صفحة جزء
فصل فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم حصون خيبر

قال ابن إسحاق ، وتدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال ، يأخذها مالا مالا ، ويفتتحها حصنا حصنا ، وكان أول حصونهم فتح حصن ناعم ، وعنده قتل محمود بن مسلمة ، ألقيت عليه رحى منه فقتلته ، ثم القموص حصن بني أبي الحقيق ، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا ؛ منهن صفية بنت حيي بن [ ص: 279 ] أخطب ، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وبنتا عم لها ، فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه ، وكان دحية بن خليفة قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية ، فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها ، قال : وفشت السبايا من خيبر في المسلمين ، وأكل الناس لحوم الحمر . فذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عن أكلها . وقد اعتنى البخاري بهذا الفصل ؛ فأورد النهي عنها من طرق جيدة ، وتحريمها مذهب جمهور العلماء سلفا وخلفا ، وهو مذهب الأئمة الأربعة . وقد ذهب بعض السلف - منهم ابن عباس - إلى إباحتها وتنوعت أجوبتهم عن الأحاديث الواردة في النهي عنها ، فقيل : لأنها كانت ظهرا يستعينون بها في الحمولة ، وقيل : لأنها لم تكن خمست بعد . وقيل : لأنها كانت تأكل العذرة . يعني جلالة . [ ص: 280 ]

والصحيح أنه نهي عنها لذاتها ؛ فإن في الأثر الصحيح أنه نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ؛ فإنها رجس . فأكفئوها والقدور تفور بها . وموضع تقرير ذلك في كتاب " الأحكام " .

قال ابن إسحاق : حدثني سلام بن كركرة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله - ولم يشهد جابر خيبر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر أذن لهم في لحوم الخيل . وهذا الحديث أصله ثابت في " الصحيحين " من حديث حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن علي ، عن جابر رضي الله عنه ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ، ورخص في الخيل . لفظ البخاري .

قال ابن إسحاق : وحدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم يومئذ عن أربع ؛ عن إتيان الحبالى من النساء ، وعن أكل الحمار الأهلي ، وعن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن بيع المغانم حتى تقسم . وهذا مرسل .

وقال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي مرزوق مولى تجيب ، عن حنش الصنعاني قال : غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري [ ص: 281 ] المغرب ، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال لها : جربة . فقام فينا خطيبا فقال : أيها الناس ، إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينا يوم خيبر ؛ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره " يعني إتيان الحبالى من السبي " ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه وهكذا روى هذا الحديث أبو داود من طريق محمد بن إسحاق ، به . ورواه الترمذي ، عن عمر بن حفص الشيباني ، عن ابن وهب ، عن يحيى بن أيوب ، عن ربيعة بن سليم ، عن بسر بن عبيد الله ، عن رويفع بن ثابت ، مختصرا ، وقال : حسن . [ ص: 282 ]

وفي " صحيح البخاري " عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وعن أكل الثوم . وقد حكى ابن حزم ، عن علي وشريك بن الحنبل ، أنهما ذهبا إلى تحريم البصل والثوم النيئ . والذي نقله الترمذي عنهما الكراهة . فالله أعلم .

وقد تكلم الناس في الحديث الوارد في " الصحيحين " من طريق الزهري ، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية ، عن أبيهما ، عن أبيه علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر ، وعن لحوم الحمر الأهلية . هذا لفظ " الصحيحين " من طريق مالك وغيره ، عن الزهري وهو يقتضي تقييد تحريم نكاح المتعة بيوم خيبر وهو مشكل من وجهين ؛ أحدهما ، أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يتمتعون بهن ؛ إذ قد حصل لهم الاستغناء بالسباء عن نكاح المتعة . الثاني ، أنه قد ثبت في " صحيح مسلم " عن الربيع بن سبرة بن معبد ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم في المتعة زمن الفتح ، ثم لم يخرج من مكة حتى نهى عنها ، وقال : " إن الله قد حرمها إلى يوم القيامة فعلى هذا يكون قد نهى عنها ثم أذن فيها ، ثم حرمت ، فيلزم النسخ مرتين ، وهو بعيد . ومع هذا فقد نص [ ص: 283 ] الشافعي على أنه لا يعلم شيئا أبيح ثم حرم ، ثم أبيح ثم حرم ، غير نكاح المتعة ، وما حداه على هذا - رحمه الله - إلا اعتماده على هذين الحديثين ، كما قدمناه .

وقد حكى السهيلي وغيره ، عن بعضهم أنه ادعى أنها أبيحت ثلاث مرات ، وحرمت ثلاث مرات . وقال آخرون : أربع مرات . وهذا بعيد جدا . والله أعلم . واختلفوا ؛ أي وقت أول ما حرمت ؟ فقيل : في خيبر . وقيل : في عمرة القضاء . وقيل : في عام الفتح . وهو الذي يظهر ، وقيل : في أوطاس . وهو قريب من الذي قبله . وقيل : في تبوك . وقيل : في حجة الوداع . رواه أبو داود .

وقد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث علي ، رضي الله عنه ، بأنه وقع فيه تقديم وتأخير .

وإنما المحفوظ فيه ما رواه الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن الحسن وعبد الله ابني محمد عن أبيهما - وكان حسن أرضاهما في أنفسهما - أن عليا قال لابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح [ ص: 284 ] المتعة ، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر قالوا : فاعتقد الراوي أن قوله : " خيبر " ظرف للمنهي عنهما ، وليس كذلك ، إنما هو ظرف للنهي عن لحوم الحمر ، فأما نكاح المتعة فلم يذكر له ظرفا ، وإنما جمعه معه ؛ لأن عليا ، رضي الله عنه ، بلغه أن ابن عباس أباح نكاح المتعة ، ولحوم الحمر الأهلية ، كما هو المشهور عنه ، فقال له أمير المؤمنين علي : إنك امرؤ تائه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر . فجمع له النهي ليرجع عما كان يعتقده في ذلك من الإباحة . وإلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي ، تغمده الله برحمته ، آمين . ومع هذا ما رجع ابن عباس عما كان يذهب إليه من إباحة الحمر والمتعة ، أما النهي عن الحمر فتأوله بأنها كانت حمولتهم ، وأما المتعة فإنما كان يبيحها عند الضرورة في الأسفار ، وحمل النهي على ذلك في حال الرفاهية والوجدان ، وقد تبعه على ذلك طائفة من أصحابه وأتباعهم ، ولم يزل ذلك مشهورا عن علماء الحجاز ، إلى زمن ابن جريج ، وبعده . وقد حكي عن الإمام أحمد بن حنبل رواية كمذهب ابن عباس ، وهي ضعيفة ، وحاول بعض من صنف في الخلاف نقل رواية عن الإمام أحمد بمثل ذلك ، ولا يصح أيضا . والله أعلم . وموضع تحرير ذلك في كتاب " الأحكام " وبالله المستعان . [ ص: 285 ]

قال ابن إسحاق : ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدنى الحصون والأموال ، فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدثه بعض من أسلم أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : والله يا رسول الله ، لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء . فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يعطيهم إياه ، فقال : " اللهم إنك قد عرفت حالهم ، وأن ليست بهم قوة ، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه ، فافتح عليهم أعظم حصونها عندهم ، وأكثرها طعاما وودكا " فغدا الناس ففتح عليهم حصن الصعب بن معاذ ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه .

قال ابن إسحاق : ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح ، وحاز من الأموال ما حاز ، انتهوا إلى حصنهم الوطيح ، والسلالم ، وكان آخر حصون خيبر افتتاحا ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة . قال ابن هشام : وكان شعارهم يوم خيبر يا منصور ، أمت أمت .

قال ابن إسحاق : وحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي ، عن بعض [ ص: 286 ] رجال بني سلمة ، عن أبي اليسر كعب بن عمرو قال : إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ذات عشية ، إذ أقبلت غنم لرجل من يهود ، تريد حصنهم ونحن محاصروهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رجل يطعمنا من هذه الغنم ؟ " . قال أبو اليسر : فقلت : أنا يا رسول الله . قال : " فافعل " . قال : فخرجت أشتد مثل الظليم ، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا قال : " اللهم أمتعنا به " . قال : فأدركت الغنم وقد دخلت أولها الحصن ، فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدي ، ثم جئت بهما أشتد كأنه ليس معي شيء ، حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحوهما فأكلوهما ، فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موتا ، وكان إذا حدث هذا الحديث بكى ، ثم قال : أمتعوا بي لعمري ، حتى كنت من آخرهم موتا .

وقال الحافظ البيهقي في " الدلائل " : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني ، حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي ، حدثنا سعدان بن نصر ، حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهدي ، أو عن أبي قلابة قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر قدم والثمرة خضرة ، قال : فأسرع الناس فيها ، فحموا ، فشكوا ذلك إليه ، فأمرهم أن يقرسوا الماء في الشنان ، ثم [ ص: 287 ] يحدروا عليهم بين أذاني الفجر ، ويذكروا اسم الله عليه ، ففعلوا ذلك فكأنما نشطوا من عقل . قال البيهقي : ورويناه عن عبد الرحمن بن رافع موصولا ، وعنه : بين صلاتي المغرب والعشاء .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى وبهز قالا : حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد بن هلال ، حدثنا عبد الله بن مغفل ، قال : دلي جراب من شحم يوم خيبر . قال : فالتزمته ، فقلت : لا أعطي أحدا منه شيئا . قال : فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم .

وقال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا شعبة ، عن حميد بن هلال ، عن عبد الله بن مغفل ، قال : كنا محاصرين قصر خيبر ، فألقي إلينا جراب فيه شحم ، فذهبت آخذه ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت . وقد أخرجه صاحبا " الصحيح " من حديث شعبة . ورواه مسلم أيضا عن شيبان بن فروخ ، عن سليمان بن المغيرة به نحوه . [ ص: 288 ]

وقال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم ، عن عبد الله بن مغفل المزني ، قال : أصبت من فيء خيبر جراب شحم . قال : فاحتملته على عنقي إلى رحلي وأصحابي . قال : فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها ، فأخذ بناحيته ، وقال : هلم هذا حتى نقسمه بين المسلمين قال : وقلت : لا والله لا أعطيكه . قال : وجعل يجاذبني الجراب . قال : فرآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصنع ذلك فتبسم ضاحكا ، ثم قال لصاحب المغانم : " لا أبا لك ، خل بينه وبينه " قال : فأرسله ، فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه . وقد استدل الجمهور بهذا الحديث على الإمام مالك في تحريمه شحوم ذبائح اليهود - ما كان حراما عليهم - على غيرهم من المسلمين ؛ لأن الله تعالى قال : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ( المائدة : 5 ) قال : لكم . قال : وليس هذا من طعامهم . فاستدلوا عليه بهذا الحديث ، وفيه نظر ، وقد يكون هذا الشحم مما كان حلالا لهم . والله أعلم . وقد استدلوا بهذا الحديث على أن الطعام لا يخمس .

ويعضد ذلك ما رواه الإمام أبو داود : حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن محمد بن أبي مجالد ، عن [ ص: 289 ] عبد الله بن أبي أوفى قال : قلت : هل كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أصبنا طعاما يوم خيبر ، فكان الرجل يجيء ، فيأخذ منه قدر ما يكفيه ، ثم ينصرف . تفرد به أبو داود ، وهو حسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية