صفحة جزء
ذكر من قال أنه صلى الله عليه وسلم حج متمتعا

قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، ثنا ليث ، حدثنا عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى ، فساق الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي من ذي [ ص: 448 ] الحليفة ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس : " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ، وليقصر وليحلل ، ثم ليهل بالحج وليهد ، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله " . وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة ، استلم الركن أول شيء ، ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ، ومشى أربعة أطواف ، ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ، ثم سلم ، فانصرف ، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة ، ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ، ونحر هديه يوم النحر ، وأفاض فطاف بالبيت ، ثم حل من كل شيء حرم منه ، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى فساق الهدي من الناس

قال الإمام أحمد : وحدثنا حجاج ، ثنا ليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير ، أن عائشة أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج ، وتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم بن عبد الله ، عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد روى هذا الحديث البخاري ، عن يحيى بن بكير ، ومسلم وأبو داود عن عبد الملك بن شعيب ، عن الليث ، عن أبيه ، والنسائي عن محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي ، عن حجين بن المثنى ، ثلاثتهم عن الليث بن سعد عن عقيل ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه [ ص: 449 ] به . وأخرجاه صاحبا " الصحيح " من طريق الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة كما ذكره الإمام أحمد ، رحمه الله .

وهذا الحديث من المشكلات على كل من الأقوال الثلاثة ; أما قول الإفراد ففي هذا إثبات عمرة إما قبل الحج أو معه ، وأما على قول التمتع الخاص فلأنه ذكر أنه لم يحل من إحرامه بعدما طاف بالصفا والمروة ، وليس هذا شأن المتمتع ، ومن زعم أنه إنما منعه من التحلل سوق الهدي كما قد يفهم من حديث ابن عمر عن حفصة أنها قالت : يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال : " إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر " . فقولهم بعيد ; لأن الأحاديث الواردة في إثبات القران ترد هذا القول وتأبى كونه ، عليه الصلاة والسلام ، إنما أهل أولا بعمرة ، ثم بعد سعيه بالصفا والمروة أهل بالحج ، فإن هذا على هذه الصفة لم ينقله أحد بإسناد صحيح ، بل ولا حسن ولا ضعيف . وقوله في هذا الحديث : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج . إن أريد بذلك التمتع الخاص ، وهو الذي يحل منه بعد السعي ، فليس كذلك ، فإن في سياق الحديث ما يرده ، ثم في إثبات العمرة المقارنة لحجه ، عليه الصلاة والسلام ، ما يأباه ، وإن أريد به التمتع العام دخل فيه القران ، وهو المراد . وقوله : وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج . إن أريد به بدأ بلفظ العمرة على لفظ الحج بأن قال : " لبيك اللهم عمرة وحجا " . فهذا سهل ولا ينافي القران ، وإن أريد به أنه أهل [ ص: 450 ] بالعمرة أولا ، ثم أدخل عليها الحج بتراخ ، ولكن قبل الطواف ، قد صار قارنا أيضا ، وإن أريد به أنه أهل بالعمرة ، ثم فرغ من أفعالها تحلل أو لم يتحلل بسوق الهدي - كما زعمه زاعمون - ولكنه أهل بحج بعد قضاء مناسك العمرة وقبل خروجه إلى منى ، فهذا لم ينقله أحد من الصحابة كما قدمنا ، ومن ادعاه من الناس فقوله مردود ; لعدم نقله ، ومخالفته الأحاديث الواردة في إثبات القران كما سيأتي ، بل والأحاديث الواردة في الإفراد كما سبق . والله أعلم . والظاهر ، والله أعلم ، أن حديث الليث هذا عن عقيل ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر مروي من الطريق الأخرى عن ابن عمر حين أراد الحج زمن محاصرة الحجاج لابن الزبير فقيل له : إن الناس كائن بينهم شيء ، فلو أخرت الحج عامك هذا ؟ فقال : إذن أفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم . يعني زمن حصر عام الحديبية . فأحرم بعمرة من ذي الحليفة ، ثم لما علا شرف البيداء قال : ما أرى أمرهما إلا واحدا . فأهل بحج معها ، فاعتقد الراوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا فعل سواء ; بدأ فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، فرووه كذلك ، وفيه نظر ; لما سنبينه .

وبيان هذا في الحديث الذي رواه عبد الله بن وهب : أخبرني مالك بن أنس وغيره ، أن نافعا حدثهم أن عبد الله بن عمر خرج في الفتنة معتمرا وقال : إن صددت عن البيت صنعنا كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فخرج فأهل بالعمرة ، وسار حتى إذا ظهر على ظاهر البيداء التفت إلى أصحابه فقال : ما أمرهما إلا [ ص: 451 ] واحد ، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة . فخرج حتى جاء البيت ، فطاف به وطاف بين الصفا والمروة سبعا لم يزد عليه ، ورأى أن ذلك مجزئ عنه وأهدى . وقد أخرجه صاحبا " الصحيح " من حديث مالك ، وأخرجاه من حديث عبيد الله ، عن نافع به . ورواه عبد الرزاق ، عن عبيد الله ، وعبد العزيز بن أبي رواد عن نافع به نحوه ، وفيه : ثم قال في آخره : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفيما رواه البخاري حيث قال : حدثنا قتيبة ، ثنا ليث ، عن نافع أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير ، فقيل له : إن الناس كائن بينهم قتال ، وإنا نخاف أن يصدوك . قال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة . ( الأحزاب : 21 ) ، إذا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة . ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال : ما شأن الحج والعمرة إلا واحد ، أشهدكم أني أوجبت حجا مع عمرتي . فأهدى هديا اشتراه بقديد ، ولم يزد على ذلك ، ولم ينحر ولم يحل من شيء حرم منه ، ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول . وقال ابن عمر : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، ثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن [ ص: 452 ] نافع أن ابن عمر دخل ابنه عبد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال : إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال فيصدوك عن البيت فلو أقمت . قال : قد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فإن يحل بيني وبينه ، أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " . إني أشهدكم أني قد أوجبت مع عمرتي حجا . ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا . وهكذا رواه البخاري ، عن أبي النعمان ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني ، عن نافع به . ورواه مسلم من حديثهما عن أيوب به . فقد اقتدى ابن عمر ، رضي الله عنه ، برسول الله صلى الله عليه وسلم ، في التحلل عند حصر العدو ، والاكتفاء بطواف واحد عن الحج والعمرة ; وذلك لأنه كان قد أحرم أولا بعمرة ليكون متمتعا ، فخشي أن يكون حصر فجمعهما ، وأدخل الحج على العمرة قبل الطواف ، فصار قارنا ، وقال : ما أرى أمرهما إلا واحدا . يعني لا فرق بين أن يحصر الإنسان عن الحج أو العمرة أو عنهما . فلما قدم مكة اكتفى عنهما بطوافه الأول ، كما صرح به في السياق الأول الذي أوردناه ، وهو قوله : ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول . قال ابن عمر : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . يعني أنه اكتفى عن الحج والعمرة بطواف واحد . يعني بين الصفا والمروة . وفي هذا دلالة على أن ابن عمر روى القران ; ولهذا روى النسائي ، عن محمد بن منصور ، عن سفيان بن [ ص: 453 ] عيينة ، عن أيوب بن موسى ، عن نافع ، أن ابن عمر قرن الحج والعمرة فطاف طوافا واحدا .

ثم رواه النسائي ، عن علي بن ميمون الرقي ، عن سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أمية ، وأيوب بن موسى ، وأيوب السختياني ، وعبيد الله بن عمر ، أربعتهم عن نافع ، أن ابن عمر أتى ذا الحليفة فأهل بعمرة ، فخشي أن يصد عن البيت . فذكر تمام الحديث من إدخاله الحج على العمرة وصيرورته قارنا .

والمقصود أن بعض الرواة لما سمع قول ابن عمر : إذا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . اعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج فأدخله عليها قبل الطواف ، فرواه بمعنى ما فهم ، ولم يرد ابن عمر ذلك وإنما أراد ما ذكرناه . والله أعلم بالصواب . ثم بتقدير أن يكون أهل بالعمرة ، أولا ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف ، فإنه يصير قارنا لا متمتعا التمتع الخاص ، فيكون فيه دلالة لمن ذهب إلى أفضلية التمتع . والله تعالى أعلم .

وأما الحديث الذي رواه البخاري في " صحيحه " حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا همام ، عن قتادة ، حدثني مطرف ، عن عمران قال : تمتعنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن ، قال رجل برأيه ما شاء فقد رواه مسلم ، عن محمد بن المثنى ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن همام ، عن [ ص: 454 ] قتادة به . والمراد به المتعة التي أعم من القران والتمتع الخاص .

ويدل على ذلك ما رواه مسلم من حديث شعبة وسعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن مطرف ، عن عبد الله بن الشخير ، عن عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة . وذكر تمام الحديث .

وأكثر السلف يطلقون المتعة على القران ، كما قال البخاري : حدثنا قتيبة ، ثنا حجاج بن محمد الأعور ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن المسيب قال : اختلف علي وعثمان ، رضي الله عنهما ، وهما بعسفان في المتعة ، فقال علي : ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى ذلك علي بن أبي طالب أهل بهما جميعا . ورواه مسلم من حديث شعبة .

وأخرجه البخاري من حديث شعبة أيضا ، عن الحكم بن عيينة ، عن علي بن الحسين عن مروان بن الحكم عنهما به . وقال علي : ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد .

ورواه مسلم من حديث شعبة أيضا ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق عنهما ، فقال له علي : ولقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : أجل ، ولكنا كنا خائفين .

[ ص: 455 ] وأما الحديث الذي رواه مسلم من حديث غندر ، عن شعبة ، وعن عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن شعبة ، عن مسلم بن مخراق القري سمع ابن عباس يقول : أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمرة ، وأهل أصحابه بحج ، فلم يحل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من ساق الهدي من أصحابه ، وحل بقيتهم . فقد رواه أبو داود الطيالسي في " مسنده " وروح بن عبادة ، عن شعبة ، عن مسلم القري ، عن ابن عباس قال : أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج - وفي رواية أبي داود : أهل رسول الله وأصحابه بالحج - فمن كان منهم لم يكن له متعة هدي حل ، ومن كان معه هدي لم يحل . . . الحديث . فإن صححنا الروايتين جاء القران ، وإن توقفنا في كل منهما وقف الدليل ، وإن رجحنا رواية مسلم في " صحيحه " في رواية العمرة فقد تقدم عن ابن عباس أنه روى الإفراد ، وهو الإحرام بالحج ، فتكون هذه زيادة على الحج ، فيجيء القول بالقران لا سيما وسيأتي عن ابن عباس ما يدل على ذلك .

وروى مسلم من حديث غندر ومعاذ بن معاذ ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أن رسول الله قال هذه عمرة استمتعنا بها ، فمن لم يكن معه هدي فليحل الحل كله فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة .

[ ص: 456 ] وروى البخاري ، عن آدم بن أبي إياس ، ومسلم من حديث غندر ، كلاهما عن شعبة ، عن أبي جمرة قال : تمتعت فنهاني ناس ، فسألت ابن عباس فأمرني بها ، فرأيت في المنام كأن رجلا يقول : حج مبرور ومتعة متقبلة . فأخبرت ابن عباس فقال : الله أكبر سنة أبي القاسم صلوات الله وسلامه عليه . والمراد بالمتعة هاهنا القران .

وقال القعنبي وغيره عن مالك بن أنس عن ابن شهاب ، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، أنه حدثه أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال الضحاك : لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله . فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي . فقال الضحاك : فإن عمر بن الخطاب كان ينهى عنها . فقال سعد : قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه . ورواه الترمذي والنسائي ، عن قتيبة ، عن مالك ، وقال الترمذي : صحيح .

وقال عبد الرزاق ، عن معتمر بن سليمان ، وعبد الله بن المبارك ، كلاهما عن سليمان التيمي ، حدثني غنيم بن قيس ، سألت سعد بن أبي وقاص عن التمتع بالعمرة إلى الحج قال : فعلتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يومئذ كافر في العرش . يعني مكة ويعني به معاوية .

[ ص: 457 ] ورواه مسلم من حديث شعبة ، وسفيان الثوري ، ويحيى بن سعيد ، ومروان الفزاري ، أربعتهم عن سليمان التيمي ، سمعت غنيم بن قيس ، سألت سعدا عن المتعة فقال : قد فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش . وفي رواية يحيى بن سعيد : يعني معاوية . وهذا كله من باب إطلاق التمتع على ما هو أعم من التمتع الخاص ، وهو الإحرام بالعمرة والفراغ منها ، ثم الإحرام بالحج ، ومن القران ، بل كلام سعد فيه دلالة على إطلاق التمتع على الاعتمار في أشهر الحج ، وذلك أنهم اعتمروا ومعاوية بعد كافر بمكة قبل الحج ، إما عمرة الحديبية أو عمرة القضاء ، وهو الأشبه ، فأما عمرة الجعرانة فقد كان معاوية أسلم مع أبيه ليلة الفتح ، وروينا أنه قصر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص في بعض عمره ، وهي عمرة الجعرانة لا محالة . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية