صفحة جزء
[ ص: 27 ] باب ما ورد في خلق السماوات والأرض وما بينهما

قال الله تعالى : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ الأنعام : 1 ] . وقال تعالى : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام [ الأعراف : 54 ] . في غير ما آية من القرآن . وقد اختلف المفسرون في مقدار هذه الستة الأيام على قولين : فالجمهور على أنها كأيامنا هذه . وعن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وكعب الأحبار : أن كل يوم منها كألف سنة مما تعدون . رواهن ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، واختار هذا القول الإمام أحمد بن حنبل في كتابه الذي رد فيه على الجهمية ، واختاره ابن جرير ، وطائفة من المتأخرين ، والله أعلم . وسيأتي ما يدل على هذا القول . وروى ابن جرير ، عن الضحاك بن مزاحم ، وغيره أن أسماء الأيام الستة : أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ، وحكى ابن جرير في أول الأيام ثلاثة أقوال : فروى عن محمد بن إسحاق أنه قال : يقول أهل التوراة ابتدأ الله الخلق يوم الأحد . ويقول أهل الإنجيل : ابتدأ الله الخلق [ ص: 28 ] يوم الاثنين . ونقول نحن المسلمون فيما انتهى إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ الله الخلق يوم السبت . وهذا القول الذي حكاه ابن إسحاق عن المسلمين مال إليه طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم . وسيأتي فيه حديث أبي هريرة خلق الله التربة يوم السبت . والقول بأنه الأحد رواه ابن جرير ، عن السدي ، عن أبي مالك ، وأبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن جماعة من الصحابة . ورواه أيضا عن عبد الله بن سلام ، واختاره ابن جرير . وهو نص التوراة ، ومال إليه طائفة آخرون من الفقهاء ، وهو أشبه بلفظ الأحد ، ولهذا كمل الخلق في ستة أيام فكان آخرهن الجمعة ; فاتخذه المسلمون عيدهم في الأسبوع ، وهو اليوم الذي أضل الله عنه أهل الكتاب قبلنا ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله . وقال تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم [ البقرة : 29 ] . وقال تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم [ فصلت : 9 - 12 ] . [ ص: 29 ] فهذا يدل على أن الأرض خلقت قبل السماء لأنها كالأساس للبناء كما قال تعالى : الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين [ غافر : 64 ] . وقال تعالى : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا . إلى أن قال : وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا [ النبأ : 6 - 13 ] . وقال : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون [ الأنبياء : 30 ] . أي فصلنا ما بين السماء والأرض حتى هبت الرياح ، ونزلت الأمطار ، وجرت العيون والأنهار ، وانتعش الحيوان . ثم قال : وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون [ الأنبياء : 32 ] . أي عما خلق فيها من الكواكب الثوابت والسيارات ، والنجوم الزاهرات ، والأجرام النيرات ، وما في ذلك من الدلالات على حكمة خالق الأرض والسماوات ، كما قال تعالى : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ يوسف : 105 ، 106 ] . فأما قوله تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ النازعات : 27 - 32 ] . [ ص: 30 ] فقد تمسك بعض الناس بهذه الآية على تقدم خلق السماء على خلق الأرض ، فخالفوا صريح الآيتين المتقدمتين ، ولم يفهموا هذه الآية الكريمة . فإن مقتضى هذه الآية أن دحي الأرض وإخراج الماء والمرعى منها بالفعل بعد خلق السماء ، وقد كان ذلك مقدرا فيها بالقوة كما قال تعالى : وبارك فيها وقدر فيها أقواتها [ فصلت : 10 ] . أي هيأ أماكن الزرع ومواضع العيون والأنهار ، ثم لما أكمل خلق صورة العالم السفلي والعلوي دحى الأرض ، فأخرج منها ما كان مودعا فيها فخرجت العيون ، وجرت الأنهار ، ونبت الزرع والثمار ; ولهذا فسر الدحى بإخراج الماء والمرعى منها وإرساء الجبال ، فقال : والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها . وقوله والجبال أرساها . أي قررها في أماكنها التي وضعها فيها وثبتها وأكدها وأطدها . وقوله والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون [ الذاريات : 47 - 49 ] . بأيد أي بقوة ، وإنا لموسعون ; وذلك أن كل ما علا اتسع فكل سماء أعلى من التي تحتها فهي أوسع منها ; ولهذا كان الكرسي أعلى من السماوات ، وهو أوسع منهن كلهن . والعرش أعظم من ذلك كله بكثير . وقوله بعد هذا والأرض فرشناها . أي بسطناها وجعلناها مهدا أي قارة ساكنة غير مضطربة ولا مائدة بكم ، ولهذا قال : فنعم الماهدون . والواو لا تقتضي الترتيب في الوقوع ، وإنما يقتضي الإخبار المطلق في اللغة ، والله أعلم .

[ ص: 31 ] وقال البخاري : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا جامع بن شداد ، عن صفوان بن محرز أنه حدثه عن عمران بن حصين قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعقلت ناقتي بالباب ، فأتاه ناس من بني تميم ، فقال : " اقبلوا البشرى يا بني تميم " قالوا : قد بشرتنا فأعطنا مرتين ، ثم دخل عليه ناس من اليمن فقال : " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم " قالوا : قد قبلنا يا رسول الله ، قالوا : جئناك نسألك عن هذا الأمر قال : " كان الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السماوات والأرض " فنادى مناد : ذهبت ناقتك يا ابن الحصين . فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب ، فوالله لوددت أني كنت تركتها . هكذا رواه هاهنا ، وقد رواه في كتاب المغازي وكتاب التوحيد ، وفي بعض ألفاظه ثم خلق السماوات والأرض . وهو لفظ النسائي أيضا .

وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا حجاج حدثني ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم [ ص: 32 ] سلمة ، عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل . وهكذا رواه مسلم عن سريج بن يونس ، وهارون بن عبد الله ، والنسائي ، عن هارون ، ويوسف بن سعيد ، ثلاثتهم عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور ، عن ابن جريج به مثله سواء ، وقد رواه النسائي في التفسير ، عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، عن محمد بن الصباح ، عن أبي عبيدة الحداد ، عن الأخضر بن عجلان ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال : يا أبا هريرة إن الله خلق السماوات والأرضين ، وما بينهما في ستة أيام ، ثم استوى على العرش يوم السابع ، وخلق التربة يوم السبت . وذكر تمامه بنحوه فقد اختلف فيه على ابن جريج ، وقد تكلم في هذا الحديث علي بن المديني ، والبخاري ، والبيهقي ، وغيرهم من الحفاظ قال البخاري في التاريخ ، وقال [ ص: 33 ] بعضهم عن كعب ، وهو أصح يعني أن هذا الحديث مما سمعه أبو هريرة وتلقاه من كعب الأحبار فإنهما كانا يصطحبان ويتجالسان للحديث فهذا يحدثه عن صحفه ، وهذا يحدثه بما يصدقه عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة ، عن كعب ، عن صحفه فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكد رفعه بقوله : " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي " . ثم في متنه غرابة شديدة فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات ، وفيه ذكر خلق الأرض ، وما فيها في سبعة أيام ، وهذا خلاف القرآن ; لأن الأرض خلقت في أربعة أيام ، ثم خلقت السماوات في يومين من دخان ، وهو بخار الماء الذي ارتفع حين اضطرب الماء العظيم الذي خلق من زبده الأرض بالقدرة العظيمة البالغة ، كما قال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود .

وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات [ البقرة : 29 ] . قالوا : إن الله كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين : الأحد والاثنين وخلق الأرض على حوت وهو النون الذي [ ص: 34 ] قال الله تعالى : ن والقلم وما يسطرون [ القلم : 1 ] . والحوت في الماء ، والماء على صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ; وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت . وخلق الله يوم الثلاثاء الجبال وما فيهن من المنافع ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب ، وفتق السماء وكانت رتقا فجعلها سبع سماوات في يومين : الخميس والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة ; لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، وأوحى في كل سماء أمرها ، ثم قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والبحار وجبال البرد ، وما لا يعلمه غيره ، ثم زين السماء بالكواكب فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين ، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش . وهذا الإسناد يذكر به السدي أشياء كثيرة فيها غرابة ، وكان كثير منها متلقى من الإسرائيليات فإن كعب الأحبار لما أسلم في زمن عمر كان يتحدث بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأشياء من علوم أهل الكتاب ، فيستمع له عمر تأليفا له وتعجبا مما عنده مما يوافق كثير منه الحق الذي ورد به الشرع [ ص: 35 ] المطهر ، فاستجاز كثير من الناس نقل ما يورده كعب الأحبار ; لهذا المعنى ، ولما جاء من الإذن في التحديث عن بني إسرائيل لكن كثيرا ما يقع فيما يرويه غلط .

وقد روى البخاري في صحيحه عن معاوية بن أبي سفيان ، أنه كان يقول في كعب الأحبار : وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب أي فيما ينقله لا أنه يتعمد ذلك ، والله أعلم .

ونحن نورد ما نورده من الذي يسوقه كثير من كبار الأئمة المتقدمين عنهم ، ثم نتبع ذلك من الأحاديث بما يشهد له بالصحة أو يكذبه ، ويبقى الباقي مما لا يصدق ولا يكذب ، وبالله المستعان وعليه التكلان .

قال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي ، عن أبي زناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي . وكذا رواه مسلم ، والنسائي ، عن قتيبة به .

[ ص: 36 ] ثم قال البخاري : باب ما جاء في سبع أرضين ، وقوله تعالى : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ الطلاق : 12 ] . ثم قال : حدثنا علي بن عبد الله ، أخبرنا ابن علية ، عن علي بن المبارك ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وكانت بينه وبين ناس خصومة في أرض ، فدخل على عائشة فذكر لها ذلك فقالت : يا أبا سلمة اجتنب الأرض فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين . ورواه أيضا في كتاب المظالم ، ومسلم من طرق عن يحيى بن أبي كثير به . ورواه أحمد من حديث محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة به . ورواه أحمد أيضا عن يونس ، عن أبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عائشة بمثله .

ثم قال البخاري : حدثنا بشر بن محمد قال : أخبرنا عبد الله ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئا من الأرض بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين . ورواه في المظالم أيضا عن مسلم بن إبراهيم ، عن عبد الله هو ابن المبارك ، عن موسى بن عقبة به . وهو من أفراده .

[ ص: 37 ] وذكر البخاري هاهنا حديث محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا . الحديث . ومراده - والله أعلم - تقرير قوله تعالى : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن [ الطلاق : 12 ] . أي في العدد كما أن عدة الشهور الآن اثنا عشر مطابقة لعدة الشهور عند الله في كتابه الأول فهذه مطابقة في الزمن كما أن تلك مطابقة في المكان .

ثم قال البخاري : حدثنا عبيد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : أنه خاصمته أروى في حق زعمت أنه انتقصه لها إلى مروان فقال : سعيد رضي الله عنه أنا أنتقص من حقها شيئا! أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، وأبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا [ ص: 38 ] عبد الله بن لهيعة ، حدثنا عبيد الله بن أبي جعفر ، عن أبي عبد الرحمن ، عن ابن مسعود قال : قلت : يا رسول الله أي الظلم أعظم ؟ قال : ذراع من الأرض ينتقصه المرء المسلم من حق أخيه فليس حصاة من الأرض يأخذها أحد إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الأرض ، ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها . تفرد به أحمد ، وهذا إسناد لا بأس به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه طوقه من سبع أرضين . تفرد به من هذا الوجه ، وهو على شرط مسلم . وقال أحمد : حدثنا يحيى ، عن ابن عجلان ، حدثني أبي ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من اقتطع شبرا من الأرض بغير حقه طوقه إلى سبع أرضين . تفرد به أيضا ، وهو على شرط مسلم .

وقال أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن [ ص: 39 ] أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أخذ من الأرض شبرا بغير حقه طوقه من سبع أرضين . تفرد به أيضا . وقد رواه الطبراني من حديث معاوية بن قرة ، عن ابن عباس مرفوعا مثله .

فهذه الأحاديث كالمتواترة في إثبات سبع أرضين ، والمراد بذلك أن كل واحدة فوق الأخرى ، والتي تحتها في وسطها عند أهل الهيئة حتى ينتهي الأمر إلى السابعة ، وهي صماء لا جوف لها ، وفي وسطها المركز ، وهو نقطة مقدرة متوهمة ، وهو محط الأثقال إليه ينتهي ما يهبط من كل جانب إذا لم يعاوقه مانع ، واختلفوا هل هن متراكمات بلا تفاصل أو بين كل واحدة والتي تليها خلاء ؟ على قولين . وهذا الخلاف جار في الأفلاك أيضا . والظاهر أن بين كل واحدة منهن وبين الأخرى مسافة لظاهر قوله تعالى : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن [ الطلاق : 12 ] . الآية .

وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج ، حدثنا الحكم بن عبد الملك ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي هريرة قال : بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت سحابة ، فقال : أتدرون ما هذه ؟ قلنا : الله [ ص: 40 ] ورسوله أعلم . قال : العنان وزوايا الأرض ، يسوقه الله إلى من لا يشكرونه من عباده ولا يدعونه . أتدرون ما هذه فوقكم ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : الرقيع موج مكفوف وسقف محفوظ . أتدرون كم بينكم وبينها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : مسيرة خمسمائة سنة ، ثم قال : أتدرون ما الذي فوقها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : مسيرة خمسمائة عام . حتى عد سبع سماوات . ثم قال : أتدرون ما فوق ذلك ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : العرش . أتدرون كم بينه وبين السماء السابعة ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : مسيرة خمسمائة عام ، ثم قال : أتدرون ما هذه تحتكم ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : أرض . أتدرون ما تحتها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : أرض أخرى أتدرون كم بينهما ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : مسيرة سبعمائة عام . حتى عد سبع أرضين . ثم قال : وايم الله لو دليتم أحدكم إلى الأرض [ ص: 41 ] السفلى السابعة لهبط ، ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم [ الحديد : 3 ] . . ورواه الترمذي ، عن عبد بن حميد وغير واحد ، عن يونس بن محمد المؤدب ، عن شيبان بن عبد الرحمن ، عن قتادة ، قال : حدث الحسن عن أبي هريرة . وذكره ، إلا أنه ذكر أن بعد ما بين كل أرضين خمسمائة عام ، وذكر في آخره كلمة ذكرناها عند تفسير هذه الآية من سورة الحديد ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه . قال : ويروى عن أيوب ، ويونس بن عبيد ، وعلي بن زيد أنهم قالوا : لم يسمع الحسن من أبي هريرة . ورواه أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره من حديث أبي جعفر الرازي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، فذكر مثل لفظ الترمذي سواء بدون الزيادة في آخره . ورواه ابن جرير في تفسيره عن بشر ، عن يزيد ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة مرسلا ، وقد يكون هذا أشبه ، والله أعلم .

ورواه الحافظان أبو بكر البزار ، [ ص: 42 ] والبيهقي من حديث أبي ذر الغفاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، ولكن لا يصح إسناده ، والله أعلم .

وقد تقدم عند صفة العرش من حديث الأوعال ما يخالف هذا في ارتفاع العرش عن السماء السابعة ، وما يشهد له . وفيه : " وبعد ما بين كل سماءين خمسمائة عام ، وكثفها أي سمكها خمسمائة عام " .

وأما ما ذهب إليه بعض المتكلمين على حديث " طوقه من سبع أرضين " أنها سبعة أقاليم ; فهو قول يخالف ظاهر الآية والحديث الصحيح ، وصريح كثير من ألفاظه مع ما ذكرنا من الحديث الذي أوردناه من طريق الحسن عن أبي هريرة . ثم إنه حمل الحديث والآية على خلاف ظاهرهما بلا مستند ولا دليل ، والله أعلم .

وهكذا ما يذكره كثير من أهل الكتاب ، وتلقاه عنهم طائفة من علمائنا من أن هذه الأرض من تراب ، والتي تحتها من حديد ، والأخرى من حجارة من كبريت ، والأخرى من كذا . فكل هذا إذا لم يخبر به ويصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله . وهكذا الأثر المروي عن ابن عباس أنه قال : في كل أرض من الخلق مثل ما في هذه الأرض حتى آدم كآدمكم ، وإبراهيم [ ص: 43 ] كإبراهيمكم . فهذا ذكره ابن جرير مختصرا ، واستقصاه البيهقي في الأسماء والصفات ، وهو محمول إن صح نقله عنه على أن ابن عباس رضي الله عنه أخذه عن الإسرائيليات ، والله أعلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا العوام بن حوشب ، عن سليمان بن أبي سليمان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما خلق الله الأرض جعلت تميد ، فخلق الجبال فألقاها عليها ; فاستقرت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال ، فقالت : يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال : نعم ; الحديد . قالت : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال : نعم ; النار . قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قال : نعم ; الماء . قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال : نعم ; الريح . قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال : نعم ; ابن آدم ، يتصدق بيمينه يخفيها من شماله . تفرد بإخراجه أحمد .

وقد ذكر أصحاب الهيئة أعداد جبال الأرض في سائر بقاعها ، شرقا [ ص: 44 ] وغربا ، وذكروا أطوالها ، وبعد امتدادها ، وارتفاعها ، وأوسعوا القول في ذلك بما يطول شرحه هنا ، وقد قال الله تعالى : ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود [ فاطر : 27 ] . قال ابن عباس وغير واحد : الجدد ; الطرائق . وقال عكرمة وغيره : الغرابيب الجبال الطوال السود ، وهذا هو المشاهد من الجبال في سائر الأرض تختلف باختلاف بقاعها وألوانها . وقد ذكر الله تعالى في كتابه الجودي على التعيين ; وهو جبل عظيم شرقي جزيرة ابن عمر إلى جانب دجلة عند الموصل امتداده من الجنوب إلى الشمال مسيرة ثلاثة أيام ، وارتفاعه مسيرة نصف يوم ، وهو أخضر ; لأن فيه شجرا من البلوط ، وإلى جانبه قرية يقال لها قرية الثمانين ; لسكنى الذين نجوا في السفينة مع نوح عليه السلام في موضعها فما ذكره غير واحد من المفسرين ، والله أعلم . وذكر تعالى طور سيناء .

وقد ذكر الحافظ البهاء ابن عساكر في كتابه " المستقصى في فضائل المسجد الأقصى " في ترجمة الجبال المقدسة من طريق عمرو بن بكر ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن أبي هريرة قال : أقسم ربنا عز وجل بأربعة أجبل فقال : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين [ التين : 1 - 3 ] . فالتين طور ربنا مسجد بيت المقدس ، والزيتون [ ص: 45 ] طور ربنا وطور سينين وهذا البلد الأمين . جبل مكة . وقال قتادة : التين جبل عليه دمشق ، والزيتون جبل عليه بيت المقدس . وروى الحافظ ابن عساكر ، عن كعب الأحبار أنه قال : أربعة أجبل يوم القيامة جبل الخليل ، ولبنان ، والطور ، والجودي يكون كل واحد منهن يوم القيامة لؤلؤة بيضاء تضيء ما بين السماء والأرض يرجعن إلى بيت المقدس حتى تجعل في زواياه نورا ، ويضع عليها كرسيه حتى يقضي بين أهل الجنة والنار .

وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين
[ الزمر : 75 ] . ومن طريق الوليد بن مسلم ثنا عثمان بن أبي عاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم أبي عبد الرحمن قال : أوحى الله إلى جبل قاسيون أن هب ظلك وبركتك لجبل بيت المقدس . قال : ففعل . فأوحى الله تعالى إليه : أما إذ فعلت فإني سأبني لي في حضنك بيتا قال عبد الرحمن : قال الوليد : في حضنك : أي في وسطه ، وهو هذا المسجد يعني مسجد دمشق أعبد فيه بعد خراب الدنيا أربعين عاما ، ولا تذهب الأيام والليالي حتى أرد عليك ظلك وبركتك . قال : فهو عند الله بمنزلة المؤمن الضعيف المتضرع . وعن خليل بن [ ص: 46 ] دعلج : أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أتت طرف بيت المقدس فصلت فيه ، وصعدت إلى طور ربنا فصلت فيه ، وباتت على طرف الجبل فقالت : من هاهنا يتفرق الناس يوم القيامة إلى الجنة وإلى النار .

التالي السابق


الخدمات العلمية