صفحة جزء
[ ص: 622 ] ذكر إفاضته صلى الله عليه وسلم إلى البيت العتيق

قال جابر : ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم ، فقال : " انزعوا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم " . فناولوه دلوا فشرب منه . رواه مسلم . ففي هذا السياق ما يدل على أنه ، عليه الصلاة والسلام ، ركب إلى مكة قبل الزوال ، فطاف بالبيت ، ثم لما فرغ صلى الظهر هناك .

وقال مسلم أيضا : أخبرنا محمد بن رافع ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى . وهذا خلاف حديث جابر ، وكلاهما عند مسلم ، فإن عملنا بهما أمكن أن يقال أنه ، عليه الصلاة والسلام صلى الظهر بمكة ، ثم رجع إلى منى فوجد الناس ينتظرونه ، فصلى بهم . والله أعلم . ورجوعه ، عليه الصلاة والسلام ، إلى منى في وقت الظهر ممكن ; لأن ذلك الوقت كان صيفا ، والنهار طويل ، وإن كان قد صدر منه ، عليه الصلاة والسلام ، أفعال كثيرة في صدر هذا النهار ; فإنه دفع فيه من المزدلفة بعد ما أسفر الفجر جدا ، ولكنه قبل طلوع الشمس ، ثم قدم منى فبدأ برمي جمرة العقبة بسبع حصيات ، ثم جاء فنحر بيده ثلاثا وستين بدنة ، ونحر علي بقية المائة ، ثم أخذ من كل بدنة [ ص: 623 ] بضعة ، ووضعت في قدر ، وطبخت حتى نضجت ، فأكل من ذلك اللحم ، وشرب من ذلك المرق ، وفي غضون ذلك حلق رأسه ، عليه الصلاة والسلام ، وتطيب ، فلما فرغ من هذا كله ركب إلى البيت ، وقد خطب عليه الصلاة والسلام في هذا اليوم خطبة عظيمة ، ولست أدري أكانت قبل ذهابه إلى البيت أو بعد رجوعه منه إلى منى . فالله أعلم .

والمقصود أنه ركب إلى البيت فطاف به سبعة أطواف راكبا ، ولم يطف بين الصفا والمروة كما ثبت في " صحيح مسلم " عن جابر وعائشة ، رضي الله عنهما ، ثم شرب من ماء زمزم ، ومن نبيذ بتمر من ماء زمزم . فهذا كله مما يقوي قول من قال أنه ، عليه الصلاة والسلام ، صلى الظهر بمكة . كما رواه جابر . ويحتمل أنه رجع إلى منى في آخر وقت الظهر ، فصلى بأصحابه بمنى الظهر أيضا ، وهذا هو الذي أشكل على ابن حزم ، فلم يدر ما يقول فيه ، وهو معذور لتعارض الروايات الصحيحة فيه . والله أعلم .

وقال أبو داود : ثنا علي بن بحر وعبد الله بن سعيد ، المعنى ، قالا : ثنا أبو خالد الأحمر ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى ، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس ، كل جمرة بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة .

[ ص: 624 ] قال ابن حزم : فهذا جابر وعائشة قد اتفقا على أنه ، عليه الصلاة والسلام ، صلى الظهر يوم النحر بمكة ، وهما ، والله أعلم ، أضبط لذلك من ابن عمر . كذا قال ، وليس بشيء ، فإن رواية عائشة هذه ليست ناصة أنه ، عليه الصلاة والسلام ، صلى الظهر بمكة ، بل محتملة ; إن كان المحفوظ في الرواية : حتى صلى الظهر . وإن كانت الرواية : حين صلى الظهر . وهو الأشبه ; فإن ذلك دليل على أنه ، عليه الصلاة والسلام ، صلى الظهر بمنى قبل أن يذهب إلى البيت ، وهو محتمل . والله سبحانه وتعالى أعلم . وعلى هذا فيبقى مخالفا لحديث جابر ، فإن هذا يقتضي أنه صلى الظهر بمنى قبل أن يركب إلى البيت ، وحديث جابر يقتضي أنه ركب إلى البيت قبل أن يصلي الظهر وصلاها بمكة .

وقد قال البخاري : وقال أبو الزبير ، عن عائشة وابن عباس : أخر النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة - يعني طواف الزيارة - إلى الليل . وهذا الذي علقه البخاري قد رواه الناس من حديث أبي حذيفة ، ويحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ونوح بن ميمون ، عن سفيان الثوري ، عن أبي الزبير ، عن عائشة وابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل . ورواه أهل السنن الأربعة من حديث سفيان به . وقال الترمذي : حسن .

[ ص: 625 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله ، ثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن عائشة وابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار ليلا . فإن حمل هذا على أنه أخر ذلك إلى ما بعد الزوال ، كأنه يقول : إلى العشي . صح ذلك . وأما إن حمل على ما بعد الغروب فهو بعيد جدا ، ومخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة المشهورة من أنه ، عليه الصلاة والسلام ، طاف يوم النحر نهارا ، وشرب من سقاية زمزم . وأما الطواف الذي ذهب في الليل إلى البيت بسببه فهو طواف الوداع - ومن الرواة من يعبر عنه بطواف الزيارة كما سنذكره إن شاء الله - أو طواف زيارة محضة قبل طواف الوداع ، وبعد طواف الصدر الذي هو طواف الفرض . وقد ورد حديث سنذكره في موضعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى ، وهذا بعيد أيضا . والله أعلم .

وقد روى الحافظ البيهقي من حديث عمر بن قيس ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه ، فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة ، وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلا . وهذا حديث غريب جدا أيضا ، وهذا قول طاوس وعروة بن الزبير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل . والصحيح من الروايات ، وعليه الجمهور ، أنه ، [ ص: 626 ] عليه الصلاة والسلام ، طاف يوم النحر بالنهار ، والأشبه أنه كان قبل الزوال ، ويحتمل أن يكون بعده . والله أعلم .

والمقصود أنه ، عليه الصلاة والسلام ، لما قدم مكة طاف بالبيت سبعا وهو راكب ، ثم جاء زمزم وبنو عبد المطلب يستقون منها ، ويسقون الناس ، فتناول منها دلوا فشرب منه ، وأفرغ عليه منه .

كما قال مسلم : ثنا محمد بن منهال الضرير ، ثنا يزيد بن زريع ، ثنا حميد الطويل ، عن بكر بن عبد الله المزني ، سمع ابن عباس يقول وهو جالس معه عند الكعبة : قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة ، فأتيناه بإناء فيه نبيذ فشرب ، وسقى فضله أسامة ، وقال : " أحسنتم وأجملتم ، هكذا فاصنعوا " . قال ابن عباس : فنحن لا نريد أن نغير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي رواية عن بكر أن أعرابيا قال لابن عباس : مالي أرى بني عمكم يسقون اللبن والعسل وأنتم تسقون النبيذ ؟ أمن حاجة بكم ، أم من بخل ؟ فذكر له ابن عباس هذا الحديث .

وقال أحمد : حدثنا روح ، ثنا حماد ، عن حميد ، عن بكر ، عن عبد الله ، أن أعرابيا قال لابن عباس : ما شأن آل معاوية يسقون الماء والعسل ، وآل فلان يسقون اللبن ، وأنتم تسقون النبيذ ؟ أمن بخل بكم أو حاجة ؟ فقال ابن عباس : ما بنا بخل ولا حاجة ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا ورديفه أسامة بن زيد ، فاستسقى فسقيناه من هذا - يعني نبيذ السقاية - فشرب منه ، وقال : [ ص: 627 ] " أحسنتم ، هكذا فاصنعوا " . ورواه أحمد ، عن روح ومحمد بن بكر ، عن ابن جريج ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، وداود بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن ابن عباس ، فذكره .

وروى البخاري عن إسحاق بن شاهين ، عن خالد ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى ، فقال العباس : يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها . فقال : " اسقني " . فقال : يا رسول الله ، إنهم يجعلون أيديهم فيه . قال : " اسقني " . فشرب منه ، ثم أتى زمزم وهم يسقون ، ويعملون فيها ، فقال : " اعملوا فإنكم على عمل صالح " . ثم قال : " لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه " . يعني عاتقه ، وأشار إلى عاتقه .

وعنده من حديث عاصم ، عن الشعبي ، أن ابن عباس قال : سقيت النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم ، فشرب وهو قائم . قال عاصم : فحلف عكرمة : ما كان يومئذ إلا على بعير . وفي رواية : ناقته .

وقال الإمام أحمد : ثنا هشيم ، ثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عكرمة ، عن ابن [ ص: 628 ] عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير ، واستلم الحجر بمحجن كان معه . قال : وأتى السقاية فقال : " اسقوني " . فقالوا : إن هذا يخوضه الناس ، ولكنا نأتيك به من البيت . فقال : " لا حاجة لي فيه ، اسقوني مما يشرب منه الناس " .

وقد روى أبو داود ، عن مسدد ، عن خالد الطحان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ونحن نستقي ، فطاف على راحلته . الحديث .

وقال الإمام أحمد : حدثنا روح وعفان ، قالا : ثنا حماد ، عن قيس - وقال عفان في حديثه : أنبأنا قيس - عن مجاهد ، عن ابن عباس ، أنه قال : جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمزم فنزعنا له دلوا فشرب ثم مج فيها ثم أفرغناها في زمزم ثم قال : " لولا أن تغلبوا عليها لنزعت بيدي " . انفرد به أحمد وإسناده على شرط مسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية