صفحة جزء
[ ص: 282 ] قصة هود عليه السلام

وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام ، ويقال : إن هودا هو عابر بن شالخ بن سام بن نوح ، ويقال : هود بن عبد الله بن رباح بن الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام ذكره ابن جرير ، وكانوا عربا يسكنون الأحقاف ، وهي جبال الرمل ، وكانت باليمن من عمان وحضرموت بأرض مطلة على البحر يقال لها : الشحر ، واسم واديهم مغيث ، وكانوا كثيرا ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام ، كما قال تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد [ الفجر : 6 ، 7 ] . أي ; عاد إرم . وهم عاد الأولى ، وأما عاد الثانية فمتأخرة ، كما سيأتي بيان ذلك في موضعه . وأما عاد الأولى فهم عاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد [ الفجر : 7 8 ] . أي ; مثل القبيلة . وقيل : مثل العمد . والصحيح الأول ، كما بيناه في التفسير .

ومن زعم أن إرم مدينة تدور في الأرض ، فتارة في الشام ، وتارة في اليمن ، وتارة في الحجاز ، وتارة في غيرها ، فقد أبعد النجعة . وقال ما لا دليل عليه ، ولا برهان يعول عليه ، ولا مستند يركن [ ص: 283 ] إليه ، وفي صحيح ابن حبان ، عن أبي ذر في حديثه الطويل في ذكر الأنبياء والمرسلين قال فيه : . منهم أربعة من العرب ; هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك يا أبا ذر . ويقال : إن هودا عليه السلام أول من تكلم بالعربية . وزعم وهب بن منبه أن أباه أول من تكلم بها . وقال غيره أول من تكلم بها نوح . وقيل آدم وهو الأشبه . وقيل : غير ذلك ، والله أعلم .

ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام : العرب العاربة . وهم قبائل كثيرة منهم ; عاد ، وثمود ، وجرهم ، وطسم ، وجديس ، وأميم ، ومدين ، وعملاق ، وعبيل ، وجاسم ، وقحطان ، وبنو يقطن ، وغيرهم . وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة ، وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى ، ولكن أنطقه الله بها في غاية الفصاحة والبيان ، وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والمقصود أن عادا وهم عاد الأولى كانوا أول من عبد الأصنام بعد الطوفان ، وكان أصنامهم ثلاثة ، صد ، وصمود ، وهرا . فبعث الله فيهم أخاهم هودا عليه السلام فدعاهم إلى الله ، كما قال تعالى بعد ذكر قوم نوح ، وما كان من أمرهم في سورة الأعراف : وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين [ الأعراف : 65 - 72 ] . [ ص: 284 ] وقال تعالى بعد ذكر قصة نوح في سورة هود : وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود [ هود : 50 - 60 ] . [ ص: 285 ] وقال تعالى في سورة : قد أفلح المؤمنون بعد قصة قوم نوح : ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين [ المؤمنون : 31 - 41 ] . وقال تعالى في سورة الشعراء بعد قصة قوم نوح أيضا : كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ ص: 286 ] . وقال تعالى في سورة حم السجدة : وأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون [ فصلت : 15 - 16 ] . وقال تعالى في سورة الأحقاف : واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين [ الأحقاف : 21 - 25 ] . وقال تعالى في الذاريات : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ الذاريات : 41 - 42 ] . وقال تعالى في النجم : وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى فبأي آلاء ربك تتمارى [ النجم : 50 - 55 ] . [ ص: 287 ] وقال تعالى في سورة اقتربت : كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ القمر : 18 - 22 ] . وقال في الحاقة : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية [ الحاقة : 6 - 8 ] . وقال في سورة الفجر : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد [ الفجر : 6 - 14 ] .

وقد تكلمنا على كل من هذه القصص في أماكنها من كتابنا التفسير ، ولله الحمد ، والمنة . وقد جرى ذكر عاد في سورة براءة ، وإبراهيم ، والفرقان ، والعنكبوت ، وفي سورة ص ، وفي سورة ق ، ولنذكر مضمون القصة مجموعا من هذه السياقات مع ما يضاف إلى ذلك من الأخبار . وقد قدمنا أنهم أول الأمم عبدوا الأصنام بعد الطوفان . وذلك بين في قوله لهم : واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة [ الأعراف : 69 ] . أي ; جعلهم أشد أهل زمانهم في الخلقة والشدة والبطش . وقال في المؤمنون : ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين [ المؤمنون : 31 ] . [ ص: 288 ] وهم قوم هود على الصحيح . وزعم آخرون : أنهم ثمود . لقوله : فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء [ المؤمنون : 41 ] . قالوا : وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصيحة وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية [ الحاقة : 6 ] . وهذا الذي قالوه لا يمنع من اجتماع الصيحة والريح العاتية عليهم ، كما سيأتي في قصة أهل مدين أصحاب الأيكة ، فإنه اجتمع عليهم أنواع من العقوبات ، ثم لا خلاف أن عادا قبل ثمود .

والمقصود أن عادا كانوا عربا جفاة كافرين ، عتاة متمردين في عبادة الأصنام ، فأرسل الله فيهم رجلا منهم يدعوهم إلى الله ، وإلى إفراده بالعبادة ، والإخلاص له ، فكذبوه وخالفوه وتنقصوه فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، فلما أمرهم بعبادة الله ، ورغبهم في طاعته واستغفاره ، ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة ، وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة : قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة [ الأعراف 66 ] . أي ; هذا الأمر الذي تدعونا إليه سفه بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الأصنام التي يرتجى منها النصر والرزق ، ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك أن الله أرسلك . قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين [ الأعراف : 67 ] . أي ; ليس الأمر كما تظنون ، ولا ما تعتقدون أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين [ الأعراف : 68 ] . والبلاغ يستلزم عدم الكذب في أصل المبلغ ، وعدم الزيادة فيه والنقص منه ، ويستلزم إبلاغه بعبارة فصيحة وجيزة جامعة مانعة ، لا لبس فيها ولا اختلاف ولا اضطراب ، وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه ، والشفقة عليهم والحرص على هدايتهم ، لا يبتغي منهم أجرا ، ولا يطلب منهم جعلا ، بل [ ص: 289 ] هو مخلص لله عز وجل في الدعوة إليه ، والنصح لخلقه لا يطلب أجره إلا من الذي أرسله فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه ، وأمره إليه ، ولهذا قال : يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون [ هود : 51 ] . أي ; ما لكم عقل تميزون به وتفهمون أني أدعوكم إلى الحق المبين الذي تشهد به فطركم التي خلقتم عليها ، وهو دين الحق الذي بعث الله به نوحا ، وأهلك من خالفه من الخلق ، وها أنا أدعوكم إليه ، ولا أسألكم أجرا عليه ، بل أبتغي ذلك عند الله مالك الضر والنفع ، ولهذا قال مؤمن يس : اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون [ يس : 21 - 22 ] . وقال قوم هود له فيما قالوا : يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . [ هود : 53 ] . يقولون : ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق ما جئت به . وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك بلا دليل أقمته ، ولا برهان نصبته ، وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه ، وعندنا ; إنما أصابك هذا أن بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك فاعتراك جنون بسبب ذلك ، وهو قولهم : إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون [ هود : 54 - 55 ] . وهذا تحد منه لهم ، وتبرؤ من آلهتهم ، وتنقص منه لها ، وبيان أنها لا تنفع شيئا ولا تضر ، وأنها جماد حكمها حكمه ، وفعلها فعله ، فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر وتنفع وتضر ، فها أنا بريء منها لاعن لها فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . أنتم وهي جميعا بجميع ما يمكنكم أن تصلوا [ ص: 290 ] إليه ، وتقدروا عليه ، ولا تؤخروني ساعة واحدة ، ولا طرفة عين فإني لا أبالي بكم ، ولا أفكر فيكم ، ولا أنظر إليكم إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم . أي ; أنا متوكل على الله ومتأيد به . وواثق بجنابه الذي لا يضيع من لاذ به . واستند إليه ، فلست أبالي مخلوقا سواه ، ولست أتوكل إلا عليه ، ولا أعبد إلا إياه ، وهذا وحده برهان قاطع على أن هودا عبد الله ورسوله ، وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله ; لأنهم لم يصلوا إليه بسوء ، ولا نالوا منه مكروها ، فدل على صدقه فيما جاءهم به وبطلان ما هم عليه ، وفساد ما ذهبوا إليه ، وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه السلام قبله في قوله : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون [ يونس : 71 ] . وهكذا قال الخليل عليه السلام : ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم [ الأنعام : 80 - 83 ] . وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون [ المؤمنون : 33 - 35 ] . [ ص: 291 ] استبعدوا أن يبعث الله رسولا بشريا ، وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة قديما وحديثا ، كما قال تعالى : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ يونس : 2 ] . وقال تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ الإسراء : 94 - 95 ] . ولهذا قال لهم هود عليه السلام : أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم . أي ; ليس هذا بعجيب فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته . وقوله : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين [ المؤمنون : 35 - 39 ] . استبعدوا المعاد وأنكروا قيام الأجساد بعد صيرورتها ترابا وعظاما ، وقالوا : هيهات هيهات . أي ; بعيد بعيد هذا الوعد إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين . أي ; يموت قوم ويحيا آخرون . وهذا هو اعتقاد الدهرية ، كما يقول بعض الجهلة من الزنادقة : أرحام تدفع ، وأرض تبلع .

وأما الدورية فهم الذين يعتقدون أنهم يعودون إلى هذه الدار بعد كل ستة وثلاثين ألف سنة . وهذا كله كذب ، وكفر وجهل وضلال ، وأقوال باطلة ، وخيال فاسد بلا برهان ، ولا دليل يستميل عقل الفجرة الكفرة من بني آدم الذين لا يعقلون ولا يهتدون ، كما قال تعالى : ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون [ الأنعام : 113 ] . وقال لهم فيما وعظهم به : أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . يقول لهم : أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عظيما هائلا كالقصور ، ونحوها [ ص: 292 ] تعبثون ببنائها ; لأنه لا حاجة لكم فيه ، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يسكنون الخيام ، كما قال تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد . فعاد إرم هم عاد الأولى الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام .

ومن زعم أن إرم مدينة من ذهب وفضة ، وهي تتنقل في البلاد فقد غلط وأخطأ . وقال ما لا دليل عليه . وقوله : وتتخذون مصانع . قيل : هي القصور . وقيل : بروج الحمام . وقيل : مآخذ الماء . لعلكم تخلدون . أي ; رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار أعمارا طويلة وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . وقالوا له فيما قالوا : أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . أي ; أجئتنا لنعبد الله وحده ، ونخالف آباءنا وأسلافنا ، وما كانوا عليه فإن كنت صادقا فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال ، فإنا لا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نصدقك ، كما قالوا : سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين . أما على قراءة فتح الخاء فالمراد به اختلاق الأولين أي ; أن هذا الذي جئت به إلا اختلاق منك ، وأخذته من كتب الأولين هكذا فسره غير واحد من الصحابة ، والتابعين ، وأما على قراءة ضم الخاء واللام فالمراد به الدين أي ; إن هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الآباء والأجداد من أسلافنا ، ولن نتحول عنه ولا نتغير ولا نزال متمسكين به . ويناسب كلا القراءتين الأولى والثانية قولهم : وما نحن بمعذبين . قال : قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين . [ ص: 293 ] أي ; قد استحقيتم بهذه المقالة الرجس ، والغضب من الله أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له بعبادة أصنام أنتم نحتموها ، وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان . أي ; لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليلا ولا برهانا ، وإذا أبيتم قبول الحق وتماديتم في الباطل ، وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه أم لا ، فانتظروا الآن عذاب الله الواقع بكم ، وبأسه الذي لا يرد ، ونكاله الذي لا يصد . وقال تعالى : قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين . وقال تعالى : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين . وقد ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم في غير ما آية ، كما تقدم مجملا ومفصلا كقوله : فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين . وكقوله : ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود . وكقوله : [ ص: 294 ] فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين . وقال تعالى : فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .

وأما تفصيل إهلاكهم ; فلما قال تعالى : فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم . كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب أنهم كانوا ممحلين مسنتين فطلبوا السقيا ، فرأوا عارضا في السماء وظنوه سقيا رحمة فإذا هو سقيا عذاب ، ولهذا قال تعالى : بل هو ما استعجلتم به . أي ; من وقوع العذاب . وهو قولهم : فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . ومثلها في الأعراف .

وقد ذكر المفسرون وغيرهم هاهنا الخبر . الذي ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار قال : فلما أبوا إلا الكفر بالله عز وجل أمسك عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك . قال : وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان فطلبوا من الله الفرج منه إنما يطلبونه بحرمه ومكان بيته . وكان معروفا عند أهل ذلك الزمان ، وبه العماليق مقيمون وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له معاوية بن بكر ، وكانت أمه من قوم عاد ، واسمها : جلهدة ابنة الخيبري . قال : فبعث عاد وفدا قريبا من سبعين رجلا ليستقوا لهم عند الحرم ، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر تغنيهم الجرداتان قينتان لمعاوية وكانوا قد وصلوا إليه في شهر ، فلما طال مقامهم عنده ، وأخذته شفقة [ ص: 295 ] على قومه ، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف ، عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف ، وأمر القينتين أن تغنيهم به ، فقال :


ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما     فيسقي أرض عاد إن عادا
قد أمسوا لا يبينون الكلاما     من العطش الشديد فليس نرجو
به الشيخ الكبير ولا الغلاما     وقد كانت نساؤهم بخير
فقد أمست نساؤهم عياما     وإن الوحش يأتيهم جهارا
ولا يخشى لعادي سهاما     وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم
نهاركم وليلكم التماما     فقبح وفدكم من وفد قوم
ولا لقوا التحية والسلاما

قال : فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له ، فنهضوا إلى الحرم ودعوا لقومهم فدعا داعيهم ، وهو قيل بن عتر فأنشأ الله سحابات ثلاثا ; بيضاء ، وحمراء ، وسوداء . ثم ناداه مناد من السماء : اختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب . فقال : اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء . فناداه مناد : اخترت رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا لا والدا تترك ولا ولدا ، إلا جعلته همدا ، إلا بني اللوذية المهدا . قال : وهو بطن من عاد كانوا مقيمين بمكة فلم يصبهم ما أصاب قومهم . قال : ومن بقي من أنسابهم [ ص: 296 ] وأعقابهم هم عاد الآخرة . قال : وساق الله السحابة السوداء التي اختارها . قيل بن عتر بما فيها من النقمة إلى عاد حتى تخرج عليهم من واد يقال له : المغيث ، فلما رأوها استبشروا ، وقالوا : هذا عارض ممطرنا . فيقول تعالى : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها . أي ; كل شيء أمرت به فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها : مهد ، فلما تبينت ما فيها صاحت ، ثم صعقت ، فلما أفاقت قالوا : ما رأيت يا مهد ؟ قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النار ، أمامها رجال يقودونها . فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما . والحسوم : الدائمة . فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك . قال : واعتزل هود عليه السلام فيما ذكر لي في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين ، ما يصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود ، وتلتذ الأنفس ، وإنها لتمر على عاد بالظعن فيما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة ، وذكر تمام القصة .

وقد روى الإمام أحمد حديثا في مسنده يشبه هذه القصة ، فقال : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي ، حدثنا عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن الحارث وهو ابن حسان ، ويقال : ابن يزيد البكري . قال : خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها ، فقالت لي : يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ، فهل أنت مبلغي إليه ؟ [ ص: 297 ] قال : فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله ، وإذا راية سوداء تخفق ، وبلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما شأن الناس قالوا : يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها ، قال : فجلست ، قال : فدخل منزله أو قال : رحله ، فاستأذنت عليه ، فأذن لي ، فدخلت فسلمت ، فقال : هل كان بينكم وبين بني تميم شيء . فقلت : نعم . قال : وكانت لنا الدبرة عليهم ، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها ، فسألتني أن أحملها إليك ، وها هي بالباب ، فأذن لها فدخلت ، فقلت : يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم حاجزا فاجعل الدهناء ، فحميت العجوز واستوفزت ، وقالت : يا رسول الله فإلى أين تضطر مضرك ؟ قال : قلت : إن مثلي ما قال الأول : معزى حملت حتفها . حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما ، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد ، قال : هيه وما وافد عاد ؟ وهو أعلم بالحديث منه ، ولكن يستطعمه ، قلت : إن عادا قحطوا ، فبعثوا وفدا لهم يقال له : قيل فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر ، وتغنيه جاريتان يقال لهما : الجرادتان ، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة ، فقال : اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ، ولا إلى أسير فأفاديه ، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه ، فمرت به سحابات سود ، فنودي منها : اختر . فأومأ إلى سحابة منها سوداء . فنودي منها : خذها رمادا رمددا لا تبقي من عاد [ ص: 298 ] أحدا . قال : فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا كقدر ما يجري في خاتمي هذا من الريح حتى هلكوا . قال أبو وائل : وصدق وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وفدا لهم ، قالوا : لا تكن كوافد عاد . وهكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد ، عن زيد بن الحباب به . ورواه النسائي من حديث سلام أبي المنذر ، عن عاصم ابن بهدلة ، ومن طريقه رواه ابن ماجه . وهكذا أورد هذا الحديث ، وهذه القصة عند تفسير هذه القصة غير واحد من المفسرين كابن جرير ، وغيره .

وقد يكون هذا السياق لإهلاك عاد الآخرة فإن فيما ذكره ابن إسحاق ، وغيره ذكرا لمكة ، ولم تبن إلا بعد إبراهيم الخليل حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل ، فنزلت جرهم عندهم ، كما سيأتي وعاد الأولى قبل الخليل ، وفيه ذكر معاوية بن بكر وشعره ، وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد الأولى لا يشبه كلام المتقدمين . وفيه أن في تلك السحابة شرر نار ، وعاد الأولى إنما أهلكوا بريح صرصر . وقد قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وغير واحد من أئمة التابعين : هي الباردة ، والعاتية الشديدة الهبوب سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما [ الحاقة : 7 ] . أي ; كوامل متتابعات . قيل : كان أولها الجمعة . وقيل : الأربعاء . فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية [ الحاقة : 7 ] . شبههم بأعجاز النخل التي لا رءوس لها ، وذلك لأن الريح كانت تجيء إلى أحدهم فتحمله فترفعه في الهواء ، ثم [ ص: 299 ] تنكسه على أم رأسه فتشدخه ، فيبقى جثة بلا رأس ، كما قال : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر [ القمر : 19 ] . أي ; في يوم نحس عليهم ، مستمر عذابه عليهم ، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر [ القمر : 20 ] . ومن قال : إن اليوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء . وتشاءم به لهذا الفهم فقد أخطأ وخالف القرآن ، فإنه قال في الآية الأخرى : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات [ فصلت : 16 ] . ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات ، فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت جميع الأيام السبعة المندرجة فيها مشئومة . وهذا لا يقوله أحد ، وإنما المراد في أيام نحسات أي ; عليهم . وقال تعالى وفي عاد : إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم [ الذاريات : 41 ] . أي التي لا تنتج خيرا فإن الريح المفردة لا تنثر سحابا ولا تلقح شجرا ، بل هي عقيم لا نتيجة خير لها ، ولهذا قال : ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ الذاريات : 42 ] . أي ; كالشيء البالي الفاني الذي لا ينتفع به بالكلية . وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور . وأما قوله تعالى : واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [ الأحقاف : 21 ] . فالظاهر أن عادا هذه هي عاد [ ص: 300 ] الأولى فإن سياقها شبيه بسياق قوم هود ، وهم الأولى . ويحتمل أن يكون المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية . ويدل عليه ما ذكرنا ، وما سيأتي من الحديث عن عائشة رضي الله عنها . وأما قوله : فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا [ الأحقاف : 24 ] . فإن عادا لما رأوا هذا العارض ، وهو الناشئ في الجو كالسحاب ، ظنوه سحاب مطر فإذا هو سحاب عذاب ، اعتقدوه رحمة فإذا هو نقمة ، رجوا فيه الخير فنالوا منه غاية الشر . قال الله تعالى : بل هو ما استعجلتم به [ الأحقاف : 24 ] . أي ; من العذاب ، ثم فسره بقوله : ريح فيها عذاب أليم . [ الأحقاف : 24 ] . يحتمل أن ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية الباردة الشديدة الهبوب التي استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية ، فلم تبق منهم أحدا ، بل تتبعتهم حتى كانت تدخل عليهم كهوف الجبال والغيران فتلفهم وتخرجهم وتهلكهم ، وتدمر عليهم البيوت المحكمة ، والقصور المشيدة فكما منوا بقوتهم وشدتهم ، وقالوا : من أشد منا قوة ؟ سلط الله الذي هو أشد منهم قوة عليهم ما هو أشد منهم قوة ، وأقدر عليهم ، وهو الريح العقيم . ويحتمل أن هذه الريح أثارت في آخر الأمر سحابة ظن من بقي منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم ، وغياث لمن بقي منهم فأرسلها الله عليهم شررا ونارا ، كما ذكره غير واحد . ويكون هذا كما أصاب أصحاب الظلة من أهل مدين ، وجمع لهم بين الريح الباردة ، وعذاب النار ، وهو أشد ما يكون من العذاب بالأشياء المختلفة المتضادة مع الصيحة التي ذكرها في سورة قد أفلح المؤمنون . والله أعلم .

[ ص: 301 ] وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن يحيى بن الضريس ، حدثنا ابن فضيل ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والأرض ، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها قالوا هذا عارض ممطرنا . [ الأحقاف : 24 ] . فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة . وقد رواه الطبراني ، عن عبدان بن أحمد ، عن إسماعيل بن زكريا الكوفي ، عن أبي مالك ، عن مسلم الملائي ، عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس - كذا قال - : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فتح على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم ، ثم أرسلت عليهم فحملتهم البدو إلى الحضر ، فلما رآها أهل الحضر قالوا : هذا عارض ممطرنا مستقبل أوديتنا . وكان أهل البوادي فيها فألقي أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا . قال : عتت على خزائنها حتى خرجت من خلال الأبواب . قلت : وقال غيره خرجت بغير حساب .

والمقصود أن هذا الحديث في رفعه نظر ، ثم اختلف فيه على مسلم الملائي ، وفيه نوع اضطراب ، والله أعلم .

وظاهر الآية أنهم رأوا عارضا ، والمفهوم منه لغة السحاب . كما دل [ ص: 302 ] عليه حديث الحارث بن حسان البكري إن جعلناه مفسرا لهذه القصة ، وأصرح منه في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال : حدثنا أبو الطاهر ، حدثنا ابن وهب سمعت ابن جريج يحدثنا عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح ، قال : اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به . وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ، وشر ما أرسلت به . قالت : وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت سري عنه ، فعرفت ذلك عائشة فسألته ، فقال : لعله يا عائشة كما قال قوم عاد : فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا . رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث ابن جريج . طريق أخرى . قال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، أنبأنا عبد الله بن وهب ، أنبأنا عمرو ، وهو ابن الحارث أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار عن عائشة أنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا قط حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم ، وقالت : كان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه ، قالت : يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا ؛ رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ؟ فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذب [ ص: 303 ] قوم نوح بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا : هذا عارض ممطرنا . وهكذا رواه مسلم ، عن هارون بن معروف ، وأخرجه البخاري ، وأبو داود من حديث ابن وهب . فهذا الحديث كالصريح في تغاير القصتين ، كما أشرنا إليه أولا . فعلى هذا تكون القصة المذكورة في سورة الأحقاف خبرا عن قوم عاد الثانية ، وتكون بقية السياقات في القرآن خبرا عن عاد الأولى ، والله أعلم بالصواب .

وقدمنا حج هود عليه السلام عند ذكر حج نوح عليه السلام . وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه ذكر صفة قبر هود عليه السلام في بلاد اليمن . وذكر آخرون أنه بدمشق ، وبجامعها مكان في حائطه القبلي يزعم بعض الناس أنه قبر هود عليه السلام ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية