صفحة جزء
[ ص: 538 ] ذكر طوافه صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة

روى مسلم في " صحيحه " عن جابر في حديثه الطويل المتقدم ، بعد ذكره طوافه ، عليه الصلاة والسلام ، بالبيت سبعا وصلاته عند المقام ركعتين قال : ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " أبدأ بما بدأ الله به " . فبدأ بالصفا ، فرقي عليه حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحد الله وكبره ، وقال : " لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده " . ثم دعا بين ذلك ، فقال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل ، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة ، فرقي عليها ، حتى نظر إلى البيت ، فقال عليها كما قال على الصفا .

وقال الإمام أحمد : ثنا عمر بن هارون البلخي أبو حفص ، ثنا ابن جريج عن بعض بني يعلى بن أمية عن أبيه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعا بين الصفا والمروة ببرد له نجراني .

وقال الإمام أحمد : ثنا يونس ، ثنا عبد الله بن المؤمل ، عن عمر بن [ ص: 539 ] عبد الرحمن ، ثنا عطاء ، عن صفية بنت شيبة ، عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت : دخلت دار أبي حسين في نسوة من قريش ، والنبي صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة . قالت : وهو يسعى يدور به إزاره من شدة السعي ، وهو يقول لأصحابه : " اسعوا ، إن الله كتب عليكم السعي "

وقال أحمد أيضا : ثنا سريج ، ثنا عبد الله بن المؤمل ، عن عمر بن عبد الرحمن ، ثنا عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة ، عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة ، والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره ، وهو يقول : " اسعوا ، فإن الله كتب عليكم السعي " تفرد به أحمد .

وقد رواه أحمد أيضا عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن واصل مولى أبي عيينة ، عن موسى بن عبيدة ، عن صفية بنت شيبة ، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول : " كتب عليكم السعي فاسعوا " وهذه المرأة هي حبيبة بنت أبي تجراة المصرح بذكرها في الإسنادين الأولين .

وعن أم ولد شيبة بن عثمان أنها أبصرت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول : لا يقطع الأبطح [ ص: 540 ] إلا شدا رواه النسائي . والمراد بالسعي هاهنا هو الذهاب من الصفا إلى المروة ، ومنها إليها ، وليس المراد بالسعي هاهنا الهرولة والإسراع ، فإن الله لم يكتبه علينا حتما ، بل لو مشى الإنسان على هينة في السبع الطوفات بينهما ولم يرمل في المسيل ، أجزأه ذلك عند جماعة العلماء ، لا يعرف بينهم اختلاف في ذلك .

وقد نقله الترمذي ، رحمه الله ، عن أهل العلم ، ثم قال : ثنا يوسف بن عيسى ، ثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن كثير بن جمهان قال : رأيت ابن عمر يمشي في المسعى فقلت : أتمشي في السعي بين الصفا والمروة ؟ فقال : لئن سعيت لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى ، ولئن مشيت لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي ، وأنا شيخ كبير . ثم قال : هذا حديث حسن صحيح ، وقد روى سعيد بن جبير ، عن ابن عمر نحو هذا . وقد رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عطاء بن السائب ، عن كثير بن جمهان السلمي الكوفي ، عن ابن عمر . فقول ابن عمر أنه شاهد الحالين منه صلى الله عليه وسلم يحتمل شيئين ; أحدهما أنه رآه يسعى في وقت ماشيا لم يمزجه برمل فيه بالكلية والثاني أنه رآه يسعى في بعض الطريق ويمشي في بعضه . وهذا له قوة ; لأنه قد روى البخاري ومسلم من [ ص: 541 ] حديث عبيد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة . وتقدم في حديث جابر أنه ، عليه الصلاة والسلام ، نزل من الصفا ، فلما انصبت قدماه في الوادي رمل ، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة . وهذا هو الذي تستحبه العلماء قاطبة ; أن الساعي بين الصفا والمروة يستحب له أن يرمل في بطن الوادي في كل طوفة في بطن المسيل الذي بينهما ، وحددوا ذلك بما بين الأميال الخضر ، فواحد مفرد من ناحية الصفا مما يلي المسجد ، واثنان مجتمعان من ناحية المروة مما يلي المسجد أيضا . وقال بعض العلماء : ما بين هذه الأميال اليوم أوسع من بطن المسيل الذي رمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالله أعلم .

وأما قول محمد بن حزم في الكتاب الذي جمعه في حجة الوداع : ثم خرج ، عليه الصلاة والسلام ، إلى الصفا فقرأ : إن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به " . فطاف بين الصفا والمروة أيضا سبعا راكبا على بعير ، يخب ثلاثا ويمشي أربعا . فإنه لم يتابع على هذا القول ، ولم يتفوه به أحد قبله من أنه ، عليه الصلاة والسلام ، خب ثلاثة أشواط بين الصفا والمروة ومشى أربعا ، ثم مع هذا الغلط الفاحش لم يذكر عليه دليلا بالكلية ، بل لما انتهى إلى موضع الاستدلال عليه قال : ولم نجد عدد الرمل بين الصفا والمروة منصوصا ، ولكنه متفق عليه . هذا لفظه فإن أراد أن الرمل [ ص: 542 ] في الطوفات الثلاث الأول - على ما ذكر - متفق عليه ، فليس بصحيح بل لم يقله أحد . وإن أراد أن الرمل في الثلاث الأول في الجملة متفق عليه ، فلا يجدي له شيئا ولا يحصل له مقصودا ، فإنهم كما اتفقوا على الرمل في الثلاث الأول في بعضها على ما ذكرناه ، كذلك اتفقوا على استحبابه في الأربع الأخر أيضا ، فتخصيص ابن حزم الثلاث الأول باستحباب الرمل فيها ، مخالف لما ذكره العلماء . والله أعلم . وأما قول ابن حزم أنه ، عليه الصلاة والسلام ، كان راكبا بين الصفا والمروة . فقد تقدم عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسعى بطن المسيل أخرجاه . وللترمذي عنه : إن أسعى فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى ، وإن مشيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي . وقال جابر : فلما انصبت قدماه في الوادي رمل ، حتى إذا صعد مشى . رواه مسلم . وقالت حبيبة بنت أبي تجراة : يسعى ، يدور به إزاره من شدة السعي . رواه أحمد . وفي " صحيح مسلم " عن جابر كما تقدم أنه رقي على الصفا حتى رأى البيت . وكذلك على المروة .

وقد قدمنا من حديث محمد بن إسحاق ، عن أبي جعفر الباقر ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بعيره على باب المسجد ، يعني حتى طاف ، ثم لم يذكر أنه ركبه حال ما خرج إلى الصفا . وهذا كله مما يقتضي أنه ، عليه الصلاة والسلام ، سعى بين الصفا والمروة ماشيا .

ولكن قال مسلم : ثنا عبد بن حميد ، ثنا محمد - يعني ابن بكر - أنا ابن [ ص: 543 ] جريج أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس ، وليشرف وليسألوه ; فإن الناس غشوه ، ولم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا . ورواه مسلم أيضا ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن علي بن مسهر ، وعن علي بن خشرم ، عن عيسى بن يونس ، وعن محمد بن حاتم ، عن يحيى بن سعيد ، كلهم عن ابن جريج به . وليس في بعضها : وبين الصفا والمروة .

وقد رواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة . ورواه النسائي ، عن الفلاس ، عن يحيى ، وعن عمران بن يزيد ، عن شعيب بن إسحاق ، كلاهما عن ابن جريج به . فهذا محفوظ من حديث ابن جريج وهو مشكل جدا ; لأن بقية الروايات عن جابر وغيره تدل على أنه ، عليه الصلاة والسلام ، كان ماشيا بين الصفا والمروة . وقد تكون رواية أبي الزبير عن جابر بهذه الزيادة - [ ص: 544 ] وهي قوله : وبين الصفا والمروة - مقحمة أو مدرجة ممن بعد الصحابي . والله أعلم . أو أنه ، عليه الصلاة والسلام ، طاف بين الصفا والمروة بعض الطوفات على قدميه ، وشوهد منه ما ذكر ، فلما ازدحم الناس عليه وكثروا ركب ، كما يدل عليه حديث ابن عباس الآتي قريبا . وقد سلم ابن حزم أن طوافه الأول بالبيت كان ماشيا ، وحمل ركوبه في الطواف على ما بعد ذلك ، وادعى أنه كان راكبا في السعي بين الصفا والمروة ، قال : لأنه لم يطف بينهما إلا مرة واحدة . ثم تأول قول جابر : حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل . بأنه يصدق ذلك وإن كان راكبا ; فإنه إذا انصب بعيره فقد انصب كله وانصبت قدماه مع سائر جسده . قال : وكذلك ذكر الرمل يعني به رمل الدابة براكبها . وهذا التأويل بعيد جدا . والله أعلم .

وقال أبو داود : ثنا أبو سلمة موسى ، ثنا حماد ، أنبأنا أبو عاصم الغنوي ، عن أبي الطفيل قال : قلت لابن عباس : يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت ، وأن ذلك سنة . قال : صدقوا وكذبوا . فقلت ما صدقوا وما كذبوا ؟! قال : صدقوا قد رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذبوا ; ليس بسنة ، إن قريشا قالت زمن الحديبية دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف . فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون من قبل قعيقعان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 545 ] لأصحابه : " ارملوا بالبيت ثلاثا " . وليس بسنة . قلت : يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة على بعير وأن ذلك سنة . قال : صدقوا وكذبوا . قلت : ما صدقوا وما كذبوا ؟! قال : صدقوا ; قد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على بعير ، وكذبوا ; ليست بسنة ، كان الناس لا يدفعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصرفون عنه ، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه ، وليروا مكانه ولا تناله أيديهم هكذا رواه أبو داود .

وقد رواه مسلم ، عن أبي كامل ، عن عبد الواحد بن زياد ، عن الجريري ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس فذكر فضل الطواف بالبيت بنحو ما تقدم ، ثم قال : قلت لابن عباس : أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا ، أسنة هو ؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة . قال صدقوا وكذبوا . قلت : وما قولك : صدقوا وكذبوا ؟! قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون : هذا محمد ، هذا محمد . حتى خرج العواتق من البيوت ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه ، فلما كثر عليه الناس ركب . قال ابن عباس : والمشي والسعي أفضل . هذا لفظ مسلم ، وهو يقتضي أنه إنما ركب في أثناء الحال ، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث . والله أعلم .

وأما ما رواه مسلم في " صحيحه " حيث قال : ثنا محمد بن رافع ، ثنا يحيى بن آدم ، ثنا زهير ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن أبي الطفيل قال : [ ص: 546 ] قلت لابن عباس : أراني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فصفه لي . قلت : رأيته عند المروة على ناقة وقد كثر الناس عليه . فقال ابن عباس : ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنهم كانوا لا يدعون عنه ولا يكرهون . فقد تفرد به مسلم ، وليس فيه دلالة على أنه ، عليه الصلاة والسلام ، سعى بين الصفا والمروة راكبا ، إذ لم يقيد ذلك بحجة الوداع ولا غيرها ، وبتقدير أن يكون ذلك في حجة الوداع ، فمن الجائز أنه ، عليه الصلاة والسلام ، بعد فراغه من السعي وجلوسه على المروة وخطبته الناس وأمره إياهم من لم يسق الهدي منهم أن يفسخ الحج إلى العمرة ، فحل الناس كلهم إلا من ساق الهدي ، كما تقدم في حديث جابر . ثم بعد هذا كله أتي بناقته فركبها ، وسار إلى منزله بالأبطح ، كما سنذكره قريبا ، وحينئذ رآه أبو الطفيل عامر بن واثلة البكري وهو معدود في صغار الصحابة .

لكن قال أبو داود : ثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع ، قالا : ثنا أبو عاصم ، عن معروف ، يعني ابن خربوذ المكي ، حدثنا أبو الطفيل قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمحجنه ، ثم يقبله . زاد محمد بن رافع : ثم خرج إلى الصفا والمروة ، فطاف سبعا على راحلته . وقد رواه مسلم في " صحيحه " من حديث أبي داود الطيالسي ، عن معروف بن خربوذ [ ص: 547 ] به ، بدون الزيادة التي ذكرها محمد بن رافع ، وكذلك رواه عبيد الله بن موسى ، عن معروف بدونها . ورواه الحافظ البيهقي ، عن أبي سعيد بن أبي عمرو ، عن الأصم ، عن يحيى بن أبي طالب ، عن يزيد بن أبي حكيم ، عن يزيد بن مليك ، عن أبي الطفيل بدونها . فالله أعلم .

وقال الحافظ البيهقي : أنبأنا أبو بكر بن الحسن وأبو زكريا بن أبي إسحاق ، قالا : ثنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم ، ثنا أحمد بن حازم ، أنبأنا عبيد الله بن موسى وجعفر بن عون ، قالا : أنبأنا أيمن بن نابل ، عن قدامة بن عبد الله بن عمار قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة على بعير ; لا ضرب ، ولا طرد ، ولا إليك إليك . وقال البيهقي : كذا قالا ، وقد رواه جماعة عن أيمن فقالوا : يرمي الجمرة يوم النحر . قال : ويحتمل أن يكونا صحيحين .

قلت : رواه الإمام أحمد في " مسنده " عن وكيع ، وقران بن تمام ، وأبي قرة موسى بن طارق ، قاضي أهل اليمن ، وأبي أحمد محمد بن عبد الله الزبيري ، ومعتمر بن سليمان ، عن أيمن بن نابل الحبشي أبي عمران المكي نزيل عسقلان مولى أبي بكر الصديق ، وهو ثقة جليل من رجال البخاري ، عن قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي ، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر من [ ص: 548 ] بطن الوادي على ناقة صهباء ; لا ضرب ، ولا طرد ، ولا إليك إليك . وهكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن منيع ، عن مروان بن معاوية ، وأخرجه النسائي عن إسحاق بن راهويه ، وابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن وكيع ، كلاهما عن أيمن بن نابل ، عن قدامة كما رواه الإمام أحمد . وقال الترمذي : حسن صحيح .

قلت قد ذهب طائفة من العراقيين ; كأبي حنيفة وأصحابه والثوري إلى أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين ، وهو مروي عن علي وابن مسعود ومجاهد والشعبي ، ولهم أن يحتجوا بحديث جابر الطويل ، دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة ماشيا ، وحديثه هذا أنه سعى بينهما راكبا على تعداد الطواف بينهما ; مرة ماشيا ومرة راكبا .

وقد روى سعيد بن منصور في " سننه " ، عن علي رضي الله عنه ، أنه أهل بحجة وعمرة ، فلما قدم مكة طاف بالبيت وبالصفا والمروة لعمرته ، ثم عاد فطاف بالبيت وبالصفا والمروة لحجته ، ثم أقام حراما إلى يوم النحر . هذا لفظه . ورواه أبو ذر الهروي في " مناسكه " عن علي ، أنه جمع بين الحج والعمرة ، فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل .

[ ص: 549 ] وكذلك رواه البيهقي ، والدارقطني ، والنسائي في " خصائص علي " فقال البيهقي في " سننه " : أنبأنا أبو بكر بن الحارث الفقيه ، أنبأنا علي بن عمر الحافظ ، أنبأنا أبو محمد بن صاعد ، ثنا محمد بن زنبور ، ثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن مالك بن الحارث - أو منصور ، عن مالك بن الحارث - عن أبي نصر قال : لقيت عليا وقد أهللت بالحج وأهل هو بالحج والعمرة ، فقلت : هل أستطيع أن أفعل كما فعلت ؟ قال : ذلك لو كنت بدأت بالعمرة . قلت : كيف أفعل إذا أردت ذلك ؟ قال : تأخذ إداوة من ماء ، فتفيضها عليك ، ثم تهل بهما جميعا ، ثم تطوف لهما طوافين وتسعى لهما سعيين ، ولا يحل لك حرام دون يوم النحر . قال منصور : فذكرت ذلك لمجاهد ، قال : ما كنا نفتي إلا بطواف واحد ، فأما الآن فلا نفعل . قال الحافظ البيهقي : وقد رواه سفيان بن عيينة وسفيان الثوري وشعبة عن منصور ، فلم يذكر فيه السعي . قال : وأبو نصر هذا مجهول ، وإن صح فيحتمل أنه أراد طواف القدوم وطواف الزيارة . قال : وقد روي بأسانيد أخر ، عن علي مرفوعا وموقوفا ، ومدارها على الحسن بن عمارة ، وحفص بن أبي داود ، وعيسى بن عبد الله ، وحماد بن عبد الرحمن ، وكلهم ضعيف لا يحتج بشيء مما رووه في ذلك . والله أعلم .

[ ص: 550 ] قلت : والمنقول في الأحاديث الصحاح خلاف ذلك ، فقد قدمنا عن ابن عمر في " صحيح البخاري " أنه أهل بعمرة وأدخل عليها الحج ، فصار قارنا ، وطاف لهما طوافا واحدا بين الحج والعمرة ، وقال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد روى الترمذي وابن ماجه والبيهقي من حديث الدراوردي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جمع بين الحج والعمرة طاف لهما طوافا واحدا ، وسعى لهما سعيا واحدا قال الترمذي : وهذا حديث حسن غريب . قلت : إسناده على شرط مسلم . وهكذا جرى لعائشة أم المؤمنين ، فإنها كانت ممن أهل بعمرة ; لعدم سوق الهدي معها ، فلما حاضت أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل ، وتهل بحج مع عمرتها ، فصارت قارنة ، فلما رجعوا من منى طلبت أن يعمرها من بعد الحج ، فأعمرها تطييبا لقلبها ، كما جاء مصرحا به في الحديث .

وقد قال الإمام أبو عبد الله الشافعي : أنبأنا مسلم ، هو ابن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : " طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك " . وهذا ظاهره الإرسال ، وهو مسند في المعنى ، بدليل ما قال الشافعي أيضا : أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال الشافعي : وربما قال سفيان : عن عطاء عن عائشة . وربما قال : عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [ ص: 551 ] لعائشة - فذكره . قال الحافظ البيهقي : رواه ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة موصولا . وقد رواه مسلم من حديث وهيب عن ابن طاوس عن أبيه ، عن عائشة بمثله .

وروى مسلم من حديث ابن جريج أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابرا يقول : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وهي تبكي ، فقال : " مالك تبكين ؟ " قالت : أبكي أن الناس حلوا ولم أحل ، وطافوا بالبيت ولم أطف ، وهذا الحج قد حضر . قال : " إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم ، فاغتسلي وأهلي بحج " . قالت : ففعلت ذلك ، فلما طهرت قال : " طوفي بالبيت وبين الصفا والمروة ، ثم قد حللت من حجك وعمرتك " . قالت : يا رسول الله ، إني أجد في نفسي من عمرتي أني لم أكن طفت حتى حججت . قال : " اذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم " . وله من حديث ابن جريج أيضا : أخبرني أبو الزبير سمعت جابرا قال : لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا . وعند أصحاب أبي حنيفة ، رحمه الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ساقوا الهدي كانوا قد قرنوا بين الحج والعمرة ، كما دل عليه الأحاديث المتقدمة . والله أعلم .

وقال الشافعي : أنبأنا إبراهيم بن محمد ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، [ ص: 552 ] عن علي قال في القارن : يطوف طوافين ويسعى سعيا . قال الشافعي : وقال بعض الناس : طوافان وسعيان . واحتج فيه برواية ضعيفة عن علي . قال : جعفر يروي عن علي قولنا ، ورويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية