صفحة جزء
ذكر المقام المحمود الذي خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

ومن ذلك الشفاعة العظمى في أهل الموقف ، ليجيء الرب عز وجل ، فيفصل بينهم ، ويريح المؤمنين من ذلك الحال إلى حسن المآل .

قال الله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] .

قال البخاري : حدثنا علي بن عياش ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة " . انفرد به دون مسلم .

[ ص: 410 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا داود ، وهو ابن يزيد بن عبد الرحمن الزعافري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] . قال : " الشفاعة " . إسناده حسن .

وثبت في " الصحيحين " ، وغيرهما من حديث جابر ، وغيره ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ; نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة " .

فقوله : " وأعطيت الشفاعة " . يعني بذلك الشفاعة التي تطلب من آدم ، فيقول : لست بصاحب ذاكم ، اذهبوا إلى نوح ، فيقول لهم كذلك ويرشدهم إلى إبراهيم ، فيرشدهم إلى موسى ، فيرشدهم موسى إلى عيسى ، فيرشدهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقول : " أنا لها ، أنا لها " . وسيأتي ذلك مبسوطا في أحاديث الشفاعة ، في إخراج العصاة من النار ، وقد ذكرنا ذلك بطوله مبسوطا عن جماعة من الصحابة عند تفسير هذه الآية .

وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا سيد [ ص: 411 ] ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مشفع " . ولمسلم أيضا ، عن أبي بن كعب; في حديث قراءة القرآن على سبعة أحرف ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : اللهم اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم غير فخر " .

ورواه الترمذي ، وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثني محمد بن حرب ، حدثنا الزبيدي ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ؟ " يبعث الناس يوم القيامة ، فأكون أنا وأمتي على تل ، ويكسوني ربي عز وجل حلة خضراء ، ثم يؤذن لي; فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا يزيد بن أبي [ ص: 412 ] حبيب ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة ، وأنا أول من يؤذن له برفع رأسه ، فأنظر إلى بين يدي ، فأعرف أمتي من بين الأمم ، ومن خلفي مثل ذلك ، وعن يميني مثل ذلك ، وعن شمالي مثل ذلك " . فقال رجل : يا رسول الله ، كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال : " هم غر محجلون من أثر الوضوء ، ليس أحد كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حرب بن ميمون; أبو الخطاب الأنصاري ، عن النضر بن أنس ، عن أنس ، قال : حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إني لقائم ، أنتظر أمتي حتى تعبر الصراط إذ جاءني عيسى ابن مريم عليه السلام ، فقال : هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألونك أو قال : يجتمعون إليك - يدعون الله عز وجل ، أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله ; لغم ما هم فيه ، فالخلق ملجمون بالعرق ، فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة ، وأما الكافر فيغشاه الموت " . فقال : " انتظر حتى أرجع إليك " . فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم ، " فقام تحت العرش ، فيلقى ما لم يلق ملك [ ص: 413 ] مصطفى ، ولا نبي مرسل . " فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد ، وقل له : ارفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفع . فشفعت في أمتي ، فقال : أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا ، فما زلت أتردد إلى ربي عز وجل ، فلا أقوم منه مقاما إلا شفعت ، حتى أعطاني الله عز وجل من ذلك أن قال : يا محمد ، أدخل من خلق الله من أمتك من شهد أن لا إله إلا الله يوما واحدا مخلصا ، ومات على ذلك " .

وروى الإمام أحمد من حديث علي بن الحكم البناني ، عن عثمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود ، عن ابن مسعود ، فذكر حديثا طويلا ، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة " . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ، وما ذلك المقام المحمود ؟ قال : " ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلا ، فيكون أول من يكسى إبراهيم ، يقول الله عز وجل : اكسوا خليلي ، فيؤتى بريطتين بيضاوين ، فيلبسهما ، ثم يقعد مستقبل العرش ، ثم أوتى بكسوتي ، فألبسها ، فأقوم عن يمينه مقاما لا يقومه أحد ، فيغبطني به الأولون والآخرون " . قال : " ويفتح نهر من الكوثر إلى الحوض " . وذكر تمام الحديث في صفة الحوض كما سيأتي قريبا .

وذكرنا في " المسند الكبير " عن حيدة الصحابي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 414 ] قال : "
تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، وأول من يكسى إبراهيم الخليل ، يقول الله تعالى : اكسوا خليلي . ليعلم الناس فضله ، ثم يكسى الناس على قدر الأعمال .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يطول على الناس يوم القيامة ، فيقول بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر ، فليشفع لنا إلى ربنا ، فليقض بيننا . فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت الذي خلقك الله بيده ، وأسكنك جنته ، فاشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا نوحا رأس النبيين . فيأتونه ، فيقولون : يا نوح ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الله " . قال : " فيأتونه ، فيقولون : يا إبراهيم ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا موسى الذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه " . قال : " فيأتونه ، فيقولون : يا موسى ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته . فيأتون عيسى ، فيقولون : يا عيسى ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا ، فيقول : إني لست هناكم ، ولكن ائتوا محمدا ; فإنه خاتم النبيين ، وإنه قد حضر اليوم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . ويقول عيسى : أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه ، هل كان [ ص: 415 ] يقدر على ما في ذلك الوعاء حتى يفض الخاتم ؟ فيقولون : لا . قال : فإن محمدا خاتم النبيين " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فيأتوني ، فيقولون : يا محمد ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فأقول : نعم ، فآتي باب الجنة ، فآخذ بحلقة الباب ، فأستفتح ، فيقال : من أنت؟ فأقول : محمد ، فيفتح لي ، فأخر ساجدا ، فأحمد ربي عز وجل ، بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي ، ولا يحمده بها أحد كان بعدي ، فيقول : ارفع رأسك ، وقل يسمع منك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : أي رب ، أمتي أمتي ، فيقال : أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان " . قال : " فأخرجهم ، ثم أخر ساجدا " . فذكر مثل ذلك . " فيقال : أخرج من كان في قلبه مثقال برة من إيمان ، قال : فأخرجهم ، ثم أخر ساجدا " . فذكر مثل ذلك . " فيقال : أخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، قال : فأخرجهم " . وقد رواه البخاري ومسلم ، من حديث سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس ، نحوه .

رواية أبي هريرة رضي الله عنه : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو حبان ، حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة ، قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم ، فرفع إليه الذراع ، وكانت تعجبه ، [ ص: 416 ] فنهس منها نهسة ، ثم قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون مم ذلك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ، ولا يحتملون ، فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه ؟ ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض : أبوكم آدم . فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة ، فسجدوا لك ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة ، فعصيت ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح . فيأتون نوحا ، فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه كانت لي دعوة على قومي ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى إبراهيم . فيأتون إبراهيم ، فيقولون : يا إبراهيم ، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول : إن ربي قد [ ص: 417 ] غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله - وذكر كذباته - نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى . فيأتون موسى فيقولون : يا موسى ، أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته ، وبتكليمه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى عيسى . فيأتون عيسى ، فيقولون : يا عيسى ، أنت رسول الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه - قال : هكذا هو - وكلمت الناس في المهد ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله - ولم يذكر ذنبا - اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد ، فيأتوني ، فيقولون : يا محمد ، أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم فآتي تحت العرش ، فأتي ساجدا لربي عز وجل ، ثم يفتح الله علي ، ويلهمني من محامده ، وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . فأقول : رب ، أمتي أمتي ، يا رب ، أمتي أمتي ، يا رب ، أمتي أمتي . فيقال : يا محمد ، أدخل من أمتك [ ص: 418 ] من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب " . ثم قال : " والذي نفس محمد بيده لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى . أخرجاه في " الصحيحين " ، من حديث أبي حيان يحيى بن سعيد بن حيان ، به .

ورواه ابن أبي الدنيا في " الأهوال " ، عن أبي خيثمة ، عن جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره بطوله ، وزاد في السياق : " وإني أخاف أن يطرحني في النار ، انطلقوا إلى غيري " . في قصة آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وهي زيادة غريبة جدا ، ليست في " الصحيحين " ، ولا في أحدهما ، بل ولا في شيء من بقية " السنن " ، وهي منكرة جدا ، فالله أعلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة ، قال : خطبنا ابن عباس على منبر البصرة ، فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه لم يكن نبي إلا له دعوة قد تنجزها في الدنيا ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي ، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا [ ص: 419 ] فخر ، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، آدم فمن دونه تحت لوائي ولا فخر ، ويطول يوم القيامة على الناس ، فيقول بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى أبينا ، فليشفع لنا إلى ربنا ، فليقض بيننا . فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت الذي خلقك الله بيده ، وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، اشفع لنا إلى ربنا ، فليقض بيننا . فيقول : إني لست هناكم ، إني قد أخرجت من الجنة ، وإنه لا يهمني اليوم إلا نفسي ، ولكن ائتوا نوحا رأس النبيين . فذكر الحديث ، كنحو ما تقدم إلى أن قال : " فيأتوني ، فيقولون : يا محمد ، اشفع لنا إلى ربك ، فليقض بيننا . فأقول : أنا لها ، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، فإذا أراد الله أن يصدع بين خلقه ، نادى مناد : أين أحمد وأمته؟ فنحن الآخرون الأولون; آخر الأمم ، وأول من يحاسب ، فتفرج لنا الأمم طريقا ، فنمضي غرا محجلين من أثر الوضوء ، فتقول الأم : كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها ، فآتي باب الجنة " . وذكر تمام الحديث في الشفاعة ، في عصاة هذه الأمة .

وقد ورد هذا الحديث هكذا عن جماعة من الصحابة ، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، من رواية حذيفة بن اليمان عنه ، وسيأتي في أحاديث الشفاعة . والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث في أكثر طرقه ، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى ، في إتيان الرب لفصل القضاء ، كما ورد هذا في حديث الصور ، كما تقدم ، وهو المقصود في هذا المقام .

[ ص: 420 ] ومقتضى سياق أول الحديث ; فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل الله عز وجل بين الناس ؟ ليستريحوا من مقامهم ذلك ، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه ، فإذا وصلوا إلى المحز إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار ، وكأن مقصود السلف في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ، الذين ينكرون خروج أحد من النار بعد دخولها ، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث ، وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور ، كما تقدم أن الناس يذهبون إلى آدم ، ثم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم ، ثم إلى موسى ، ثم إلى عيسى ، ثم يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيذهب ، فيسجد لله تحت العرش في مكان يقال له : الفحص . إلى أن قال : " فيقول : شفعتك . أنا آتيكم فأقضي بينكم " . قال : " فأرجع ، فأقف مع الناس " . إلى أن قال : " فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه " . وذكر الحديث كما تقدم .

وقال عبد الرزاق : أنبا معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين زين العابدين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم ، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأكون أول من يدعى وجبريل عن يمين الرحمن عز وجل ، والله ما رآه قبلها ، فأقول : أي رب ، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي ، فيقول الله : صدق . ثم أشفع ، فأقول : يا رب ، عبادك عبدوك في أطراف الأرض . فهو المقام المحمود " .

[ ص: 421 ] هذا مرسل من هذا الوجه ، وعندي أن معنى قوله : " عبادك عبدوك في أطراف الأرض " . أي وقوف في أطراف الأرض ، أي الناس مجتمعون فى صعيد واحد ، مؤمنهم وكافرهم ، فيشفع عند الله ليأتي لفصل القضاء بين عباده ، ويميز مؤمنهم من كافرهم في الموقف والمصير فى الحال ، والمآل ، ولهذا قال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل فى قوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا
. هو المقام الذي يقومه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم .

وقال البخاري : حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا أبو الأحوص ، عن آدم بن علي ، قال : سمعت ابن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان ، اشفع ، يا فلان ، اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا .

قال : ورواه حمزة بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد أسند ما علقه ههنا في موضع آخر من " الصحيح " ، فقال في كتاب الزكاة : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، [ ص: 422 ] سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر ، سمعت عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال العبد يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم " . وقال : " إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك إذ استغاثوا بآدم ، ثم بموسى ، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم " . زاد عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، عن ابن أبي جعفر : " فيشفع ليقضي بين الخلق ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب ، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم " .

وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن شعيب بن الليث ، عن أبيه ، به ، بنحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية