صفحة جزء
[ ص: 273 ] فصل فيما قيل من الأشعار في غزوة بدر العظمى

فمن ذلك ما ذكره ابن إسحاق ، عن حمزة بن عبد المطلب ، وأنكرها ابن هشام :


ألم تر أمرا كان من عجب الدهر وللحين أسباب مبينة الأمر     وما ذاك إلا أن قوما أفادهم
فخانوا تواص بالعقوق وبالكفر     عشية راحوا نحو بدر بجمعهم
فكانوا رهونا للركية من بدر     وكنا طلبنا العير لم نبغ غيرها
فساروا إلينا فالتقينا على قدر     فلما التقينا لم تكن مثنوية
لنا غير طعن بالمثقفة السمر [ ص: 274 ]     وضرب ببيض يختلي الهام حدها
مشهرة الألوان بينة الأثر     ونحن تركنا عتبة الغي ثاويا
وشيبة في قتلى تجرجم في الجفر     وعمرو ثوى فيمن ثوى من حماتهم
فشقت جيوب النائحات على عمرو     جيوب نساء من لؤي بن غالب
كرام تفرعن الذوائب من فهر     أولئك قوم قتلوا في ضلالهم
وخلوا لواء غير محتضر النصر     لواء ضلال قاد إبليس أهله
فخاس بهم إن الخبيث إلى غدر     وقال لهم إذ عاين الأمر واضحا
برئت إليكم ما بي اليوم من صبر     فإني أرى ما لا ترون وإنني
أخاف عقاب الله والله ذو قسر     فقدمهم للحين حتى تورطوا
وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر     فكانوا غداة البئر ألفا وجمعنا
ثلاث مئين كالمسدمة الزهر     وفينا جنود الله حين يمدنا
بهم في مقام ثم مستوضح الذكر     فشد بهم جبريل تحت لوائنا
لدى مأزق فيه مناياهم تجري

[ ص: 275 ] وقد ذكر ابن إسحاق جوابها من الحارث بن هشام ، أخي أبي جهل عمرو بن هشام ، تركناها عمدا .

وقال علي بن أبي طالب - وأنكرها ابن هشام - :


ألم تر أن الله أبلى رسوله     بلاء عزيز ذي اقتدار وذي فضل
بما أنزل الكفار دار مذلة     فلاقوا هوانا من إسار ومن قتل
فأمسى رسول الله قد عز نصره     وكان رسول الله أرسل بالعدل
فجاء بفرقان من الله منزل     مبينة آياته لذوي العقل
فآمن أقوام بذاك وأيقنوا     فأمسوا بحمد الله مجتمعي الشمل
وأنكر أقوام فزاغت قلوبهم     فزادهم ذو العرش خبلا على خبل
وأمكن منهم يوم بدر رسوله     وقوما غضابا فعلهم أحسن الفعل
بأيديهم بيض خفاف عصوا بها     وقد حادثوها بالجلاء وبالصقل
فكم تركوا من ناشئ ذي حمية     صريعا ومن ذي نجدة منهم كهل
تبيت عيون النائحات عليهم     تجود بإسبال الرشاش وبالوبل
[ ص: 276 ] نوائح تنعي عتبة الغي وابنه     وشيبة تنعاه وتنعي أبا جهل
وذا الرجل تنعى وابن جدعان فيهم     مسلبة حرى مبينة الثكل
ثوى منهم في بئر بدر عصابة     ذوو نجدات في الحروب وفي المحل
دعا الغي منهم من دعا فأجابه     وللغي أسباب مرمقة الوصل
فأضحوا لدى دار الجحيم بمعزل     عن الشغب والعدوان في أسفل السفل

وقد ذكر ابن إسحاق نقيضها من الحارث بن هشام أيضا ، تركناها قصدا . وقال كعب بن مالك :


عجبت لأمر الله والله قادر     على ما أراد ليس لله قاهر
قضى يوم بدر أن نلاقي معشرا     بغوا وسبيل البغي بالناس جائر
وقد حشدوا واستنفروا من يليهم     من الناس حتى جمعهم متكاثر
وسارت إلينا لا تحاول غيرنا     بأجمعها كعب جميعا وعامر
وفينا رسول الله والأوس حوله     له معقل منهم عزيز وناصر
[ ص: 277 ] وجمع بني النجار تحت لوائه     يمشون في الماذي والنقع ثائر
فلما لقيناهم وكل مجاهد     لأصحابه مستبسل النفس صابر
شهدنا بأن الله لا رب غيره     وأن رسول الله بالحق ظاهر
وقد عريت بيض خفاف كأنها     مقابيس يزهيها لعينيك شاهر
بهن أبدنا جمعهم فتبددوا     وكان يلاقي الحين من هو فاجر
فكب أبو جهل صريعا لوجهه     وعتبة قد غادرته وهو عاثر
وشيبة والتيمي غادرت في الوغى     وما منهم إلا بذي العرش كافر
فأمسوا وقود النار في مستقرها     وكل كفور في جهنم صائر
تلظى عليهم وهي قد شب حميها     بزبر الحديد والحجارة ساجر
وكان رسول الله قد قال أقبلوا     فولوا وقالوا إنما أنت ساحر
لأمر أراد الله أن يهلكوا به     وليس لأمر حمه الله زاجر

وقال كعب في يوم بدر [ ص: 278 ]


ألا هل أتى غسان في نأي دارها     وأخبر شيء بالأمور عليمها
بأن قد رمتنا عن قسي عداوة     معد معا جهالها وحليمها
لأنا عبدنا الله لم نرج غيره     رجاء الجنان إذ أتانا زعيمها
نبي له في قومه إرث عزة     وأعراق صدق هذبتها أرومها
فساروا وسرنا فالتقينا كأننا     أسود لقاء لا يرجى كليمها
ضربناهم حتى هوى في مكرنا     لمنخر سوء من لؤي عظيمها
فولوا ودسناهم ببيض صوارم     سواء علينا حلفها وصميمها

وقال كعب أيضا :


لعمر أبيكما يا ابني لؤي     على زهو لديكم وانتخاء
لما حامت فوارسكم ببدر     ولا صبروا به عند اللقاء
وردناه ونور الله يجلو     دجى الظلماء عنا والغطاء
[ ص: 279 ] رسول الله يقدمنا بأمر     من امر الله أحكم بالقضاء
فما ظفرت فوارسكم ببدر     وما رجعوا إليكم بالسواء
فلا تعجل أبا سفيان وارقب     جياد الخيل تطلع من كداء
بنصر الله روح القدس فيها     وميكال فيا طيب الملاء

وقال حسان بن ثابت : قال ابن هشام : ويقال هي لعبد الله بن الحارث السهمي :


مستشعري حلق الماذي يقدمهم     جلد النحيزة ماض غير رعديد
أعني رسول إله الخلق فضله     على البرية بالتقوى وبالجود
وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم     وماء بدر زعمتم غير مورود
ثم وردنا ولم نسمع لقولكم     حتى شربنا رواء غير تصريد
مستعصمين بحبل غير منجذم     مستحكم من حبال الله ممدود
[ ص: 280 ] فينا الرسول وفينا الحق نتبعه     حتى الممات ونصر غير محدود
واف وماض شهاب يستضاء به     بدر أنار على كل الأماجيد

وقال حسان بن ثابت أيضا :


ألا ليت شعري هل أتى أهل مكة     إبارتنا الكفار في ساعة العسر
قتلنا سراة القوم عند مجالنا     فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر
قتلنا أبا جهل وعتبة قبله     وشيبة يكبو لليدين وللنحر
قتلنا سويدا ثم عتبة بعده     وطعمة أيضا عند ثائرة القتر
فكم قد قتلنا من كريم مرزأ     له حسب في قومه نابه الذكر
تركناهم للعاويات ينبنهم     ويصلون نارا بعد حامية القعر
لعمرك ما حامت فوارس مالك     وأشياعهم يوم التقينا على بدر

وقال عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، في يوم بدر ، وفي قطع رجله في مبارزته هو وحمزة وعلي مع عتبة وشيبة والوليد بن عتبة ، وأنكرها ابن هشام : [ ص: 281 ]


ستبلغ عنا أهل مكة وقعة     يهب لها من كان عن ذاك نائيا
بعتبة إذ ولى وشيبة بعده     وما كان فيها بكر عتبة راضيا
فإن تقطعوا رجلي فإني مسلم     أرجي بها عيشا من الله دانيا
مع الحور أمثال التماثيل أخلصت     من الجنة العليا لمن كان عاليا
وبعت بها عيشا تعرفت صفوه     وعاجلته حتى فقدت الأدانيا
فأكرمني الرحمن من فضل منه     بثوب من الإسلام غطى المساويا
وما كان مكروها إلي قتالهم     غداة دعا الأكفاء من كان داعيا
ولم يبغ إذ سالوا النبي سواءنا     ثلاثتنا حتى حضرنا المناديا
لقيناهم كالأسد تخطر بالقنا     نقاتل في الرحمن من كان عاصيا
فما برحت أقدامنا من مقامنا     ثلاثتنا حتى أزيروا المنائيا

وقال ابن إسحاق : وقال حسان بن ثابت أيضا ، يذم الحارث بن هشام على فراره يوم بدر ، وتركه قومه لا يقاتل دونهم : [ ص: 282 ]


تبلت فؤادك في المنام خريدة     تشفي الضجيع ببارد بسام
كالمسك تخلطه بماء سحابة     أو عاتق كدم الذبيح مدام
نفج الحقيبة بوصها متنضد     بلهاء غير وشيكة الأقسام
بنيت على قطن أجم كأنه     فضلا إذا قعدت مداك رخام
وتكاد تكسل أن تجيء فراشها     في جسم خرعبة وحسن قوام
أما النهار فلا أفتر ذكرها     والليل توزعني بها أحلامي
أقسمت أنساها وأترك ذكرها     حتى تغيب في الضريح عظامي
يا من لعاذلة تلوم سفاهة     ولقد عصيت على الهوى لوامي
[ ص: 283 ] بكرت علي بسحرة بعد الكرى     وتقارب من حادث الأيام
زعمت بأن المرء يكرب عمره     عدم لمعتكر من الأصرام
إن كنت كاذبة الذي حدثتني     فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم     ونجا برأس طمرة ولجام
تذر العناجيج الجياد بقفرة     مر الدموك بمحصد ورجام
ملأت به الفرجين فارمدت به     وثوى أحبته بشر مقام
وبنو أبيه ورهطه في معرك     نصر الإله به ذوي الإسلام
طحنتهم والله ينفذ أمره     حرب يشب سعيرها بضرام
لولا الإله وجريها لتركنه     جزر السباع ودسنه بحوام
[ ص: 284 ] من بين مأسور يشد وثاقه     صقر إذا لاقى الأسنة حام
ومجدل لا يستجيب لدعوة     حتى تزول شوامخ الأعلام
بالعار والذل المبين إذ رأى     بيض السيوف تسوق كل همام
بيدي أغر إذا انتمى لم يخزه     نسب القصار سميدع مقدام
بيض إذا لاقت حديدا صممت     كالبرق تحت ظلال كل غمام

قال ابن هشام : تركنا في آخرها ثلاثة أبيات أقذع فيها .

قال ابن هشام : فأجابه الحارث بن هشام ، أخو أبي جهل عمرو بن هشام فقال :


القوم أعلم ما تركت قتالهم     حتى حبوا مهري بأشقر مزبد
وعرفت أني إن أقاتل واحدا     أقتل ولا ينكي عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم     طمعا لهم بعقاب يوم مفسد

[ ص: 285 ] وقال حسان أيضا :


يا حار قد عولت غير معول     عند الهياج وساعة الأحساب
إذ تمتطي سرح اليدين نجيبة     مرطى الجراء طويلة الأقراب
والقوم خلفك قد تركت قتالهم     ترجو النجاة وليس حين ذهاب
ألا عطفت على ابن أمك إذ ثوى     قعص الأسنة ضائع الأسلاب
عجل المليك له فأهلك جمعه     بشنار مخزية وسوء عذاب

وقال حسان أيضا :


لقد علمت قريش يوم بدر     غداة الأسر والقتل الشديد
بأنا حين تشتجر العوالي     حماة الحرب يوم أبي الوليد
قتلنا ابني ربيعة يوم سارا     إلينا في مضاعفة الحديد
[ ص: 286 ] وفر بها حكيم يوم جالت     بنو النجار تخطر كالأسود
وولت عند ذاك جموع فهر     وأسلمها الحويرث من بعيد
لقد لاقيتم ذلا وقتلا     جهيزا نافذا تحت الوريد
وكل القوم قد ولوا جميعا     ولم يلووا على الحسب التليد

وقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب ، ترثي عبيدة بن الحارث بن المطلب :


لقد ضمن الصفراء مجدا وسؤددا     وحلما أصيلا وافر اللب والعقل
عبيدة فابكيه لأضياف غربة     وأرملة تهوي لأشعث كالجذل
وبكيه للأقوام في كل شتوة     إذا احمر آفاق السماء من المحل
[ ص: 287 ] وبكيه للأيتام والريح زفزف     وتشبيب قدر طالما أزبدت تغلي
فإن تصبح النيران قد مات ضوءها     فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل
لطارق ليل أو لملتمس القرى     ومستنبح أضحى لديه على رسل

وقال الأموي في " مغازيه " حدثني سعيد بن قطن ، قال : قالت عاتكة بنت عبد المطلب في رؤياها التي رأت وتذكر بدرا :


ألما تكن رؤياي حقا ويأتكم     بتأويلها فل من القوم هارب
رأى فأتاكم باليقين الذي رأى     بعينيه ما تفري السيوف القواضب
فقلتم ولم أكذب كذبت وإنما     يكذبني بالصدق من هو كاذب
[ ص: 288 ] وما جاء إلا رهبة الموت هاربا     حكيم وقد أعيت عليه المذاهب
أقامت سيوف الهند دون رءوسكم     وخطية فيها الشبا والثعالب
كأن حريق النار لمع ظباتها     إذا ما تعاطتها الليوث المشاغب
ألا بأبي يوم اللقاء محمدا     إذا عض من عون الحروب الغوارب
مرى بالسيوف المرهفات نفوسكم     كفاحا كما تمري السحاب الجنائب
[ ص: 289 ] فكم بردت أسيافه من مليكة     وزعزع ورد بعد ذلك صالب
فما بال قتلى في القليب ومثلهم     لدى ابن أخي أسرى له ما تضارب
فكانوا نساء أم أتى لنفوسهم     من الله حين ساق والحين حالب
فكيف رأى عند اللقاء محمدا     بنو عمه والحرب فيها التجارب
ألم يغشكم ضربا يحار لوقعه ال     جبان وتبدو بالنهار الكواكب
حلفت لئن عادوا لنصطلينهم     بحارا تردى تجربتها المقانب
كأن ضياء الشمس لمع ظباتها     لها من شعاع النور قرن وحاجب

[ ص: 290 ] وقالت عاتكة أيضا فيما نقله الأموي :


هلا صبرتم للنبي محمد     ببدر ومن يغشى الوغى حق صابر
ولم ترجعوا عن مرهفات كأنها     حريق بأيدي المؤمنين بواتر
ولم تصبروا للبيض حتى أخذتموا     قليلا بأيدي المؤمنين المساعر
ووليتم نفرا وما البطل الذي     يقاتل من وقع السلاح بنافر
أتاكم بما جاء النبيون قبله     وما ابن أخي البر الصدوق بشاعر
سيكفي الذي ضيعتم من نبيكم     وينصره الحيان عمرو وعامر

وقال طالب بن أبي طالب يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرثي أصحاب القليب من قريش الذين قتلوا يومئذ من قومه ، وهو بعد على دين قومه إذ ذاك :


ألا إن عيني أنفدت دمعها سكبا     تبكي على كعب وما إن ترى كعبا
ألا إن كعبا في الحروب تخاذلوا     وأرداهم ذا الدهر واجترحوا ذنبا
وعامر تبكي للملمات غدوة     فيا ليت شعري هل أرى لهم قربا
[ ص: 291 ] فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا     فدى لكما لا تبعثوا بيننا حربا
ولا تصبحوا من بعد ود وألفة     أحاديث فيها كلكم يشتكي النكبا
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس     وحرب أبي يكسوم إذ ملئوا الشعبا
فلولا دفاع الله لا شيء غيره     لأصبحتم لا تمنعون لكم سربا
فما إن جنينا في قريش عظيمة     سوى أن حمينا خير من وطئ التربا
أخا ثقة في النائبات مرزأ     كريما نثاه لا بخيلا ولا ذربا
يطيف به العافون يغشون بابه     يؤمون نهرا لا نزورا ولا صربا
فوالله لا تنفك نفسي حزينة     تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا

التالي السابق


الخدمات العلمية