صفحة جزء
[ ص: 61 ] فصل في كيفية احتضاره ووفاته عليه الصلاة والسلام

قال الإمام أحمد : ثنا أبو معاوية ، ثنا الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن الحارث بن سويد ، عن عبد الله ، هو ابن مسعود قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك ، فمسسته ، فقلت : يا رسول الله ، إنك لتوعك وعكا شديدا ! قال : " أجل ، إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم " قلت : إن لك أجرين ؟ قال : " نعم ، والذي نفسي بيده ، ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض ، فما سواه إلا حط الله عنه به خطاياه ، كما تحط الشجرة ورقها " وقد أخرجه البخاري ومسلم من طرق متعددة ، عن سليمان بن مهران الأعمش به .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي ، في " مسنده " : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، ثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل ، عن أبي [ ص: 62 ] سعيد الخدري قال : وضعت يدي على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر ، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله ، وإن كان الرجل ليبتلى بالعري حتى يأخذ العباءة ، فيجوبها ، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء " . فيه رجل مبهم ، لا يعرف بالكلية . فالله أعلم .

وقد روى البخاري ومسلم من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ، زاد مسلم : وجرير ، ثلاثتهم ، عن الأعمش ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي " صحيح البخاري " من حديث يزيد بن الهاد ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي ، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي الحديث الآخر الذي رواه ، في " صحيحه " قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 63 ] " أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل ، فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان ، في دينه صلابة شدد عليه ، في البلاء . .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، ثنا أبي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني سعيد بن عبيد بن السباق ، عن محمد بن أسامة بن زيد ، عن أبيه أسامة بن زيد قال : لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أصمت ، فلا يتكلم ، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يصبها علي ، أعرف أنه يدعو لي . ورواه الترمذي ، عن أبي كريب ، عن يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، وقال : حسن غريب .

وقال الإمام مالك ، في " موطئه " عن إسماعيل بن أبي حكيم ، أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول : كان من آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال : " قاتل الله اليهود والنصارى ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، لا يبقين دينان بأرض العرب " هكذا رواه مرسلا ، عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله .

وقد روى البخاري ومسلم من حديث الزهري ، عن عبيد الله بن [ ص: 64 ] عبد الله بن عتبة ، عن عائشة وابن عباس ، قالا : لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم كشفها عن وجهه ، فقال وهو كذلك : " لعنة الله على اليهود والنصارى ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا .

وقال الحافظ البيهقي : أنبأنا أبو بكر بن أبي رجاء الأديب ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، ثنا أحمد بن عبد الجبار ، ثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث : " أحسنوا الظن بالله " .

وفي بعض الأحاديث كما رواه مسلم من حديث الأعمش ، عن أبي سفيان طلحة بن نافع ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى " وفي الحديث الآخر : يقول الله تعالى " أنا عند ظن عبدي بي ، فليظن بي خيرا " .

وقال البيهقي : أنبأنا الحاكم ، حدثنا الأصم ، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني ، ثنا أبو خيثمة زهير بن حرب ، ثنا جرير عن سليمان التيمي ، عن قتادة ، عن أنس قال : كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت : " الصلاة وما ملكت أيمانكم " حتى جعل يغرغر بها في صدره ، وما [ ص: 65 ] يفيض بها لسانه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أسباط بن محمد ، ثنا التيمي ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت : " الصلاة وما ملكت أيمانكم " حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره ، وما يكاد يفيض بها لسانه . وقد رواه النسائي وابن ماجه من حديث سليمان بن طرخان ، وهو التيمي ، عن قتادة ، عن أنس به . وفي رواية للنسائي ، عن قتادة ، عن صاحب له ، عن أنس به .

وقال أحمد : ثنا بكر بن عيسى الراسبي ، ثنا عمر بن الفضل ، عن نعيم بن يزيد ، عن علي بن أبي طالب قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضل أمته من بعده . قال : فخشيت أن تفوتني نفسه . قال : قلت : إني أحفظ وأعي . قال : " أوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم " تفرد به أحمد من هذا الوجه .

وقال يعقوب بن سفيان : ثنا أبو النعمان محمد بن الفضل ، ثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن سفينة ، عن أم سلمة قالت : كان عامة وصية [ ص: 66 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته : " الصلاة الصلاة ، وما ملكت أيمانكم " حتى جعل يلجلجها في صدره ، وما يفيض بها لسانه . وهكذا رواه النسائي ، عن حميد بن مسعدة ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة أن سفينة حدث عن أم سلمة به . قال البيهقي : والصحيح ما رواه عفان ، عن همام ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن سفينة ، عن أم سلمة به . وهكذا رواه النسائي أيضا ، وابن ماجه من حديث يزيد بن هارون ، عن همام ، عن قتادة ، عن صالح أبي الخليل ، عن سفينة ، عن أم سلمة به .

وقال أحمد : ثنا يونس ، ثنا الليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن موسى بن سرجس ، عن القاسم ، عن عائشة قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت ، وعنده قدح فيه ماء ، فيدخل يده في القدح ، ثم يمسح وجهه بالماء ، ثم يقول " اللهم أعني على سكرات الموت " ورواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث الليث به ، وقال الترمذي : غريب

[ ص: 67 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، عن إسماعيل ، عن مصعب بن إسحاق بن طلحة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنه ليهون علي أني رأيت بياض كف عائشة ، في الجنة " تفرد به أحمد ، وإسناده لا بأس به ، وهذا دليل على شدة محبته ، عليه الصلاة والسلام ، لعائشة ، رضي الله عنها . وقد ذكر الناس معاني كثيرة في كثرة المحبة ، ولم يبلغ أحدهم هذا المبلغ ، وما ذاك إلا لأنهم يبالغون كلاما لا حقيقة له ، وهذا كلام حق لا محالة ولا شك فيه .

وقال حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة قال : قالت عائشة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في بيتي ، وتوفي بين سحري ونحري ، وكان جبريل يعوذه بدعاء إذا مرض ، فذهبت أدعو به ، فرفع بصره إلى السماء ، وقال : " في الرفيق الأعلى ، في الرفيق الأعلى " ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده جريدة رطبة ، فنظر إليها ، فظننت أن له بها حاجة . قالت ، فأخذتها فنفضتها فدفعتها إليه ، فاستن بها أحسن ما كان مستنا ، ثم ذهب يتناولها ، فسقطت من يده . قالت : فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة . ورواه البخاري ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد به .

وقال البيهقي : أنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني أبو نصر أحمد بن سهل [ ص: 68 ] الفقيه ببخارى ، ثنا صالح بن محمد الحافظ البغدادي ، ثنا داود بن عمرو بن زهير الضبي ، ثنا عيسى بن يونس ، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين ، أنا ابن أبي مليكة أن أبا عمرو ذكوان مولى عائشة ، أخبره أن عائشة كانت تقول : إن من نعمة الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في يومي ، وفي بيتي ، وبين سحري ونحري ، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت . قالت دخل علي أخي بسواك معه وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري فرأيته ينظر إليه ، وقد عرفت أنه يحب السواك ويألفه ، فقلت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه ; أي نعم . فلينته له ، فأمره على فيه . قالت : وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء ، فجعل يدخل يده في الماء ، فيمسح بها وجهه ، ثم يقول : " لا إله إلا الله ، إن للموت لسكرات " ثم نصب أصبعه اليسرى ، وجعل يقول : " في الرفيق الأعلى ، في الرفيق الأعلى " حتى قبض ، ومالت يده في الماء . ورواه البخاري عن محمد ، عن عيسى بن يونس .

وقال أبو داود الطيالسي : ثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، سمعت عروة يحدث ، عن عائشة قالت : كنا نحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة . قالت : فلما كان مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه عرضت [ ص: 69 ] له بحة . فسمعته يقول : " مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " قالت عائشة : فظننا أنه كان يخير . وأخرجاه من حديث شعبة به .

وقال الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم ، أن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح : " إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ، ثم يخير " قالت عائشة : فلما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ، ثم أفاق ، فأشخص بصره إلى سقف البيت ، وقال " اللهم الرفيق الأعلى " فعرفت أنه الحديث الذي كان حدثناه وهو صحيح : " إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير " قالت عائشة : فقلت : إذا لا تختارنا . قالت عائشة : كانت تلك الكلمة آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرفيق الأعلى " . أخرجاه من غير وجه ، عن الزهري به .

وقال سفيان ، هو الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي بردة ، عن عائشة قالت : أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حجري ، فجعلت أمسح وجهه ، وأدعو له بالشفاء ، فقال : " لا ، بل أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل " رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به .

وقال البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وغيره ، قالوا : ثنا أبو العباس [ ص: 70 ] الأصم ، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، ثنا أنس بن عياض ، عن هشام بن عروة ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، أن عائشة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها يقول " اللهم اغفر لي وارحمني ، وألحقني بالرفيق " أخرجاه من حديث هشام بن عروة .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عباد قال : سمعت عائشة تقول : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري وفي دولتي ، ولم أظلم فيه أحدا ، فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء ، وأضرب وجهي .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ، ثنا كثير بن زيد ، عن المطلب بن عبد الله قال : قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من نبي إلا تقبض نفسه ، ثم يرى الثواب ، ثم ترد إليه ، فيخير بين أن ترد إليه وبين أن يلحق " فكنت قد حفظت ذلك منه ، فإني لمسندته إلى صدري ، فنظرت إليه حين مالت عنقه ، فقلت : قد قضى ، فعرفت الذي قال ، فنظرت إليه [ ص: 71 ] حين ارتفع فنظر . قالت : قلت : إذا والله لا يختارنا ، فقال : " مع الرفيق الأعلى ، في الجنة " مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " تفرد به أحمد ، ولم يخرجوه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، أنبأنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه بين سحري ونحري . قالت : فلما خرجت نفسه لم أجد ريحا قط أطيب منها . وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة . ورواه البيهقي من حديث حنبل بن إسحاق ، عن عفان .

وقال البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، ثنا أبو العباس الأصم ، ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس بن أبي عروة ، عن أم سلمة قالت : وضعت يدي على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات ، فمرت بي جمع آكل وأتوضأ ، وما يذهب ريح المسك من يدي .

وقال أحمد : حدثنا عفان وبهز ، قالا : ثنا سليمان بن المغيرة ، ثنا حميد بن هلال ، عن أبي بردة قال : دخلت على عائشة ، فأخرجت إلينا إزارا غليظا [ ص: 72 ] مما صنع باليمن ، وكساء من التي يدعون الملبدة ، فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في هذين الثوبين . وقد رواه الجماعة إلا النسائي من طرق ، عن حميد بن هلال به . وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز ، ثنا حماد بن سلمة ، أنبأنا أبو عمران الجوني ، عن يزيد بن بابنوس قال : ذهبت أنا وصاحب لي إلى عائشة ، فاستأذنا عليها ، فألقت لنا وسادة ، وجذبت إليها الحجاب ، فقال صاحبي : يا أم المؤمنين ، ما تقولين في العراك ؟ قالت : وما العراك ؟ فضربت منكب صاحبي ، فقالت : مه آذيت أخاك . ثم قالت : ما العراك ! المحيض ، قولوا : ما قال الله ، عز وجل المحيض . ثم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوشحني وينال من رأسي ، وبيني وبينه ثوب وأنا حائض . ثم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر ببابي مما يلقي الكلمة ينفعني الله بها ، فمر ذات يوم ، فلم يقل شيئا ، ثم مر فلم يقل شيئا مرتين أو ثلاثا ، فقلت : يا جارية ، ضعي لي وسادة على الباب ، وعصبت رأسي فمر بي ، فقال : " يا عائشة ما شأنك ؟ " فقلت : أشتكي رأسي ، فقال " أنا ، وارأساه ! " فذهب فلم يلبث إلا يسيرا حتى جيء به محمولا في كساء ، فدخل علي ، وبعث إلى النساء ، فقال " إني قد اشتكيت ، [ ص: 73 ] وإني لا أستطيع أن أدور بينكن ، فأذن لي ، فلأكن عند عائشة " فكنت أمرضه ، ولم أمرض أحدا قبله ، فبينما رأسه ذات يوم على منكبي إذ مال رأسه نحو رأسي ، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة ، فخرجت من فيه نقطة باردة ، فوقعت على ثغرة نحري ، فاقشعر لها جلدي ، فظننت أنه غشي عليه ، فسجيته ثوبا ، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة ، فاستأذنا ، فأذنت لهما وجذبت إلي الحجاب ، فنظر عمر إليه ، فقال : واغشياه ! ما أشد غشي رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قاما ، فلما دنوا من الباب قال المغيرة : يا عمر ، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : كذبت بل أنت رجل تحوسك فتنة ; إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين . قالت : ثم جاء أبو بكر فرفعت الحجاب ، فنظر إليه ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أتاه من قبل رأسه ، فحدر فاه ، فقبل جبهته ثم قال : وانبياه ! ثم رفع رأسه ثم حدر فاه ، وقبل جبهته ، ثم قال : واصفياه ! ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبل جبهته ، وقال : واخليلاه ! مات رسول الله صلى الله عليه وسلم . فخرج إلى المسجد وعمر يخطب الناس ، ويتكلم ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين . فتكلم أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله تعالى يقول إنك ميت وإنهم ميتون [ الزمر : 30 ] . حتى فرغ من الآية . وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [ آل عمران : 144 ] . حتى فرغ من الآية ، ثم قال : [ ص: 74 ] فمن كان يعبد الله ، عز وجل ، فإن الله حي ، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، فقال عمر : وإنها لفي كتاب الله ؟ ! ما شعرت أنها في كتاب الله . ثم قال عمر : يا أيها الناس ، هذا أبو بكر ، وهو ذو شيبة المسلمين ، فبايعوه ، فبايعوه . وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، في " الشمائل " من حديث مرحوم بن عبد العزيز العطار ، عن أبي عمران الجوني به ببعضه .

وقال الحافظ البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو بكر بن إسحاق ، أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان ، ثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن عائشة أخبرته أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح ، حتى نزل فدخل المسجد ، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة ، فيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجى ببرد حبرة ، فكشف عن وجهه ، ثم أكب عليه فقبله ، ثم بكى ، ثم قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدا ، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها .

قال الزهري : وحدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر [ ص: 75 ] يكلم الناس . فقال : اجلس يا عمر . فأبى عمر أن يجلس ، فقال : اجلس يا عمر ، فأبى عمر أن يجلس ، فتشهد أبو بكر ، فأقبل الناس إليه ، فقال : أما بعد ، فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، قال الله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم الآية . قال : فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية ، حتى تلاها أبو بكر ، فتلقاها منه الناس كلهم ، فما سمع بشر من الناس إلا يتلوها .

قال الزهري : وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعرفت أنه الحق ، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي ، وحتى هويت إلى الأرض ، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات . ورواه البخاري عن يحيى بن بكير به .

وروى الحافظ البيهقي من طريق ابن لهيعة ، ثنا أبو الأسود ، عن عروة بن الزبير في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وقام عمر بن الخطاب يخطب الناس ويتوعد من قال : مات . بالقتل والقطع ، ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشيته لو قد قام قتل وقطع . وعمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم بن أم مكتوم في مؤخر المسجد يقرأ : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية . [ ص: 76 ] والناس في المسجد يبكون ، ويموجون لا يسمعون ، فخرج عباس بن عبد المطلب على الناس ، فقال : يا أيها الناس ، هل عند أحد منكم من عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في وفاته فليحدثنا ؟ قالوا : لا . قال : هل عندك يا عمر من علم ؟ قال : لا . فقال العباس : أشهد أيها الناس ، أن أحدا لا يشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهد عهده إليه في وفاته ، والله الذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت . قال : وأقبل أبو بكر ، رضي الله عنه ، من السنح على دابته حتى نزل بباب المسجد ، وأقبل مكروبا حزينا ، فاستأذن في بيت ابنته عائشة ، فأذنت له فدخل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي على الفراش والنسوة حوله ، فخمرن وجوههن ، واستترن من أبي بكر إلا ما كان من عائشة ، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحنى عليه يقبله ، ويبكي ويقول : ليس ما يقوله ابن الخطاب شيئا ، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ، رحمة الله عليك يا رسول الله ، ما أطيبك حيا وميتا . ثم غشاه بالثوب ، ثم خرج سريعا إلى المسجد يتخطى رقاب الناس ، حتى أتى المنبر ، وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلا إليه ، وقام أبو بكر إلى جانب المنبر ، ونادى الناس فجلسوا وأنصتوا ، فتشهد أبو بكر بما علمه من التشهد ، وقال : إن الله ، عز وجل ، نعى نبيه إلى نفسه وهو حي بين أظهركم ، ونعاكم إلى أنفسكم ، وهو الموت حتى لا يبقى أحد إلا الله ، عز وجل ، قال تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية . فقال عمر هذه الآية في القرآن ؟ ! والله ما علمت أن هذه الآية أنزلت قبل اليوم . [ ص: 77 ] وقد قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم إنك ميت وإنهم ميتون وقال الله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ القصص : 88 ] وقال تعالى كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ الرحمن : 27 ، 26 ] وقال كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [ آل عمران : 185 ] ثم قال : إن الله عمر محمدا صلى الله عليه وسلم وأبقاه حتى أقام دين الله ، وأظهر أمر الله ، وبلغ رسالة الله وجاهد في سبيل الله ، ثم توفاه الله على ذلك ، وقد ترككم على الطريقة ، فلن يهلك هالك إلا من بعد البينة والشفاء ، فمن كان الله ربه ، فإن الله حي لا يموت ، ومن كان يعبد محمدا وينزله إلها فقد هلك إلهه ، فاتقوا الله أيها الناس ، واعتصموا بدينكم ، وتوكلوا على ربكم ، فإن دين الله قائم ، وإن كلمة الله تامة ، وإن الله ناصر من نصره ، ومعز دينه ، وإن كتاب الله بين أظهرنا ، وهو النور والشفاء ، وبه هدى الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، وفيه حلال الله وحرامه ، والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله ، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد ، ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يبقين أحد إلا على نفسه . ثم انصرف ، وانصرف معه المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذكر الحديث في غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه .

قلت : كما سنذكره مفصلا بدلائله وشواهده . إن شاء الله تعالى .

وذكر الواقدي عن شيوخه ، قالوا : ولما شك في موت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال [ ص: 78 ] بعضهم : مات . وقال بعضهم : لم يمت . وضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت : قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد رفع الخاتم من بين كتفيه . فكان هذا الذي قد عرف به موته . هكذا رواه الحافظ البيهقي في كتابه " دلائل النبوة " من طريق الواقدي ، وهو ضعيف ، وشيوخه لم يسموا ، ثم هو منقطع بكل حال ، ومخالف لما صح ، وفيه غرابة شديدة ، وهو رفع الخاتم . فالله أعلم بالصواب . وقد ذكر الواقدي وغيره في الوفاة أخبارا كثيرة فيها نكارات وغرابة شديدة ، أضربنا عن أكثرها صفحا ; لضعف أسانيدها ونكارة متونها ، ولا سيما ما يورده كثير من القصاص المتأخرين وغيرهم ، فكثير منه موضوع لا محالة ، وفي الأحاديث الصحيحة والحسنة والمروية في الكتب المشهورة غنية عن الأكاذيب وما لا يعرف سنده . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية