صفحة جزء
[ ص: 15 ] فصل فيما ورد في صفة خلق العرش والكرسي

قال الله تعالى : رفيع الدرجات ذو العرش [ غافر : 15 ] . وقال تعالى : فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ المؤمنون : 116 ] . وقال الله : لا إله إلا هو رب العرش العظيم [ النمل : 26 ] . وقال : وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد [ البروج : 14 ] . وقال تعالى : الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] . وقال : ثم استوى على العرش [ الأعراف : 54 ] . في غير ما آية من القرآن وقال تعالى : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما [ غافر : 7 ] . وقال تعالى : ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية [ الحاقة : 17 ] . وقال تعالى : وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين [ الزمر : 75 ] . وفي الدعاء المروي في الصحيح في دعاء الكرب : لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم . وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا يحيى بن العلاء ، عن عمه شعيب بن [ ص: 16 ] خالد ، حدثني سماك بن حرب ، عن عبد الله بن عميرة ، عن عباس بن عبد المطلب ، قال : كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فمرت سحابة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدرون ما هذا قال قلنا : السحاب قال : والمزن قال : قلنا : والمزن قال : والعنان قال : فسكتنا فقال : هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ قال : قلنا : الله ورسوله أعلم قال : بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض ، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله فوق ذلك ، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء . هذا لفظ الإمام أحمد ورواه أبو داود ، وابن ماجه ، والترمذي من حديث سماك بإسناده نحوه ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك ووقفه . ولفظ أبي داود : [ ص: 17 ] وهل تدرون بعد ما بين السماء والأرض ؟ قالوا : لا ندري . قال : بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاثة وسبعون سنة . والباقي نحوه . وقال أبو داود : حدثنا عبد الأعلى بن حماد ، ومحمد بن المثنى ، ومحمد بن بشار ، وأحمد بن سعيد الرباطي ، قالوا : حدثنا وهب بن جرير قال أحمد : كتبناه من نسخته وهذا لفظه قال : حدثنا أبي قال : سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عقبة ، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن جده قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس ، وجاعت العيال ، ونهكت الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا ، فإنا نستشفع بك على الله ، ونستشفع بالله عليك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحك أتدري ما تقول ؟ ! وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك ، ويحك أتدري ما الله ؟ إن عرشه على سماواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب . قال ابن بشار في حديثه : " إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته " . وساق الحديث وقال عبد الأعلى ، وابن المثنى ، وابن بشار ، عن يعقوب بن عقبة ، وجبير بن محمد بن جبير ، عن أبيه ، عن [ ص: 18 ] جده . والحديث بإسناد أحمد بن سعيد ، هو الصحيح ، وافقه عليه جماعة منهم ; يحيى بن معين ، وعلي بن المديني . ورواه جماعة منهم عن ابن إسحاق كما قال أحمد أيضا ، وكان سماع عبد الأعلى ، وابن المثنى ، وابن بشار من نسخة واحدة فيما بلغني . تفرد بإخراجها أبو داود . وقد صنف الحافظ أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي جزءا في الرد على هذا الحديث سماه ب ( بيان الوهم والتخليط الواقع في حديث الأطيط ) واستفرغ وسعه في الطعن على محمد بن إسحاق بن يسار راويه ، وذكر كلام الناس فيه ، ولكن قد روي هذا اللفظ من طريق أخرى ، عن غير محمد بن إسحاق ، فرواه عبد بن حميد ، وابن جرير في تفسيريهما ، وابن أبي عاصم ، والطبراني في كتابي السنة لهما ، والبزار في مسنده ، والحافظ الضياء المقدسي في مختاراته من طريق أبي إسحاق السبيعي ، عن عبد الله بن خليفة ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة . قال : فعظم الرب تبارك وتعالى وقال : إن كرسيه وسع السماوات والأرض ، وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد من ثقله . عبد الله بن خليفة هذا ليس بذاك المشهور ، وفي سماعه من عمر نظر ، ثم منهم من يرويه موقوفا ومرسلا ، ومنهم من يزيد فيه زيادة غريبة . والله أعلم .

[ ص: 19 ] وثبت في صحيح البخاري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ; فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، وفوقه عرش الرحمن . يروى : وفوقه بالفتح على الظرفية ، وبالضم قال شيخنا الحافظ المزي : وهو أحسن . أي : وأعلاها عرش الرحمن ، وقد جاء في بعض الآثار : أن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش ، وهو تسبيحه وتعظيمه ، وما ذاك إلا لقربهم منه ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ . وذكر الحافظ ابن الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب صفة العرش عن بعض السلف : أن العرش مخلوق من ياقوتة حمراء ، بعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة . وذكرنا عند قوله تعالى : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ المعارج : 4 ] . أنه بعد ما بين العرش إلى الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة ، وأن اتساعه خمسون ألف سنة . وقد ذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة ، وربما سموه الفلك التاسع والفلك الأطلس والأثير . وهذا ليس بجيد لأنه قد ثبت في الشرع [ ص: 20 ] أن له قوائم تحمله الملائكة ، والفلك لا يكون له قوائم ولا يحمل ، وأيضا فإنه فوق الجنة ، والجنة فوق السماوات ، وفيها مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فالبعد الذي بينه وبين الكرسي ليس هو نسبة فلك إلى فلك ، وأيضا فإن العرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك كما قال تعالى : ولها عرش عظيم [ النمل : 23 ] . وليس هو فلكا ، ولا تفهم منه العرب ذلك ، والقرآن إنما نزل بلغة العرب فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة ، وهو كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات . قال الله تعالى : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا [ غافر : 7 ] . وقد تقدم في حديث الأوعال أنهم ثمانية ، وفوق ظهورهن العرش ، وقال تعالى : ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية [ الحاقة : 17 ] .

وقال شهر بن حوشب : حملة العرش ثمانية : أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك ، وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك . فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن محمد هو أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق أمية بن أبي الصلت في شيء من [ ص: 21 ] شعره فقال :


رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد



فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق فقال :


والشمس تطلع كل آخر ليلة     حمراء يصبح لونها يتورد
ليست بطالعة لهم في رسلها     إلا معذبة وإلا تجلد



فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق . فإنه حديث صحيح الإسناد رجاله ثقات ، وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة ، فيعارضه حديث الأوعال اللهم إلا أن يقال : إن إثبات هؤلاء الأربعة على هذه الصفات لا ينفي ما عداهم ، والله أعلم .

ومن شعر أمية بن أبي الصلت في العرش قوله :


مجدوا الله فهو للمجد أهل     ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء العالي الذي بهر الناس     وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا لا يناله بصر العين     ترى حوله الملائك صورا



[ ص: 22 ] صور جمع أصور ، وهو المائل العنق لنظره إلى العلو ، والشرجع هو العالي المنيف ، والسرير هو العرش في اللغة ، ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي عرض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته :


شهدت بأن وعد الله حق     وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف     وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام     ملائكة الإله مسومينا



ذكره ابن عبد البر ، وغير واحد من الأئمة ، وقال أبو داود : ثنا أحمد بن حفص بن عبد الله ، حدثني أبي ، ثنا إبراهيم بن طهمان ، عن موسى بن عقبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام . ورواه ابن أبي حاتم ، ولفظه مخفق الطير سبعمائة عام .

[ ص: 23 ] وأما الكرسي : فروى ابن جرير من طريق جويبر وهو ضعيف عن الحسن البصري أنه كان يقول : الكرسي هو العرش . وهذا لا يصح عن الحسن بل الصحيح عنه وعن غيره من الصحابة والتابعين أن الكرسي غير العرش ، وعن ابن عباس ، وسعيد بن جبير أنهما قالا في قوله تعالى : وسع كرسيه السماوات والأرض [ البقرة : 255 ] . أي علمه ، والمحفوظ عن ابن عباس كما رواه الحاكم في مستدركه ، وقال : إنه على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه من طريق سفيان الثوري ، عن عمار الدهني ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل ، وقد رواه شجاع بن مخلد الفلاس في تفسيره عن أبي عاصم النبيل ، عن الثوري فجعله مرفوعا ، والصواب أنه موقوف على ابن عباس ، وحكاه ابن جرير ، عن أبي موسى الأشعري ، والضحاك بن مزاحم ، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، ومسلم البطين ، وقال السدي عن أبي مالك : الكرسي تحت العرش ، وقال السدي : السماوات والأرض في جوف الكرسي ، والكرسي بين يدي [ ص: 24 ] العرش . وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق الضحاك ، عن ابن عباس أنه قال : لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ، ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة ، وقال ابن جرير : حدثني يونس ، حدثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : حدثني أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس . قال : وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض . أول الحديث مرسل . وعن أبي ذر منقطع . وقد روي عنه من طريق أخرى موصولا ، فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره : أخبرنا سليمان بن أحمد الطبراني ، أنبأنا عبد الله بن وهيب الغزي أنا محمد بن أبي السري ، أنا محمد بن عبد الله التميمي ، عن القاسم بن محمد الثقفي ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر الغفاري ; أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن فضل العرش على الكرسي [ ص: 25 ] كفضل الفلاة على تلك الحلقة . وقال ابن جرير في تاريخه حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس عن قوله عز وجل : وكان عرشه على الماء [ هود : 7 ] . على أي شيء كان الماء ؟ قال : على متن الريح قال : والسماوات والأرضون وكل ما فيهن من شيء تحيط بها البحار ، ويحيط بذلك كله الهيكل ، ويحيط بالهيكل فيما قيل الكرسي . وروى عن وهب بن منبه نحوه ، وفسر وهب الهيكل فقال : شيء من أطراف السماوات محدق بالأرضين والبحار كأطناب الفسطاط .

وقد زعم بعض من ينتسب إلى علم الهيئة أن الكرسي عبارة عن الفلك الثامن الذي يسمونه فلك الكواكب الثوابت ، وفيما زعموه نظر ; لأنه قد ثبت أنه أعظم من السماوات السبع بشيء كثير ، كما ورد به الحديث المتقدم أن نسبتها إليه كنسبة حلقة ملقاة بأرض فلاة ، وهذا ليس نسبة فلك إلى فلك ، فإن قال قائلهم : نحن نعترف بذلك ونسميه مع ذلك فلكا فنقول الكرسي ليس في اللغة عبارة عن الفلك ، وإنما هو كما قال غير واحد من السلف : إن الكرسي بين يدي العرش كالمرقاة إليه . ومثل هذا لا يكون فلكا . ومن زعم منهم أن الكواكب الثوابت مرصعة فيه فقد قال ما لا يعلم ، ولا دليل لهم عليه هذا مع اختلافهم في ذلك أيضا كما هو مقرر في كتبهم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية