صفحة جزء
ذكر أمره ، عليه الصلاة والسلام ، أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، أن يصلي بالصحابة أجمعين مع حضورهم كلهم وخروجه ، عليه الصلاة والسلام ، فصلى وراءه مقتديا به في بعض الصلوات على ما سنذكره ، وإماما له ولمن بعده من الصحابة

قال الإمام أحمد : ثنا يعقوب ، ثنا أبي ، عن ابن إسحاق قال : وقال ابن شهاب الزهري : حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبيه ، عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن [ ص: 46 ] أسد قال : لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا عنده في نفر من المسلمين ، دعا بلال للصلاة ، فقال : " مروا من يصلي بالناس " قال : فخرجت فإذا عمر في الناس ، وكان أبو بكر غائبا فقلت : قم يا عمر فصل بالناس . قال : فقام ، فلما كبر عمر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ، وكان عمر رجلا مجهرا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأين أبو بكر ؟ ! يأبى الله ذلك والمسلمون ، يأبى الله ذلك والمسلمون " قال : فبعث إلى أبي بكر ، فجاء بعد ما صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس . وقال عبد الله بن زمعة : قال لي عمر : ويحك ماذا صنعت يا ابن زمعة ، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك ، ولولا ذلك ما صليت . قال : قلت : والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة . وهكذا رواه أبو داود من حديث ابن إسحاق حدثني الزهري . ورواه يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، حدثني يعقوب بن عتبة ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن زمعة ، فذكره .

[ ص: 47 ] وقال أبو داود : ثنا أحمد بن صالح ، ثنا ابن أبي فديك ، حدثني موسى بن يعقوب ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن عبد الله بن زمعة أخبره بهذا الخبر ، قال : لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت عمر . قال ابن زمعة : خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطلع رأسه من حجرته ، ثم قال " لا لا لا ، ليصل للناس ابن أبي قحافة " يقول ذلك مغضبا

وقال البخاري : ثنا عمر بن حفص ، ثنا أبي ، ثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، قال الأسود : كنا عند عائشة رضي الله عنها ، فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها ، قالت : لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن بلال ، فقال " مروا أبا بكر فليصل بالناس " فقيل له : إن أبا بكر رجل أسيف ، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس . وأعاد فأعادوا له ، فأعاد الثالثة ، فقال " إنكن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل [ ص: 48 ] بالناس " فخرج أبو بكر فصلى ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخرج يهادى بين رجلين ، كأني أنظر إلى رجليه تخطان الأرض من الوجع ، فأراد أبو بكر أن يتأخر ، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك ، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه . قيل للأعمش : فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر ؟ فقال برأسه نعم . ثم قال البخاري : رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة بعضه ، وزاد أبو معاوية ، عن الأعمش جلس عن يسار أبي بكر ، فكان أبو بكر يصلي قائما . وقد رواه البخاري في غير ما موضع من كتابه ، ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق متعددة ، عن الأعمش به ، منها ما رواه البخاري ، عن قتيبة ، ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ويحيى بن يحيى ، عن أبي معاوية به .

[ ص: 49 ] وقال البخاري : ثنا عبد الله بن يوسف ، أنبأنا مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه : " مروا أبا بكر يصلي بالناس " قالت عائشة : قلت : إن أبا بكر إذا قام مقامك ، لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل للناس ، فقلت لحفصة : قولي له : إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل للناس ، ففعلت حفصة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مه إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل للناس " فقالت حفصة لعائشة : ما كنت لأصيب منك خيرا . ورواه الترمذي والنسائي ، من حديث مالك به . وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقال البخاري : ثنا زكريا بن يحيى ثنا ابن نمير ثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه فكان يصلي بهم . قال عروة : فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة ، فخرج فإذا أبو بكر يؤم الناس ، فلما رآه أبو بكر استأخر ، فأشار إليه أن كما أنت . فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أبي بكر إلى جنبه ، فكان أبو بكر يصلي بصلاة [ ص: 50 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر ، رضي الله عنه . ورواه مسلم من حديث عبد الله بن نمير به .

وفي " صحيح البخاري " من حديث ابن وهب عن يونس ، عن الزهري ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه ، قيل له في الصلاة ، فقال " مروا أبا بكر فليصل بالناس " فقالت له عائشة : يا رسول الله ، إن أبا بكر رجل رقيق ، إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء . فقال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " فعاودته مثل مقالتها ، فقال : " أنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس " قال ابن شهاب : فأخبرني عبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة أنها قالت : لقد عاودت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وما حملني على معاودته إلا أني خشيت أن يتشاءم الناس بأبي بكر ، وإلا أني علمت أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به ، فأحببت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن أبي بكر إلى غيره .

وفي " صحيح مسلم " من حديث عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : وأخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر ، عن عائشة قالت : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي قال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " قالت : قلت : يا رسول الله ، إن [ ص: 51 ] أبا بكر رجل رقيق ، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه ، فلو أمرت غير أبي بكر . قالت : والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : فراجعته مرتين أو ثلاثا . فقال " ليصل بالناس أبو بكر فإنكن صواحب يوسف " .

وفي " الصحيحين " من حديث عبد الملك بن عمير ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه قال : مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " فقالت عائشة : يا رسول الله ، إن أبا بكر رجل رقيق ، متى يقم مقامك لا يستطع يصلي بالناس . قال : فقال " مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف " قال : فصلى أبو بكر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال الإمام أحمد : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ثنا زائدة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن عبيد الله بن عبد الله قال : دخلت على عائشة ، فقلت : ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : بلى ، ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أصلى الناس ؟ " فقلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله . فقال : " ضعوا لي ماء في المخضب " ففعلنا ، قالت : فاغتسل ، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ، ثم أفاق فقال : " أصلى الناس ؟ " قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول [ ص: 52 ] الله . قال " ضعوا لي ماء في المخضب " ففعلنا فاغتسل ، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ، ثم أفاق فقال " أصلى الناس ؟ " قلنا : لا هم ينتظرونك يا رسول الله . قالت : والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس ، وكان أبو بكر رجلا رقيقا ، فقال : يا عمر صل بالناس . فقال : أنت أحق بذلك . فصلى بهم تلك الأيام ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفة ، فخرج بين رجلين ، أحدهما العباس لصلاة الظهر ، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر ، فأومأ إليه أن لا يتأخر ، وأمرهما فأجلساه إلى جنبه ، فجعل أبو بكر يصلي قائما ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا . قال عبيد الله : فدخلت على ابن عباس ، فقلت : ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هات . فحدثته فما أنكر منه شيئا ، غير أنه قال : سمت لك الرجل الذي كان مع العباس ؟ قلت : لا . قال هو علي . وقد رواه البخاري ومسلم جميعا ، عن أحمد بن يونس ، عن زائدة به . وفي رواية : فجعل أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد .

قال البيهقي : ففي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم في هذه الصلاة ، وعلق أبو بكر [ ص: 53 ] صلاته بصلاته

قال : وكذلك رواه الأسود وعروة عن عائشة ، وكذلك رواه الأرقم بن شرحبيل ، عن ابن عباس . يعني بذلك ما رواه الإمام أحمد . حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، حدثني أبي ، عن أبي إسحاق ، عن الأرقم بن شرحبيل ، عن ابن عباس قال : لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ، ثم وجد خفة فخرج ، فلما أحس به أبو بكر أراد أن ينكص ، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره ، واستفتح من الآية التي انتهى إليها أبو بكر رضي الله عنه . ثم رواه أيضا ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أرقم ، عن ابن عباس بأطول من هذا . وقال وكيع مرة : فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر . ورواه ابن ماجه ، عن علي بن محمد ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أرقم بن شرحبيل ، عن ابن عباس بنحوه .

وقد قال الإمام أحمد : ثنا شبابة بن سوار ، ثنا شعبة ، عن نعيم بن أبي هند ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر قاعدا في مرضه الذي مات فيه . وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث شعبة ، وقال الترمذي حسن صحيح .

[ ص: 54 ] وقال أحمد : ثنا بكر بن عيسى ، سمعت شعبة بن الحجاج ، عن نعيم بن أبي هند ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن عائشة ، أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف .

وقال البيهقي : أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ، أنبأنا عبد الله بن جعفر ، أنبأنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، ثنا شعبة ، عن سليمان الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر . وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه . قال البيهقي : وكذلك رواه حميد ، عن أنس بن مالك ويونس ، عن الحسن مرسلا .

ثم أسند ذلك من طريق هشيم ; أخبرنا يونس ، عن الحسن ، قال هشيم : وأنبأنا حميد ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وأبو بكر يصلي بالناس ، فجلس إلى جنبه وهو في بردة قد خالف بين طرفيها فصلى بصلاته .

قال البيهقي : وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار ، ثنا عبيد بن شريك ، أنبأنا ابن أبي مريم ، أنبأنا محمد بن جعفر ، أخبرني حميد أنه سمع أنسا يقول : آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد ملتحفا به ، خلف أبي بكر . قلت : وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح ، ولم يخرجوه . وهذا التقييد جيد بأنها آخر صلاة صلاها مع الناس ، صلوات الله وسلامه عليه .

[ ص: 55 ] وقد ذكر البيهقي من طريق سليمان بن بلال ويحيى بن أيوب ، عن حميد ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد برد مخالفا بين طرفيه ، فلما أراد أن يقوم قال : " ادع لي أسامة بن زيد " فجاء فأسند ظهره إلى نحره ، فكانت آخر صلاة صلاها .

قال البيهقي : ففي هذا دلالة أن هذه الصلاة كانت صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة ; لأنها آخر صلاة صلاها لما ثبت أنه توفي ضحى يوم الاثنين . وهذا الذي قاله البيهقي أخذه مسلما من " مغازي موسى بن عقبة " فإنه كذلك ذكر . وكذا روى أبو الأسود ، عن عروة ، وذلك ضعيف ، بل هذه آخر صلاة صلاها مع القوم ، كما تقدم تقييده في الرواية الأخرى ، والحديث واحد فيحمل مطلقه على مقيده ، ثم لا يجوز أن تكون هذه صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة ، لأن تلك لم يصلها مع الجماعة ، بل في بيته لما به من الضعف ، صلوات الله وسلامه عليه .

والدليل على ذلك ما قال البخاري ، رحمه الله ، في " صحيحه " : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني أنس بن مالك ، وكان تبع النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه وصحبه ، أن أبا بكر كان يصلي لهم في [ ص: 56 ] وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه ، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ، تبسم يضحك ، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم ، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف ، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة ، فأشار إلينا صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم ، وأرخى الستر ، فتوفي من يومه صلى الله عليه وسلم . وقد رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة وصالح بن كيسان ومعمر ، عن الزهري ، عن أنس .

ثم قال البخاري : ثنا أبو معمر ، ثنا عبد الوارث ، ثنا عبد العزيز ، عن أنس بن مالك قال : لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، فأقيمت الصلاة ، فذهب أبو بكر يتقدم ، فقال نبي الله : " عليكم بالحجاب " فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا ، فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم ، وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب ، فلم يقدر عليه حتى مات صلى الله عليه وسلم . ورواه مسلم من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن أبيه به . فهذا أوضح دليل على أنه ، عليه الصلاة والسلام ، لم يصل يوم الاثنين صلاة الصبح مع الناس ، وأنه كان قد انقطع عنهم ; لم يخرج إليهم ثلاثا .

[ ص: 57 ] قلنا فعلى هذا يكون آخر صلاة صلاها معهم الظهر ، كما جاء مصرحا به في حديث عائشة المتقدم ، ويكون ذلك يوم الخميس لا يوم السبت ، ولا يوم الأحد كما حكاه البيهقي عن " مغازي موسى بن عقبة " ، وهو ضعيف ; لما قدمنا من خطبته بعدها ، ولأنه انقطع عنهم يوم الجمعة ، والسبت ، والأحد ، وهذه ثلاثة أيام كوامل .

وقال الواقدي ، عن أبي بكر بن أبي سبرة ، أن أبا بكر صلى بهم سبع عشرة صلاة . وقال غيره : عشرين صلاة . فالله أعلم . ثم بدا لهم وجهه الكريم صبيحة يوم الاثنين فودعهم بنظرة كادوا يفتتنون بها ، ثم كان ذلك آخر عهد جمهورهم به ، ولسان حالهم يقول ، كما قال بعضهم :

وكنت أرى كالموت من بين ساعة فكيف ببين كان موعده الحشر

والعجب أن الحافظ البيهقي أورد هذا الحديث من هاتين الطريقين ، ثم قال ما حاصله : فلعله عليه الصلاة والسلام ، احتجب عنهم في أول ركعة ، ثم خرج في الركعة الثانية ، فصلى خلف أبي بكر ، كما قال عروة وموسى بن عقبة وخفي ذلك على أنس بن مالك ، أو أنه ذكر بعض الخبر وسكت عن آخره . وهذا الذي ذكره أيضا بعيد جدا ; لأن أنسا قال : فلم يقدر عليه حتى مات . وفي رواية قال : فكان ذلك آخر العهد به . وقول الصحابي مقدم على قول التابعي . والله أعلم .

والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر الصديق إماما للصحابة كلهم في [ ص: 58 ] الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية .

قال الشيخ أبو الحسن الأشعري : وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام . قال : وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم ; لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنا ، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم سلما " قلت : وهذا من كلام الأشعري ، رحمه الله ، مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق ، رضي الله عنه وأرضاه ، وصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه في بعض الصلوات ، كما قدمنا بذلك الروايات الصحيحة ، لا ينافي ما روي في " الصحيح " أن أبا بكر ائتم به عليه الصلاة والسلام ; لأن ذلك في صلاة أخرى ، كما نص على ذلك الشافعي وغيره من الأئمة ، رحمهم الله عز وجل

فائدة : استدل مالك والشافعي وجماعة من العلماء ، ومنهم البخاري ، بصلاته ، عليه الصلاة والسلام ، قاعدا ، وأبو بكر مقتديا به قائما ، والناس بأبي بكر ، على نسخ قوله ، عليه الصلاة والسلام ، في الحديث [ ص: 59 ] المتفق عليه حين صلى ببعض أصحابه قاعدا ، وقد وقع عن فرس فجحش شقه فصلوا وراءه قياما فأشار إليهم أن اجلسوا ، فلما انصرف قال : " كذلك والذي نفسي بيده تفعلون كفعل فارس والروم ; يقومون على عظمائهم وهم جلوس . وقال إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " قالوا : ثم إنه ، عليه الصلاة والسلام ، أمهم قاعدا ، وهم قيام في مرض الموت ، فدل على نسخ ما تقدم . والله أعلم .

وقد تنوعت مسالك الناس في الجواب عن هذا الاستدلال على وجوه كثيرة ، موضع ذكرها كتاب " الأحكام الكبير " إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان .

وملخص ذلك أن من الناس من زعم أن الصحابة جلسوا لأمره المتقدم ، وإنما استمر أبو بكر قائما لأجل التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم . ومن الناس من قال : بل كان أبو بكر هو الإمام في نفس الأمر كما صرح به بعض الرواة كما تقدم ، وكان أبو بكر لشدة أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبادره بل يقتدي به ، فكأنه عليه الصلاة والسلام ، صار إمام الإمام ، فلهذا لم يجلسوا لاقتدائهم بأبي بكر ، وهو قائم ولم يجلس الصديق لأجل أنه إمام ، ولأنه يبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم الحركات والسكنات والانتقالات . والله أعلم . ومن الناس من قال فرق بين أن يبتدئ [ ص: 60 ] الصلاة خلف الإمام في حال القيام فيستمر فيها قائما وإن طرأ جلوس الإمام في أثنائها كما في هذه الحال ، وبين أن يبتدئ الصلاة خلف إمام جالس فيجب الجلوس للحديث المتقدم . والله أعلم . ومن الناس من قال : هذا الصنيع والحديث المتقدم دليل على جواز القيام والجلوس وإن كلا منهما سائغ جائز ; الجلوس لما تقدم والقيام للفعل المتأخر . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية