قد بلغت غرارة القمح إلى مائتين فما دونها ، وربما بيعت بأكثر من ذلك ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .