صفحة جزء
[ ص: 24 ] فصل في الآيات والأحاديث المنذرة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضه الذي مات فيه

قال الله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون [ الزمر : 30 ، 31 ] . وقال تعالى : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون [ الأنبياء 34 ، 35 ] . وقال تعالى : كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ آل عمران : 185 ] . وقال تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين [ آل عمران : 144 ] وهذه الآية هي التي تلاها الصديق يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما سمعها الناس كأنهم لم يسمعوها قبل ذلك . وقال تعالى : [ ص: 25 ] إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا قال عمر بن الخطاب وابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه .

وقال ابن عمر : نزلت أوسط أيام التشريق في حجة الوداع ، فعرف رسول الله أنه الوداع ، فخطب الناس خطبة أمرهم فيها ونهاهم . الخطبة المشهورة كما تقدم .

وقال جابر : رأيت رسول الله يرمي الجمار ، فوقف وقال " لتأخذوا عني مناسككم ، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا " .

وقال عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة ، كما سيأتي " إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة ، وإنه عارضني العام مرتين ، وما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي " .

وفي " صحيح البخاري " من حديث أبي بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل شهر رمضان عشرة أيام ، فلما كان من العام الذي توفي فيه اعتكف عشرين يوما ، وكان يعرض عليه القرآن كل رمضان مرة ، فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه القرآن مرتين .

وقال محمد بن إسحاق : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع في ذي [ ص: 26 ] الحجة ، فأقام بالمدينة بقيته والمحرم وصفرا ، وبعث أسامة بن زيد ، فبينا الناس على ذلك ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكوه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراده الله من رحمته وكرامته ، في ليال بقين من صفر أو في أول شهر ربيع الأول ، فكان أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، فيما ذكر لي ، أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل ، فاستغفر لهم ، ثم رجع إلى أهله ، فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك .

قال ابن إسحاق وحدثني عبد الله بن عمر ، عن عبيد بن جبير مولى الحكم ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بعثني رسول الله من جوف الليل ، فقال : " يا أبا مويهبة ، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي " . فانطلقت معه ، فلما وقف بين أظهرهم قال : " السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولى " . ثم أقبل علي فقال " يا أبا مويهبة ، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة ، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة " . قال : قلت : بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة . قال : " لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة " . ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف ، فبدئ برسول الله وجعه الذي قبضه الله فيه . لم يخرجه أحد من أصحاب [ ص: 27 ] الكتب ، وإنما رواه أحمد ، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن إسحاق به .

وقال الإمام أحمد : ثنا أبو النضر ، ثنا الحكم بن فضيل ، ثنا يعلى بن عطاء ، عن عبيد بن جبير ، عن أبي مويهبة قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على أهل البقيع فصلى عليهم ثلاث مرات ، فلما كانت الليلة الثالثة قال : يا أبا مويهبة أسرج لي دابتي قال : فركب ومشيت ، حتى انتهى إليهم ، فنزل عن دابته ، وأمسكت الدابة فوقف - أو قال : قام - عليهم ، فقال : ليهنكم ما أنتم فيه مما فيه الناس ، أتت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا ، الآخرة أشد من الأولى ، فليهنكم ما أنتم فيه مما فيه الناس ) ثم رجع فقال : يا أبا مويهبة ، إني أعطيت - أو قال : خيرت بين - مفاتيح ما يفتح على أمتي من بعدي والجنة أو لقاء ربي " . قال : فقلت بأبي أنت وأمي فاخترنا . قال : " لأن ترد على عقبها ما شاء الله ، فاخترت لقاء ربي " فما لبث بعد ذلك إلا سبعا أو ثمانيا حتى قبض .

[ ص: 28 ] وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نصرت بالرعب ، وأعطيت الخزائن ، وخيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل ، فاخترت التعجيل " قال البيهقي : وهذا مرسل ، وهو شاهد لحديث أبي مويهبة .

قال ابن إسحاق وحدثني يعقوب بن عتبة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عائشة قالت : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي ، وأنا أقول : وارأساه . فقال : بل أنا والله يا عائشة وارأساه ) قالت : ثم قال : وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك ، وصليت عليك ودفنتك قالت : قلت : والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك . قالت : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه ، حتى استعز به في بيت ميمونة ، فدعا نساءه ، فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذن له . قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين من أهله ; أحدهما الفضل بن عباس ورجل آخر ، عاصبا رأسه ، تخط قدماه ، حتى دخل بيتي . قال عبيد الله : فحدثت به ابن عباس ، فقال : أتدري من الرجل الآخر ؟ هو علي بن أبي طالب وهذا الحديث له شواهد ستأتي قريبا .

[ ص: 29 ] وقال البيهقي : أنبأنا الحاكم ، أنبأنا الأصم ، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار ، عن يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني يعقوب بن عتبة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة قالت : دخل علي رسول الله وهو يصدع ، وأنا أشتكي رأسي ، فقلت : وارأساه . فقال : " بل أنا والله يا عائشة وارأساه " . ثم قال : " وما عليك لو مت قبلي فوليت أمرك ، وصليت عليك وواريتك " فقلت : والله إني لأحسب لو كان ذلك لقد خلوت ببعض نسائك في بيتي من آخر النهار . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تمادى به وجعه فاستعز به وهو يدور على نسائه ، في بيت ميمونة ، فاجتمع إليه أهله ، فقال العباس : إنا لنرى برسول الله ذات الجنب ، فهلموا فلنلده . فلدوه ، فأفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من فعل هذا ؟ فقالوا : عمك العباس تخوف أن يكون بك ذات الجنب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها من الشيطان ، وما كان الله ليسلطه علي ، لا يبقى في البيت أحد إلا لددتموه إلا عمي العباس " فلد أهل البيت كلهم حتى ميمونة وإنها لصائمة ، وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي ، فأذن له . فخرج وهو بين العباس ورجل آخر لم تسمه ، تخط قدماه بالأرض . قال عبيد الله : قال ابن عباس : الرجل الآخر علي بن أبي طالب

وقال البخاري : حدثنا سعيد بن عفير ، ثنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن [ ص: 30 ] شهاب ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما ثقل رسول الله واشتد به وجعه ، استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي ، فأذن له ، فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر . قال عبيد الله : فأخبرت عبد الله - يعني ابن عباس - بالذي قالت عائشة ، فقال لي عبد الله بن عباس : هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة ؟ قال : قلت : لا . قال ابن عباس : هو علي . فكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تحدث أن رسول الله لما دخل بيتي واشتد به وجعه ، قال : " هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن ، لعلي أعهد إلى الناس " فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب ، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن . قالت عائشة : ثم خرج إلى الناس فصلى لهم وخطبهم . وقد رواه البخاري أيضا في مواضع أخر من " صحيحه " ومسلم من طرق ، عن الزهري به .

وقال البخاري : حدثنا إسماعيل ، ثنا سليمان بن بلال ، قال هشام بن عروة : أخبرني أبي ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه أين أنا غدا أين أنا غدا ؟ يريد يوم عائشة ، فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء ، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها . قالت عائشة ، رضي الله عنها : فمات في اليوم الذي كان يدور علي فيه في بيتي ، وقبضه الله وإن [ ص: 31 ] رأسه لبين سحري ونحري ، وخالط ريقه ريقي . قالت : ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به . فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن ، فأعطانيه فقضمته ، ثم مضغته فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستن به وهو مستند إلى صدري . انفرد به البخاري من هذا الوجه

وقال البخاري : ثنا عبد الله بن يوسف ، ثنا الليث ، حدثني ابن الهاد ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : مات النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي ، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال البخاري : حدثنا حبان ، أنبأنا عبد الله ، أنبأنا يونس ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ، ومسح عنه بيده ، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث ، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه . ورواه مسلم من حديث ابن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري به .

[ ص: 32 ] وثبت في " الصحيحين " من حديث أبي عوانة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن امرأة ، فجاءت فاطمة تمشي ، ما تخطئ مشيتها مشية أبيها ، فقال : " مرحبا بابنتي " فأقعدها عن يمينه أو شماله ، ثم سارها بشيء فبكت ، ثم سارها فضحكت ، فقلت لها : خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسرار وأنت تبكين ؟ ! فلما أن قام قلت لها : أخبريني ما سارك ؟ فقالت : ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما توفي قلت لها : أسألك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني . قالت : أما الآن فنعم . قالت : سارني في الأولى ، قال لي إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة وإنه عارضني في هذا العام مرتين ولا أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي فاتقي الله واصبري ، فنعم السلف أنا لك " فبكيت ، ثم سارني فقال " أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ؟ " أو " سيدة نساء هذه الأمة ؟ " فضحكت . وله طرق عن عائشة .

وقد روى البخاري عن علي بن عبد الله والفلاس ومسدد ، ومسلم عن محمد بن حاتم ، كلهم عن يحيى بن سعيد القطان ، عن سفيان الثوري ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة قالت : لددنا [ ص: 33 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ، فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني . فقلنا : كراهية المريض للدواء . فلما أفاق قال ألم أنهكم أن لا تلدوني ؟ ! قلنا : كراهية المريض للدواء . فقال " لا يبقى أحد في البيت إلا لد - وأنا أنظر - إلا العباس ; فإنه لم يشهدكم " قال البخاري : ورواه ابن أبي الزناد ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال البخاري : وقال يونس ، عن الزهري ، قال عروة : قالت عائشة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه : " يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم " هكذا ذكره البخاري معلقا . وقد أسنده الحافظ البيهقي ، عن الحاكم ، عن أبي بكر أحمد بن محمد بن يحيى الأشقر ، عن يوسف بن موسى ، عن أحمد بن صالح ، عن عنبسة ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن الزهري به .

وقال البيهقي : أنبأنا الحاكم ، أنبأنا الأصم ، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : لأن أحلف تسعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلا أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل ، وذلك أن الله اتخذه نبيا واتخذه شهيدا .

[ ص: 34 ] وقال البخاري : ثنا إسحاق ، أخبرنا بشر بن شعيب بن أبي حمزة ، حدثني أبي ، عن الزهري قال : أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري ، وكان كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تيب عليهم ، أن عبد الله بن عباس أخبره أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه ، فقال الناس : يا أبا الحسن ، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أصبح بحمد الله بارئا . فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له : أنت والله بعد ثلاث عبد العصا ، وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من وجعه هذا ، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت ، اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله فيمن هذا الأمر ؟ إن كان فينا علمنا ذلك ، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا . فقال علي : إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده ، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم . انفرد به البخاري .

وقال البخاري : ثنا قتيبة ، ثنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس : يوم الخميس وما يوم الخميس ؟ اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه ، فقال : " ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده [ ص: 35 ] أبدا " فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ما شأنه يهجر ؟ استفهموه . فذهبوا يردون عنه ، فقال : " دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه " فأوصاهم بثلاث ; قال : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم " وسكت عن الثالثة أو قال : فنسيتها . ورواه البخاري في موضع آخر ، ومسلم من حديث سفيان بن عيينة به .

ثم قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، ثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده " فقال بعضهم : إن رسول الله قد غلبه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله . فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده . ومنهم من يقول غير ذلك ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا " . قال عبيد الله : قال ابن عباس : إن [ ص: 36 ] الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم . ورواه مسلم عن محمد بن رافع وعبد بن حميد ، كلاهما عن عبد الرزاق بنحوه . وقد أخرجه البخاري في مواضع من " صحيحه " من حديث معمر ويونس ، عن الزهري به . وهذا الحديث مما قد توهم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم ، كل يدعي أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمزون إليه من مقالاتهم ، وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم ، وأهل السنة يأخذون بالمحكم ويردون ما تشابه إليه ، وهذه طريقة الراسخين في العلم ، كما وصفهم الله ، عز وجل ، في كتابه ، وهذا الموضع مما زل فيه أقدام كثير من أهل الضلالات ، وأما أهل السنة فليس لهم مذهب إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار ، وهذا الذي كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتبه قد جاء في الأحاديث الصحيحة التصريح بكشف المراد منه ; فإنه قد قال الإمام أحمد : حدثنا مؤمل ، ثنا نافع بن عمر ، ثنا ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : لما كان وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قبض فيه قال : " ادعوا لي أبا بكر وابنه فليكتب ; لكي لا يطمع في أمر أبي بكر طامع ولا يتمنى متمن " ثم قال يأبى الله ذلك والمؤمنون مرتين . قالت عائشة : [ ص: 37 ] فأبى الله ذلك والمؤمنون . انفرد به أحمد من هذا الوجه .

وقال أحمد : حدثنا أبو معاوية ، ثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر " ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه " فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر انفرد به أحمد من هذا الوجه أيضا .

وروى البخاري ، عن يحيى بن يحيى ، عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد ; أن يقول القائلون أو يتمنى متمنون ، فقلت : يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون .

وفي " صحيح البخاري " و " مسلم " من حديث إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه . فقالت : أرأيت إن جئت ولم أجدك ؟ كأنها تقول : الموت . قال : " إن لم تجديني فأتي أبا بكر " والظاهر ، والله أعلم ، أنها إنما قالت ذلك له ، عليه الصلاة والسلام ، في مرضه الذي مات فيه ، صلوات الله وسلامه عليه .

[ ص: 38 ] وقد خطب عليه الصلاة والسلام في يوم الخميس قبل أن يقبض ، عليه الصلاة والسلام ، بخمسة أيام خطبة عظيمة ، بين فيها فضل الصديق من بين سائر الصحابة ، مع ما كان قد نص عليه أن يؤم الصحابة أجمعين ، كما سيأتي بيانه مع حضورهم كلهم ، ولعل خطبته هذه كانت عوضا عما أراد أن يكتبه في الكتاب ، وقد اغتسل عليه الصلاة والسلام ، بين يدي هذه الخطبة الكريمة ، فصبوا عليه من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن ، وهذا من باب الاستشفاء بالسبع ، كما وردت بها الأحاديث في غير هذا الموضع ، والمقصود أنه ، عليه الصلاة والسلام ، اغتسل ثم خرج فصلى بالناس ، ثم خطبهم ، كما تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها

التالي السابق


الخدمات العلمية