صفحة جزء
فصل في ذكر سراريه عليه الصلاة والسلام

كانت له عليه الصلاة والسلام سريتان إحداهما ، مارية بنت شمعون القبطية ، أهداها له صاحب إسكندرية ، واسمه جريج بن مينا ، وأهدى معها أختها سيرين - وذكر أبو نعيم أنه أهداها في أربع جوار . والله أعلم - [ ص: 228 ] وغلاما خصيا اسمه مأبور ، وبغلة يقال لها : الدلدل . فقبل هديته واختار لنفسه مارية ، وكانت من قرية ببلاد مصر يقال لها : حفن . من كورة أنصنا ، وقد وضع عن أهل هذه البلدة معاوية بن أبي سفيان في أيام إمارته الخراج ; إكراما لها من أجل أنها حملت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بولد ذكر ، وهو إبراهيم عليه السلام . قالوا : وكانت مارية جميلة بيضاء أعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحبها وحظيت عنده ، ولا سيما بعد ما وضعت إبراهيم ولده . وأما أختها سيرين فوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت فولدت له ابنه عبد الرحمن بن حسان ، وأما الغلام الخصي ، وهو مأبور ، فقد كان يدخل على مارية وسيرين بلا إذن كما جرت به عادته بمصر ، فتكلم بعض الناس فيها بسبب ذلك ، ولم يشعروا أنه خصي حتى انكشف الحال ، على ما سنبينه قريبا ، إن شاء الله تعالى . وأما البغلة فكان عليه الصلاة والسلام يركبها ، والظاهر ، والله أعلم ، أنها التي كان راكبها يوم حنين . وقد تأخرت هذه البغلة ، وطالت مدتها حتى كانت عند علي بن أبي طالب في أيام إمارته ، ومات ، فصارت إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وكبرت حتى كان يجش لها الشعير لتأكله .

قال أبو بكر بن خزيمة : حدثنا محمد بن زياد بن عبيد الله ، أنبأنا سفيان بن عيينة ، عن بشير بن المهاجر ، عن عبد الله بن بريدة بن الحصيب ، عن أبيه قال : أهدى أمير القبط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريتين أختين ، وبغلة فكان يركب [ ص: 229 ] البغلة بالمدينة ، واتخذ إحدى الجاريتين ، فولدت له إبراهيم ابنه ، ووهب الأخرى .

وقال الواقدي : حدثنا يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجب بمارية القبطية ، وكانت بيضاء جعدة جميلة فأنزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأختها على أم سليم بنت ملحان فدخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإسلام فأسلمتا هناك ، فوطئ مارية بالملك ، وحولها إلى مال له بالعالية كان من أموال بني النضير ، فكانت فيه في الصيف ، وفي خرافة النخل ، فكان يأتيها هناك ، وكانت حسنة الدين ، ووهب أختها سيرين لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن ، وولدت مارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما سماه إبراهيم ، وعق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة يوم سابعه ، وحلق رأسه ، وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين ، وأمر بشعره فدفن في الأرض ، وسماه إبراهيم ، وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته بأنها قد ولدت غلاما ، فجاء أبو رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبشره ، فوهب له عبدا ، وغار نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد عليهن حين رزق منها الولد .

وروى الحافظ أبو الحسن الدارقطني ، عن أبي عبيد القاسم بن إسماعيل ، [ ص: 230 ] عن زياد بن أيوب ، عن سعيد بن زكريا المدائني ، عن ابن أبي سارة ، عن ابن أبي الحسين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما ولدت مارية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعتقها ولدها " ثم قال الدارقطني : تفرد به زياد بن أيوب وهو ثقة . وقد رواه ابن ماجه من حديث حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن عكرمة ، عن ابن عباس بمثله . ورويناه من وجه آخر . وقد أفردنا لهذه المسألة ، وهي بيع أمهات الأولاد ، مصنفا مفردا على حدته ، وحكينا فيه أقوال العلماء بما حاصله يرجع إلى ثمانية أقوال ، وذكرنا مستند كل قول ، ولله الحمد والمنة .

وقال يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، عن إبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب ، عن أبيه ، عن جده علي بن أبي طالب قال : أكثروا على مارية أم إبراهيم في قبطي ابن عم لها يزورها ويختلف إليها فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " خذ هذا السيف فانطلق فإن وجدته عندها فاقتله " قال : قلت : يا رسول الله أكون في أمرك إذا أرسلتني كالشكة المحماة لا يثنيني شيء حتى أمضي لما أمرتني به ، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب " فأقبلت متوشحا السيف ، فوجدته [ ص: 231 ] عندها ، فاخترطت السيف فلما رآني عرف أني أريده ، فأتى نخلة فرقي فيها ، ثم رمى بنفسه على قفاه ، ثم شال رجليه ، فإذا به أجب أمسح ما له مما للرجال قليل ولا كثير ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال " الحمد لله الذي صرف عنا أهل البيت " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، ثنا سفيان ، حدثني محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ، عن علي قال : قلت : يا رسول الله إذا بعثتني أكون كالسكة المحماة ، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ قال " الشاهد يرى ما لا يرى الغائب " هكذا رواه مختصرا . وهو أصل الحديث الذي أوردناه ، وإسناده رجال ثقات .

وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، وعقيل ، عن الزهري ، عن أنس قال : لما ولدت مارية إبراهيم ، كاد أن يقع في النبي صلى الله عليه وسلم منه شيء حتى نزل جبريل عليه السلام ، فقال : السلام عليك يا أبا إبراهيم .

وقال أبو نعيم : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم ، حدثنا محمد بن يحيى الباهلي ، حدثنا يعقوب بن محمد ، عن رجل سماه ، [ ص: 232 ] عن الليث بن سعد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : أهدى ملك من بطارقة الروم يقال له : المقوقس جارية قبطية من بنات الملوك يقال لها مارية إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وأهدى معها ابن عم لها شابا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ذات يوم مدخل خلوة فأصابها فحملت بإبراهيم . قالت عائشة : فلما استبان حملها جزعت من ذلك ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن لها لبن ، فاشترى لها ضأنة لبونا تغذي منها الصبي ، فصلح عليه جسمه وحسن لونه ، وصفا لونه ، فجاء به ذات يوم يحمله على عنقه فقال : " يا عائشة كيف ترين الشبه ؟ " فقلت وأنا غيرى : ما أرى شبها . فقال : " ولا اللحم " فقلت : لعمري ، من تغذى بألبان الضأن ليحسن لحمه .

قال الواقدي : ماتت مارية في المحرم سنة ست عشرة ، فصلى عليها [ ص: 233 ] عمر ، ودفنها في البقيع . وكذا قال المفضل بن غسان الغلابي . وقال خليفة وأبو عبيد ويعقوب بن سفيان : ماتت سنة ست عشرة رحمها الله .

ومنهن ريحانة بنت زيد ، من بني النضير ، ويقال : من بني قريظة . قال الواقدي : كانت ريحانة بنت زيد من بني النضير ، وكانت مزوجة في بني قريظة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذها لنفسه صفيا ، وكانت جميلة فعرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسلم ، فأبت إلا اليهودية ، فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجد في نفسه ، فأرسل إلى ابن سعية ، فذكر له ذلك ، فقال ابن سعية : فداك أبي وأمي ، هي تسلم . فخرج حتى جاءها فجعل يقول لها : لا تتبعي قومك ، فقد رأيت ما أدخل عليهم حيي بن أخطب ، فأسلمي يصطفيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه . فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ سمع وقع نعلين فقال : " إن هاتين لنعلا ابن سعية يبشرني بإسلام ريحانة " فجاءه فقال : يا رسول الله ، قد أسلمت [ ص: 234 ] ريحانة . فسر بذلك .

وقال محمد ابن إسحاق لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة اصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خنافة ، فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه ، وكان عرض عليها الإسلام ويتزوجها ، فأبت إلا اليهودية . ثم ذكر من إسلامها ما تقدم .

قال الواقدي : فحدثني عبد الملك بن سليمان ، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أيوب بن بشير المعاوي قال : فأرسل بها رسول الله إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر ، فكانت عندها حتى حاضت حيضة ، ثم طهرت من حيضها ، فجاءت أم المنذر فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءها في منزل أم المنذر ، فقال لها : " إن أحببت أن أعتقك ، وأتزوجك فعلت ، وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطؤك بالملك فعلت " فقالت : يا رسول الله إنه أخف عليك وعلي أن أكون في ملكك . فكانت في ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطؤها حتى ماتت .

قال الواقدي : وحدثني ابن أبي ذئب قال : سألت الزهري عن ريحانة فقال : كانت أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها ، فكانت تحتجب في أهلها ، وتقول : لا يراني أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الواقدي : وهذا أثبت الحديثين عندنا ، وكان زوجها قبله عليه الصلاة والسلام الحكم .

[ ص: 235 ] وقال الواقدي : ثنا عاصم بن عبد الله بن الحكم ، عن عمر بن الحكم قال : أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة ، وكانت عند زوج لها ، وكان محبا لها مكرما فقالت : لا أستخلف بعده أحدا أبدا . وكانت ذات جمال فلما سبيتبنو قريظة عرض السبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : فكنت فيمن عرض عليه ، فأمر بي فعزلت ، وكان يكون له صفي في كل غنيمة ، فلما عزلت خار الله لي ، فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياما حتى قتل الأسرى وفرق السبي ، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحييت منه حياء ، فدعاني فأجلسني بين يديه ، فقال : " إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه " فقلت إني أختار الله ورسوله . فلما أسلمت أعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتزوجني ، وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ونشا ، كما كان يصدق نساءه ، وأعرس بي في بيت أم المنذر ، وكان يقسم لي كما يقسم لنسائه ، وضرب علي الحجاب . قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معجبا بها ، وكانت لا تسأله شيئا إلا أعطاها فقيل لها : لو كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة لأعتقهم . وكانت تقول : لم يخل بي حتى فرق السبي . ولقد كان يخلو بها ويستكثر منها ، فلم تزل عنده حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع ، فدفنها بالبقيع ، وكان تزويجه إياها في المحرم سنة ست من الهجرة .

وقال ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري قال : واستسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحانة من بني قريظة ، ثم أعتقها فلحقت بأهلها .

[ ص: 236 ] وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : كانت ريحانة بنت زيد بن شمعون من بني النضير ، وقال بعضهم : من بني قريظة ، وكانت تكون في نخل من نخل الصدقة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيل عندها أحيانا ، وكان سباها في شوال سنة أربع .

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : ثنا أحمد ابن المقدام ، ثنا زهير ، عن سعيد ، عن قتادة قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليدتان مارية القبطية ، وربيحة أو ريحانة بنت شمعون بن زيد بن خنافة من بني عمرو بن قريظة ، كانت عند ابن عم لها يقال له : عبد الحكم فيما بلغني ، وماتت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ولائد ; مارية القبطية ، وريحانة القرظية ، وكانت له جارية أخرى جميلة فكادها نساؤه وخفن أن تغلبهن عليه ، وكانت له جارية نفيسة وهبتها له زينب بنت جحش ، وكان هجرها في شأن صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفرا ، فلما كان شهر ربيع الأول الذي قبض فيه عليه الصلاة والسلام ، رضي عن زينب ودخل عليها ، فقالت : ما أدري ما أجزيك ؟ فوهبتها له صلى الله عليه وسلم .

وقد روى سيف بن عمر ، عن سعيد بن عبد الله ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يقسم لمارية وريحانة مرة ، ويتركهما مرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية