صفحة جزء
[ ص: 439 ] فصل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم باستشهاد جعفر وصاحبيه

قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن أم عيسى الخزاعية ، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب ، عن جدتها أسماء بنت عميس قالت : لما أصيب جعفر وأصحابه ، دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد دبغت أربعين منا ، وعجنت عجيني ، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائتني ببني جعفر " . فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه ، فقلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، ما يبكيك ، أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء ؟ قال : " نعم ، أصيبوا هذا اليوم " قالت : فقمت أصيح ، واجتمع إلي النساء ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال : " لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما ، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث ابن إسحاق ، ورواه ابن ماجه من طريق محمد بن إسحاق ، ، وعن عبد الله بن أبي بكر ، عن أم عيسى ، عن أم عون بنت محمد بن جعفر ، عن أسماء ، فذكر الأمر بعمل الطعام . والصواب أنها أم [ ص: 440 ] جعفر وأم عون

وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، ثنا جعفر بن خالد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر قال : لما جاء نعي جعفر حين قتل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اصنعوا لآل جعفر طعاما ، فقد أتاهم أمر يشغلهم أو : أتاهم ما يشغلهم وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن جعفر بن خالد بن سارة المخزومي المكي ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر ، وقال الترمذي : حسن .

ثم قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما أتى نعي جعفر ، عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن . قالت : فدخل عليه رجل ، فقال : يا رسول الله ، إن النساء عنيننا وفتننا . قال : " ارجع إليهن فأسكتهن " قالت : فذهب ثم رجع ، فقال له مثل ذلك . قالت : وربما ضر التكلف . يعني أهله . قلت : قال : " فاذهب فأسكتهن ، فإن أبين فاحث في أفواههن التراب " . قالت : وقلت [ ص: 441 ] في نفسي : أبعدك الله ، فوالله ما تركت نفسك ، وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : وعرفت أنه لا يقدر على أن يحثي في أفواههن التراب انفرد به ابن إسحاق من هذا الوجه ، وليس في شيء من الكتب .

وقال البخاري : ثنا قتيبة ، ثنا عبد الوهاب ، سمعت يحيى بن سعيد قال : أخبرتني عمرة قالت : سمعت عائشة تقول : لما قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة ، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الحزن . قالت عائشة : وأنا أطلع من صائر الباب - شق - فأتاه رجل فقال : أي رسول الله ، إن نساء جعفر . وذكر بكاءهن ، فأمره أن ينهاهن . قالت : فذهب الرجل ، ثم أتى فقال : والله لقد غلبننا . فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فاحث في أفواههن من التراب " قالت عائشة ، رضي الله عنها : فقلت : أرغم الله أنفك ، فوالله ما أنت تفعل ، وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن عمرة ، عنها [ ص: 442 ] .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وهب بن جرير ، ثنا أبي ، سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدث عن الحسن بن سعد ، عن عبد الله بن جعفر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا ، استعمل عليهم زيد بن حارثة ، وقال : " إن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر ، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة " . فلقوا العدو ، فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل ، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل ، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل ، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه ، وأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن إخوانكم لقوا العدو ، وإن زيدا أخذ الراية فقاتل حتى قتل أو استشهد ، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد ، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد ، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ، خالد بن الوليد ، ففتح الله عليه " . قال : ثم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم ، ثم أتاهم فقال : " لا تبكوا على أخي بعد اليوم ، ادعوا لي ابني أخي " . قال : فجيء بنا كأننا أفرخ ، فقال : " ادعوا لي الحلاق " فجيء بالحلاق ، فحلق رءوسنا ، ثم قال : " أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب ، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي " ثم أخذ بيدي فأشالها وقال : " اللهم اخلف جعفرا في أهله ، بارك لعبد الله في صفقة يمينه " . قالها [ ص: 443 ] ثلاث مرات . قال : فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا ، وجعلت تفرح له ، فقال : " العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة ورواه أبو داود ببعضه ، والنسائي في السير بتمامه من حديث وهب بن جرير ، به وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام أرخص لهم في البكاء ثلاثة أيام ، ثم نهاهم عنه بعدها .

ولعله معنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، من حديث الحكم ، عن عبد الله بن شداد ، عن أسماء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها لما أصيب جعفر : " تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت تفرد به أحمد . فيحتمل أنه أذن لها في التسلب ، وهو المبالغة في البكاء وشق الثياب ، ويكون هذا من باب التخصيص لها بهذا ، لشدة حزنها على جعفر أبي أولادها ، وقد يحتمل أن يكون أمرا لها بالتسلب ، وهو المبالغة في الإحداد ثلاثة أيام ، ثم تصنع بعد ذلك ما شاءت ، مما يفعله المعتدات على أزواجهن ، من الإحداد المعتاد . والله أعلم . ويروى [ ص: 444 ] : " تسلي ثلاثا " . أي تصبري ثلاثا ، وهذا بخلاف الرواية الأخرى . والله أعلم .

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، ثنا محمد بن طلحة ، ثنا الحكم بن عتيبة ، عن عبد الله بن شداد ، عن أسماء بنت عميس قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر فقال : " لا تحدي بعد يومك هذا فإنه من أفراد أحمد أيضا ، وإسناده لا بأس به ، ولكنه مشكل إن حمل على ظاهره ، لأنه قد ثبت في " الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميتها أكثر من ثلاثة أيام ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا فإن كان ما رواه الإمام أحمد محفوظا ، فتكون مخصوصة بذلك ، أو هو أمر بالمبالغة في الإحداد هذه الثلاثة أيام كما تقدم . والله أعلم .

قلت : ورثت أسماء بنت عميس زوجها بقصيدة تقول فيها :


فآليت لا تنفك نفسي حزينة عليك ولا ينفك جلدي أغبرا     فلله عينا من رأى مثله فتى
أكر وأحمى في الهياج وأصبرا

ثم لم تنشب أن انقضت عدتها ، فخطبها أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، فتزوجها ، فأولم ، وجاء الناس للوليمة ، فكان فيهم علي بن أبي طالب [ ص: 445 ] ، فلما ذهب الناس استأذن علي أبا بكر ، رضي الله عنهما ، في أن يكلم أسماء من وراء الستر ، فأذن له ، فلما اقترب من الستر نفحه ريح طيبها ، فقال لها علي ، على وجه البسط : من القائلة في شعرها :


فآليت لا تنفك نفسي حزينة     عليك ولا ينفك جلدي أغبرا

قالت : دعنا منك يا أبا الحسن ، فإنك امرؤ فيك دعابة . فولدت للصديق محمد بن أبي بكر ، ولدته بالشجرة بين مكة والمدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى حجة الوداع ، فأمرها أن تغتسل وتهل ، وسيأتي في موضعه ، ثم لما توفي الصديق ، تزوجها بعده علي بن أبي طالب ، وولدت له أولادا ، رضي الله عنه وعنها وعنهم أجمعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية