صفحة جزء
[ ص: 182 ] فصل في رجوعه ، عليه السلام ، من بدر إلى المدينة ، وما كان من الأمور في مسيره إليها مؤيدا منصورا ، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام

وقد تقدم أن الوقعة كانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان سنة اثنتين من الهجرة .

وثبت في " الصحيحين " أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاثة أيام ، وقد أقام ، عليه الصلاة والسلام ، بعرصة بدر ثلاثة أيام كما تقدم ، وكان رحيله منها ليلة الاثنين ، فركب ناقته ووقف على قليب بدر ، فقرع أولئك الذين سحبوا إليه كما تقدم ذكره ، ثم سار ، عليه الصلاة والسلام ، ومعه الأسارى والغنائم الكثيرة ، وقد بعث ، عليه الصلاة والسلام ، بين يديه بشيرين إلى المدينة بالفتح والنصر والظفر على من أشرك بالله وجحده وبه كفر ، أحدهما عبد الله بن رواحة إلى أعالي المدينة ، والثاني زيد بن حارثة إلى السافلة . قال أسامة بن زيد : فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان زوجها [ ص: 183 ] عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قد احتبس عندها يمرضها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ضرب له رسول الله بسهمه وأجره في بدر . قال أسامة : فلما قدم أبي زيد بن حارثة جئته وهو واقف بالمصلى ، وقد غشيه الناس ، وهو يقول : قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وأبو البختري العاص بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج . قال : قلت : يا أبت ، أحق هذا ؟ قال : إي والله يا بني .

وروى البيهقي ، من طريق حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف عثمان وأسامة بن زيد على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء زيد بن حارثة على العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبشارة ، قال أسامة : فسمعت الهيعة ، فخرجت فإذا زيد قد جاء بالبشارة ، فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى ، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بسهمه .

وقال الواقدي : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من بدر العصر بالأثيل ، فلما صلى ركعة تبسم ، فسئل عن تبسمه ، فقال : مر بي ميكائيل وعلى جناحه النقع ، فتبسم إلي ، وقال : إني كنت في طلب القوم . وأتاه جبريل حين فرغ من قتال أهل بدر ، على فرس أنثى معقود [ ص: 184 ] الناصية ، قد عصم ثنيته الغبار فقال : يا محمد ، إن ربي بعثني إليك ، وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى ، هل رضيت ؟ قال : نعم .

قال الواقدي : قالوا : وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة من الأثيل ، فجاءا يوم الأحد حين اشتد الضحى ، وفارق عبد الله بن رواحة زيد بن حارثة من العقيق ، فجعل عبد الله بن رواحة ينادي على راحلته : يا معشر الأنصار ، أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسرهم ، قتل ابنا ربيعة ، وابنا الحجاج ، وأبو جهل ، وقتل زمعة بن الأسود ، وأمية بن خلف ، وأسر سهيل بن عمرو . قال عاصم بن عدي : فقمت إليه ، فنحوته فقلت : أحقا ما تقول يا بن رواحة ؟ فقال إي والله ، وغدا يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى مقرنين . ثم تتبع دور الأنصار بالعالية يبشرهم دارا دارا ، والصبيان يشتدون معه يقولون : قتل أبو جهل الفاسق . حتى إذا انتهى إلى دار بني أمية ، وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء ، يبشر أهل المدينة ، فلما جاء المصلى صاح على راحلته : قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وابنا الحجاج ، وقتل أمية بن خلف ، وأبو جهل ، وأبو البختري ، وزمعة بن الأسود ، وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب ، في أسرى كثير . فجعل بعض [ ص: 185 ] الناس لا يصدقون زيدا ، ويقولون : ما جاء زيد بن حارثة إلا فلا . حتى غاظ المسلمين ذلك وخافوا ، وقدم زيد حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب بالبقيع ، وقال رجل من المنافقين لأسامة : قتل صاحبكم ومن معه . وقال آخر لأبي لبابة : قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون فيه أبدا ، وقد قتل علية أصحابه ، وقتل محمد ، وهذه ناقته نعرفها ، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب ، وجاء فلا . فقال أبو لبابة : يكذب الله قولك . وقالت اليهود : ما جاء زيد إلا فلا . قال أسامة : فجئت حتى خلوت بأبي ، فقلت : أحق ما تقول ؟ فقال : إي والله حق ما أقول يا بني . فقويت نفسي ورجعت إلى ذلك المنافق ، فقلت : أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين ، لنقدمنك إلى رسول الله إذا قدم ، فليضربن عنقك . فقال : إنما هو شيء سمعته من الناس يقولونه . قال فجيء بالأسرى ، وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد شهد معهم بدرا ، وهم تسع وأربعون رجلا ، الذين أحصوا .

قال الواقدي : وهم سبعون في الأصل ، مجتمع عليه ، لا شك فيه . قال : ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الروحاء رءوس الناس يهنئونه بما فتح الله عليه ، فقال له أسيد بن الحضير : يا رسول الله ، الحمد لله الذي أظفرك ، وأقر عينك ، والله يا رسول الله ، ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوا ، ولكن [ ص: 186 ] ظننت أنها عير ، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدقت .

قال ابن إسحاق : ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة ومعه الأسارى وفيهم عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وقد جعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار ، فقال راجز من المسلمين - قال ابن هشام يقال إنه هو عدي بن أبي الزغباء - :


أقم لها صدورها يا بسبس ليس بذي الطلح لها معرس     ولا بصحراء غمير محبس
إن مطايا القوم لا تحبس     فحملها على الطريق أكيس
قد نصر الله وفر الأخنس

قال : ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على [ ص: 187 ] كثيب بين المضيق وبين النازية ، يقال له : سير . إلى سرحة به ، فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء ، ثم ارتحل حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين ، فقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش ، كما حدثني عاصم بن عمر ، ويزيد بن رومان : ما الذي تهنئوننا به ؟ والله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقلة فنحرناها . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أي ابن أخي ، أولئك الملأ . قال ابن هشام : يعني الأشراف والرؤساء .

التالي السابق


الخدمات العلمية