صفحة جزء
[ ص: 5 ] باب ذكر أمم أهلكوا بعامة

وذلك قبل نزول التوراة ; بدليل قوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى [ القصص : 43 ] . الآية كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث عوف الأعرابي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء أو من الأرض ، بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض ، غير القرية التي مسخوا قردة ; ألم تر أن الله تعالى يقول ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ورفعه البزار في رواية له ، والأشبه ، والله أعلم ، وقفه ، فدل على أن كل أمة أهلكت بعامة ، قبل موسى عليه السلام .

فمنهم : أصحاب الرس ، قال الله تعالى ، في سورة " الفرقان " وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا [ الفرقان : 38 ، 39 ] . وقال تعالى ، في سورة " ق " كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد [ ق : 12 - 14 ] . [ ص: 6 ] وهذا السياق والذي قبله يدل على أنهم أهلكوا ، ودمروا ، وتبروا ، وهو الهلاك . وهذا يرد اختيار ابن جرير ; من أنهم أصحاب الأخدود ، الذين ذكروا في سورة " البروج " ; لأن أولئك عند ابن إسحاق وجماعة ، كانوا بعد المسيح ، عليه السلام . ، وفيه نظر أيضا . وروى ابن جرير قال : قال ابن عباس : أصحاب الرس أهل قرية من قرى ثمود .

وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في أول " تاريخه " ، عند ذكر بناء دمشق عن " تاريخ " أبي القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبة ، وغيره ، أن أصحاب الرس كانوا بحضور ، فبعث الله إليهم نبيا يقال له : حنظلة بن صفوان . فكذبوه وقتلوه ، فسار عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، بولده من الرس ، فنزل الأحقاف ، وأهلك الله أصحاب الرس ، وانتشروا في اليمن كلها ، وفشوا مع ذلك في الأرض كلها ، حتى نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح دمشق وبنى مدينتها ، وسماها جيرون وهي إرم ذات العماد ، وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق ، فبعث الله هود بن عبد الله بن رباح بن خالد بن الخلود بن [ ص: 7 ] عاد إلى عاد - يعني أولاد عاد - بالأحقاف ، فكذبوه ، وأهلكهم الله عز وجل . فهذا يقتضي أن أصحاب الرس قبل عاد بدهور متطاولة . فالله أعلم .

وروى ابن أبي حاتم ، عن أبي بكر بن أبي عاصم ، عن أبيه ، عن شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الرس بئر بأذربيجان . وقال الثوري ، عن أبي بكير ، عن عكرمة ، قال : الرس بئر رسوا فيها نبيهم . أي ; دفنوه فيها . وقال ابن جريج قال عكرمة : أصحاب الرس بفلج ، وهم أصحاب ياسين . وقال قتادة : فلج من قرى اليمامة . قلت : فإن كانوا أصحاب ياسين ، كما زعمه عكرمة ، فقد أهلكوا بعامة ، قال الله تعالى في قصتهم إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون [ يس : 29 ] . وستأتي قصتهم بعد هؤلاء . وإن كانوا غيرهم وهو الظاهر فقد أهلكوا أيضا وتبروا . وعلى كل تقدير فينافي ما ذكره ابن جرير

وقد ذكر أبو بكر محمد بن الحسن النقاش ، أن أصحاب الرس كانت لهم بئر ترويهم ، وتكفي أرضهم جميعها ، وكان لهم ملك عادل حسن السيرة ، فلما مات وجدوا عليه وجدا عظيما ، فلما كان بعد أيام تصور لهم الشيطان في صورته ، وقال : إني لم أمت ، ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم . ففرحوا أشد الفرح ، وأمر بضرب حجاب بينهم وبينه ، وأخبرهم أنه لا يموت أبدا ، [ ص: 8 ] فصدق به أكثرهم ، وافتتنوا به ، وعبدوه ، فبعث الله فيهم نبيا ، وأخبرهم أن هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب ، ونهاهم عن عبادته ، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له . قال السهيلي : وكان يوحى إليه في النوم ، وكان اسمه حنظلة بن صفوان ، فعدوا عليه فقتلوه ، وألقوه في البئر ، فغار ماؤها ، وعطشوا بعد ريهم ويبست أشجارهم ، وانقطعت ثمارهم ، وخربت ديارهم ، وتبدلوا بعد الأنس بالوحشة ، وبعد الاجتماع بالفرقة ، وهلكوا عن آخرهم ، وسكن في مساكنهم الجن والوحوش ، فلا يسمع ببقاعهم إلا عزيف الجن ، وزئير الأسد ، وصوت الضباع .

فأما ما رواه - أعني ابن جرير - عن محمد بن حميد ، عن سلمة ، عن ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود; وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى أهل قرية ، فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك الأسود ، ثم إن أهل القرية عدوا على النبي ، فحفروا له بئرا ، فألقوه فيها ، ثم أطبقوا عليه بحجر أصم قال : فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ، ويشتري به طعاما وشرابا ، ثم يأتي به إلى ذلك البئر ، فيرفع تلك الصخرة ، ويعينه الله عليها ، ويدلي إليه طعامه وشرابه ، ثم يردها كما كانت . قال : فكان كذلك ما شاء الله أن يكون ، ثم إنه ذهب يوما يحتطب ، كما كان يصنع ، فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها ، فلما أراد أن يحتملها ، وجد [ ص: 9 ] سنة ، فاضطجع ينام ، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ، ثم إنه هب ، فتمطى وتحول لشقه الآخر فاضطجع ، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى ، ثم إنه هب ، واحتمل حزمته ، ولا يحسب أنه نام إلا ساعة من نهار ، فجاء إلى القرية ، فباع حزمته ، ثم اشترى طعاما وشرابا ، كما كان يصنع ، ثم إنه ذهب إلى الحفرة ، إلى موضعها الذي كانت فيه ، فالتمسه فلم يجده ، وقد كان بدا لقومه فيه بداء ، فاستخرجوه ، وآمنوا به وصدقوه . قال : فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود : ما فعل؟ فيقولون له : ما ندري . حتى قبض الله النبي ، عليه السلام ، وأهب الأسود من نومه بعد ذلك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة فإنه حديث مرسل ، ومثله فيه نظر ، ولعل بسط قصته من كلام محمد بن كعب القرظي . والله أعلم ، ثم قد رده ابن جرير نفسه ، وقال : لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس المذكورون في القرآن . قال : لأن الله أخبر عن أصحاب الرس أنه أهلكهم ، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم ، اللهم إلا أن يكون حدثت لهم أحداث ، آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم . والله أعلم . ثم اختار أنهم أصحاب الأخدود ، وهو ضعيف; لما تقدم ولما ذكر في قصة أصحاب الأخدود ، حيث توعدوا بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا ، ولم يذكر هلاكهم ، وقد صرح بهلاك أصحاب الرس . فالله أعلم .

[ ص: 10 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية