صفحة جزء
[ ص: 98 ] وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه

قد تقدم أن حبان بن العرقة ، لعنه الله ، رماه بسهم فأصاب أكحله ، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيا بالنار ، فاستمسك الجرح ، وكان سعد قد دعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة وذلك حين نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهود والمواثيق والذمام ، ومالوا عليه مع الأحزاب ، فلما ذهب الأحزاب وانقشعوا عن المدينة وباءت بنو قريظة بسواد الوجه والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة وسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحاصرهم ، كما تقدم ، فلما ضيق عليهم وأخذهم من كل جانب أنابوا إلى أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهم بما أراه الله ، فرد الحكم فيهم إلى رئيس الأوس ، وكانوا حلفاءهم في الجاهلية ، وهو سعد بن معاذ ، فرضوا بذلك ، ويقال : بل نزلوا ابتداء على حكم سعد ؛ لما يرجون من حنوه عليهم وإحسانه وميله إليهم ، ولم يعلموا بأنهم أبغض إليه من أعدادهم من القردة والخنازير ؛ لشدة إيمانه وصديقيته ، رضي الله عنه وأرضاه ، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في خيمة في المسجد النبوي ، فجيء به على حمار [ ص: 99 ] تحته إكاف قد وطئ تحته لمرضه ، ولما قارب خيمة الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عليه السلام من هناك بالقيام له ، قيل : لينزل من شدة مرضه . وقيل : توقيرا له بحضرة المحكوم عليهم ؛ ليكون أبلغ في نفوذ حكمه . والله أعلم . فلما حكم فيهم بالقتل والسبي وأقر الله عينه وشفى صدره منهم وعاد إلى خيمته من المسجد النبوي صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا الله عز وجل أن تكون له شهادة ، واختار الله له ما عنده ، فانفجر جرحه من الليل ، فلم يزل يخرج منه الدم حتى مات رضي الله عنه .

قال ابن إسحاق ، فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه ، فمات منه شهيدا ، حدثني معاذ بن رفاعة الزرقي قال : حدثني من شئت من رجال قومي أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبض سعد بن معاذ من جوف الليل ، معتجرا بعمامة من إستبرق ، فقال : يا محمد ، من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش ؟ قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد فوجده قد مات رضي الله عنه . هكذا ذكره ابن إسحاق رحمه الله .

وقد قال الحافظ البيهقي في " الدلائل " : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا أبي ، وشعيب بن الليث قالا : حدثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن [ ص: 100 ] الهاد ، عن معاذ بن رفاعة ، عن جابر بن عبد الله قال : جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من هذا العبد الصالح الذي مات ففتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش ؟ قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سعد بن معاذ قال : فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره وهو يدفن ، فبينما هو جالس إذ قال : " سبحان الله " مرتين . فسبح القوم . ثم قال : " الله أكبر الله أكبر " فكبر القوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبت لهذا العبد الصالح ، شدد عليه في قبره حتى كان هذا حين فرج له .

وروى الإمام أحمد والنسائي من طريق يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، ويحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رفاعة ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لسعد يوم مات وهو يدفن : " سبحان الله لهذا العبد الصالح الذي تحرك له عرش الرحمن ، وفتحت له أبواب السماء ، شدد عليه ، ثم فرج الله عنه .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني معاذ بن رفاعة ، عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح ، عن جابر بن عبد الله قال : لما دفن سعد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسبح الناس معه ، ثم كبر فكبر الناس معه ، فقالوا : يا رسول الله ، مم سبحت ؟ قال : " لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عنه وهكذا رواه الإمام أحمد ، [ ص: 101 ] عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن ابن إسحاق ، به .

قال ابن هشام : ومجاز هذا الحديث قول عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للقبر ضمة ، لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ .

قلت : وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن نافع ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن للقبر ضغطة ولو كان أحد ناجيا منها لنجا سعد بن معاذ وهذا الحديث سنده على شرط " الصحيحين " إلا أن الإمام أحمد رواه عن غندر ، عن شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن إنسان ، عن عائشة ، به .

وقد رواه الحافظ البزار ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : حدثنا عبد الأعلى [ ص: 102 ] بن حماد ، حدثنا داود ، عن عبد الرحمن ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك إلى الأرض لم يهبطوا قبل ذلك ولقد ضمه القبر ضمة قال : ثم بكى نافع . وهذا إسناد جيد لكن قال البزار : رواه غيره ، عن عبيد الله ، عن نافع مرسلا .

ثم رواه البزار ، عن سليمان بن سيف ، عن أبي عتاب ، عن مسكين بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطاب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطئوا الأرض قبلها وقال حين دفن : سبحان الله لو انفلت أحد من ضغطة القبر لانفلت منها سعد .

قال البزار : حدثنا إسماعيل بن حفص ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : اهتز العرش لحب لقاء الله سعد بن معاذ . قال : فقال : إنما يعني السرير . [ ص: 103 ] ورفع أبويه على العرش ( يوسف : 1 ) قال : تفسخت أعواده . قال : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبره فاحتبس ، فلما خرج قيل له : يا رسول الله ، ما حبسك ؟ قال : " ضم سعد في القبر ضمة ، فدعوت الله فكشف عنه قال البزار : تفرد به عطاء بن السائب . قلت : وهو متكلم فيه .

وقد ذكر البيهقي رحمه الله بعد روايته ضمة سعد رضي الله عنه في القبر ، أثرا غريبا فقال : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يونس ، عن ابن إسحاق ، حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد : ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا ؟ فقالوا : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال : " كان يقصر في بعض الطهور من البول "

وقال البخاري : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا الفضل بن مساور ، حدثنا أبو عوانة عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : سمعت النبي [ ص: 104 ] صلى الله عليه وسلم يقول : " اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وعن الأعمش ، حدثنا أبو صالح ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، فقال رجل لجابر : فإن البراء بن عازب يقول : اهتز السرير . فقال : إنه كان بين هذين الحيين ضغائن ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ ورواه مسلم ، عن عمرو الناقد ، عن عبد الله بن إدريس ، وابن ماجه ، عن علي بن محمد ، عن أبي معاوية ، كلاهما عن الأعمش ، به . وليس عندهما زيادة قول الأعمش ، عن أبي صالح ، عن جابر .

وقال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم : اهتز لها عرش الرحمن ورواه مسلم ، عن عبد بن حميد والترمذي ، عن محمود بن غيلان ، كلاهما عن عبد الرزاق ، به .

[ ص: 105 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عوف ، حدثنا أبو نضرة ، سمعت أبا سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : اهتز العرش لموت سعد بن معاذ ورواه النسائي ، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن يحيى ، به .

وقال أحمد : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، قال قتادة : حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وجنازته موضوعة - : اهتز لها عرش الرحمن ورواه مسلم ، عن محمد بن عبد الله الرزي ، عن عبد الوهاب ، به

وقد روى البيهقي من حديث المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الحسن البصري قال : اهتز عرش الرحمن فرحا بروحه .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا زهير بن محمد ، حدثنا [ ص: 106 ] عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس قال : لما حملت جنازة سعد قال المنافقون : ما أخف جنازته . وذلك لحكمه في بني قريظة ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا ، ولكن الملائكة كانت تحمله إسناد جيد .

فائدة : قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : حديث اهتزاز العرش ثابت متواتر . قال السهيلي : رواه جماعة من الصحابة ؛ منهم جابر ، وأبو سعيد ، وأسيد بن حضير ، ورميثة بنت عمرو . قال : وهو محمول على الحقيقة ؛ لأن العرش لا يمتنع عليه الحركة والاهتزاز . قال : وما روي عن مالك من تضعيفه لهذا الحديث ، وتوهينه للتحدث به ، فلعله لم يصح عنه ذلك ، والله أعلم .

وقال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق سمعت البراء بن عازب يقول : أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير ، فجعل أصحابه يمسونها ، ويعجبون من لينها ، فقال : " أتعجبون من لين هذه ، لمناديل سعد بن معاذ خير منها أو ألين " ثم قال : رواه قتادة والزهري ، سمعنا أنسا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 107 ] .

وقال أحمد : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، هو ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة ، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير فلبسها ، فعجب الناس منها ، فقال : والذي نفسي بيده ، لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذه وهذا إسناد على شرط الشيخين ، ولم يخرجوه ، وإنما ذكره البخاري تعليقا .

وقال أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا محمد بن عمرو ، حدثني واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ - قال محمد وكان واقد من أحسن الناس وأعظمهم وأطولهم - قال : دخلت على أنس بن مالك فقال لي : من أنت ؟ قلت : أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ . فقال : إنك بسعد لشبيه . ثم بكى وأكثر البكاء ، وقال : رحمة الله على سعد ، كان من أعظم الناس وأطولهم . ثم قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى أكيدر دومة ، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة من ديباج ، منسوج فيها الذهب ، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام على المنبر أو جلس فلم يتكلم ، ثم نزل فجعل الناس يلمسون الجبة ، وينظرون إليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتعجبون منها ، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون " وهكذا رواه الترمذي والنسائي من [ ص: 108 ] حديث محمد بن عمرو به ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

قال ابن إسحاق ، : بعد ذكر اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ وفي ذلك يقول رجل من الأنصار :


وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو

قال : وقالت أمه - يعني كبيشة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة الخدرية الخزرجية - حين احتمل سعد على نعشه تندبه :


ويل ام سعد سعدا     صرامة وحدا
وسؤددا ومجدا     وفارسا معدا
سد به مسدا     يقد هاما قدا

قال : يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ .

قلت : كانت وفاته بعد انصراف الأحزاب بنحو من خمس وعشرين ليلة ، وكان قدوم الأحزاب في شوال سنة خمس كما تقدم ، فأقاموا قريبا من [ ص: 109 ] شهر ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحصار بني قريظة فأقام عليهم خمسا وعشرين ليلة ، ثم نزلوا على حكم سعد ، فمات بعد حكمه عليهم بقليل ، فيكون ذلك في أواخر ذي القعدة أو أوائل ذي الحجة من سنة خمس . والله أعلم وهكذا قال محمد بن إسحاق : إن فتح بني قريظة كان في ذي القعدة وصدر ذي الحجة . قال : وولي تلك الحجة المشركون .

قال ابن إسحاق وقال حسان بن ثابت يرثي سعد بن معاذ رضي الله عنه :


لقد سجمت من دمع عيني عبرة     وحق لعيني أن تفيض على سعد
قتيل ثوى في معرك فجعت به     عيون ذواري الدمع دائمة الوجد
على ملة الرحمن وارث جنة     مع الشهداء وفدها أكرم الوفد
فإن تك قد ودعتنا وتركتنا     وأمسيت في غبراء مظلمة اللحد
[ ص: 110 ] فأنت الذي يا سعد أبت بمشهد     كريم وأثواب المكارم والحمد
بحكمك في حيي قريظة بالذي     قضى الله فيهم ما قضيت على عمد
فوافق حكم الله حكمك فيهم     ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد
فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى     شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد
فنعم مصير الصادقين إذا دعوا     إلى الله يوما للوجاهة والقصد

التالي السابق


الخدمات العلمية